في كتابه الشهير «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، دوّن المؤرخ المصري محمد بن إياس الحنفي وقائع دخول القوات العثمانية مصر-بقيادة السلطان سليم الأول- واصطدامها أكثر من مرة بمقاومة المماليك والمصريين بقيادة السلطان المملوكي طومان باي، ثم فرض العثمانيين سيطرتهم على هذا البلد وضمه رسميًا لدولتهم الكبرى في العام 1517م.

وتعد شهادة ابن إياس من أهم ما كُتِبَ في هذا الشأن نظرًا لمعاصرته تلك الأحداث الخطيرة وتبعاتها، ولهذا رأيتُ عرض أهم ما ورد بها في هذا المقال، مبتدئًا بتجاوز العثمانيين حدود غزة إلى «الديار المصرية»، انتهاءً بإعدام طومان باي شنقًا على باب زويلة. مع التزام نفس تسلسل الأحداث الوارد بالكتاب، وتأريخ كاتبه الوقائع بالتقويم الهجري كعادة كُتّاب عصره.


العثمانيون يجتازون الحدود وصولًا إلى القاهرة

في الثاني عشر من ذي الحجة 922هـ، وصلت إلى القاهرة أنباء اجتياز العثمانيين حدود مصر مع غزة وبلوغهم العريش، فابتدأ طومان باي بحفر الخنادق حول القاهرة وإقامة التحصينات ونصب المدافع، وقام بنقل السوق إلى بقعة آمنة ليشتري الجند المؤن استعدادًا لمواجهة الغزاة. كما أعلن التعبئة سواء بين أولاد البلد من العوام، أو المماليك السلطانية الذين عانى السلطان تقاعسهم عن المرابطة حول التحصينات.

وصارت أخبار تقدم جند العثمانيين تصل إلى السلطان وهو يحث رجاله على الخروج لملاقاتهم خارج العاصمة، لكنهم رفضوا ذلك وتمسكوا بانتظار وصول الجيش العثماني إليهم لمواجهته. حتى بلغ العثمانيون بلبيس والشرقية-التي هاجر أهلها للقاهرة خوفًا من مداهمة الغزاة لهم-فاضطر طومان باي لحرق مخازن الغلال المحيطة ببلبيس كيلا ينتفع جيش السلطان سليم بها.

أثناء ذلك كان العربان يغيرون أحيانًا على الغزاة فيختطفون بعض جنودهم ويقطعون رؤوسهم ثم يرسلونها إلى القاهرة، لتعلق بأبوابها في محاولة لرفع معنويات الأهالي.

ويسجل ابن إياس محاولة عثمانية لاغتيال طومان باي، حيث دخل عليه خيمته شخص ملثم مسلح، فقبضه الجنود ليكتشفوا أنه امرأة تركمانية متأهبة بخنجر تحت ثيابها، فقتلوها وعلقوا جثتها الممزقة مع رؤوس العثمانيين. وفي 28 من ذي الحجة، بلغ العثمانيون منطقة بركة الحاج شمال القاهرة، فاضطربت القاهرة وأغلقت أبوابها الرئيسية واستعد الجيش المصري للمواجهة.


معركة الريدانية

احتشد الجيش المصري عند الجبل الأحمر مستعدًا لقتال يطول أمره -حسبما كان يظن طومان باي- ولكن القدر كان له رأي آخر. فعندما بلغ «عسكر ابن عثمان» نقطة الالتقاء، اندلعت معركة رهيبة استبسل فيها المماليك حتى كانت لهم الغلبة أولًا على العثمانيين الذين فقدوا في تلك المعركة وزيرهم الأول سنان باشا قتيلًا، وبدت الكفة المملوكية هي الراجحة في أول الأمر.

ولكن الجيش العثماني سرعان ما استجمع نفسه ولملم شتاته وانقسم إلى فرقتين، هاجمت الأولى منهما معسكر طومان باي بالريدانية بالرصاص فقتلت أعدادًا كبيرة من قادة فرقه، وأصابت أتابك العسكر المصري بجروح بالغة وكسر في فخده ففر هاربًا ، بينما التفّت الأخرى من عند الجبل الأحمر وباغتت الجيش المصري الذي انهزم وتقهقر أفراده منسحبين ليبقى السلطان طومان باي ثابتًا في ميدان القتال مع قلة من جنده، ثم خشي أن يؤسر فانسحب فارًا إلى منطقة طرة.

واندفع العثمانيون إلى معسكر طومان باي وتحصيناته يجتاحونها وينهبونها ويغنمون مدافعها، ثم انقضوا على القاهرة يجتاحونها بلا رحمة.


العثمانيون في القاهرة

دخلت «جماعة من العثمانية» إلى القاهرة فارضة السيطرة عليها «وقد ملكوها بالسيف»، فتوجهت أولًا إلى السجون تطلق من فيها رغبة في إطلاق سراح بعض أسرى العثمانيين -كانوا غالبًا من المتواجدين في الأراضي المصرية للتجارة عند اندلاع الحرب-، ثم هاجم العثمانيون بيوت الأمراء والأعيان ينهبونها، ويبدو أن بعض العناصر الإجرامية من عامة القاهريين قد استغلت تلك الفوضى «فصار الزعر والغلمان ينهبون البيوت في حجة العثمانية، فانطلق في أهل مصر جمرة نار».

ثم توجه الجند العثمانيون إلى الطواحين يستولون على البغال، وعلى جمال السقايين، بل وطال الخطف جماعة من الأطفال والعبيد السود، و«استمر النهب عمّالًا في ذلك اليوم إلى بعد المغرب»، وأخيرًا هاجموا شون القمح ببولاق واستولوا على ما بها من غلال.

ويسجل ابن إياس قول أحد شهود تلك الحوادث في أبيات جاء بها:

نبكي على مصر وسكانها :: قد خربت أركانها العامرة وأصبحت بالذل مقهورة :: من بعد ما كانت هي القاهرة

آخر الخلفاء يدخل القاهرة تحت ظل العثمانيين

في الجمعة الأخيرة من العام 922هـ، دخل الخليفة المتوكل على الله الذي كان قد وقع في أسر سليم الأول بعد هزيمة الجيش المملوكي في الشام – القاهرة ومعه كبار رجال الدولة العثمانيين وقضاة المذاهب الأربعة المصريين الذين كانوا قد أُُسروا مع الخليفة، وبصحبتهم الأمير المملوكي خاير بك حاكم حلب السابق الذي كان قد خان المماليك لصالح العثمانيين وانسحب بجنده من موقعة مرج دابق بالشام طمعًا في المكافأة العثمانية.

ونودي في الموكب الخليفتي بالأمان لأهل مصر وباستمرار حركة البيع والشراء، كما نودي بالأمر للجند العثماني «أن لا أحد يشوش على أحد من الرعية» – وهو الأمر الذي لم ينفذ – كما نودي بالإبلاغ عن أي مملوك جركسي مختبئ وأن «من لا يغمز عليه [يبلغ عنه]، شنق على باب داره».

وعلى منابر القاهرة ارتفع الدعاء – بأمر السلطات العثمانية – للسلطان سليم العثماني بأن «انصر اللهم السلطان بن السلطان، مالك البرين والبحرين، وكاسر الجيشين، وسلطان العراقين-وخادم الحرمين الشريفين، الملك المظفر سليم شاه». وبهذا تنتهي أحداث العام 922هـ التي يذيلها ابن إياس بقوله: «خُتِمَ العام بحرب وكدر.. وحصل للناس غايات الضرر.. وأتاهم حادث من ربهم.. كان هذا بقضاء وقدر».


مطاردة العثمانيين للمماليك وما وقع في خضم ذلك من جرائم

ويستهل المؤرخ أحداث العام 923هـ بتدوين وقائع مطاردة العثمانيين للمماليك وانتهاكاتهم بحق المصريين. فيذكر القبض على أتابك العسكر المصري الفار من الريدانية والتنكيل به ثم قتله، ثم مداهمة الجند للمدافن والحارات والاصطبلات بحثًا عمن اختبأ بها من المماليك وقتلهم إياهم، بل وقتلهم من يشتبهون أنه منهم، حتى قتل في تلك الواقعة بعض الأشراف ظلمًا. ولما تكاثرت رؤوس القتلى نصب العثمانيون أعمدة علقوها عليها.

وبينما كان السلطان العثماني سليم يعين الموظفين من قبله لحصر ثروات البلاد، كان جنوده يستوقفون كل من يشتبهون به قائلين: «أنت جركسي»، فيقطعون رأسه أو يقولون له: «اشتر نفسك منا من القتل بشيء»، فيدفع لهم من المال ما يفتدي به نفسه. كما داهموا بيوت السيدات النبيلات من العهد المملوكي البائد يستولون على ثرواتهن النقدية والعينية.


سليم الأول يشق بموكبه القاهرة وابن إياس يصفه

في الثالث من محرم 923هـ، شق سليم الأول القاهرة من باب النصر بموكب عظيم وصولًا إلى بولاق حيث أقام معسكره. ويصفه ابن إياس قائلا:

ويذكر المؤرخ قول سليم حين كان في معسكره قبل دخول القاهرة: «غدًا أدخل مصر فأحرق بيوتها وألعب بالسيف في أهلها».


طومان باي يهاجم العثمانيين

في الخامس من محرم، بعد صلاة العشاء، باغت طومان باي بقواته معسكر سليم، وكان مع طومان باي العوام يرمون العثمانيين بالحجارة. فانسحب العثمانيون من مساحات واسعة، وسيطر المماليك على القاهرة جزئيًا وصاروا «يكبسون الحارات في طلب العثمانية»، ونادى طومان باي أن من قتل عثمانيًا فله ثيابه وسلاحه على أن يحضر رأسه للمعسكر. ثم كر العثمانيون على المماليك فطردوهم من الجزيرة الوسطى بالنيل ومن بولاق، وشنوا هجمة انتقامية على إحدى الزوايا في منطقة الناصرية، وأوقعوا بمن بها من العامة مذبحة مروعة.

وحاول طومان باي أن يتحصن بقواته في بعض الجوامع الكبيرة، ولكن رجاله كانوا ينسحبون خوفًا من مداهمة الجند العثماني لهم. وبالفعل داهم العثمانيون المساجد وسيطروا على منطقة مصر العتيقة واقتحموا ضريح السيدة نفيسة وداسوا قبرها ونهبوا ما به، ثم توجهوا لمسجد المؤيد واعتلى قناصتهم مئذنته وفتحوا منها الرصاص على الأهالي لمنعهم من اقتحام باب زويلة لمساعدة طومان باي ورجاله، حتى صعد هؤلاء الأخارى إلى المئذنة وقتلوا من بها من قناصة.

وخلال تلك الواقعة عاد الدعاء لطومان باي سلطان المماليك يرتفع من على المنابر القاهرية، ولكن سرعان ما تسبب تخاذل جنوده عنه في انهزامه أمام العثمانيين مجددًا ليضطر إلى الانسحاب من القاهرة التي تملكها سليم الأول مرة ثانية بعد ثلاثة أيام دامية. واندفع جنود الجيش العثماني يعيثون في القاهرة ويحرقون المساجد التي كان المماليك يتحصنون بها ويقتلون من يقابلون من الأهالي حتى عدد ابن إياس من قتلوا في تلك الواقعة بنحو العشرة آلاف!

ثم داهموا الجامع الأزهر ومسجد الحاكم بأمر الله وجامع أحمد بن طولون وعدة من المساجد والمزارات يفتشون فيها عن المماليك، وتكررت مشاهد كبس الحارات والبيوت وترويع الأهالي وقتلهم ظلمًا. وكان من يؤسَر، يؤخَذ لمعسكر سليم حيث يتم قطع رأسه وإلقاء جثته في النيل.

ويسهب ابن إياس في سرد تلك المذابح المروعة ثم يشبهها بواقعة غزو الملك البابلي نبوخذ نصر لمصر في العصور القديمة، وباجتياح هولاكو بغداد سابقًا. وأخيرًا، يعلن السلطان سليم الأول الأمان وإيقاف القتال، وإن لم يتوقف – بطبيعة الحال – اعتداء جنوده على العوام وسرقتهم و«تشليح ثيابهم» و«سرقة عمائمهم» في الطريق.


مناورة طومان باي لسليم الأول

بينما كان السلطان العثماني ينظم شئون ولايته الجديدة وصلت الأخبار بأن طومان باي قد توجه إلى الصعيد، وكان سليم العثماني قد نادى بالأمان للأمراء المماليك إن سلموا أنفسهم، فتوجه له نحو 54 منهم فجمعهم ووبخهم لمقاومته وأغلظ لهم وبصق في وجوههم ثم أمر بحبسهم في القلعة.

في هذا الوقت وصلت لمعسكر سليم مراسلة من طومان باي يطلب منه الأمان. فأعد السلطان سفارة من بعض القضاة المصريين السابقين لإرسالها إليه بإجابة طلبه. وكانت هذه على ما يبدو مناورة من طومان باي الذي كان يراسل بعض رجاله السابقين يحرضهم على الانضمام له. وفي نفس الوقت، عاد يراسل سليم الأول ويعرض عليه أن يصالحه فيعود طومان باي للحكم لكن تحت سلطة العثمانيين كنائب عنهم، أو يخرجوا إليه في الجيزة فيواجهونه في معركة فاصلة يقضي فيها الله لمن يشاء، وختم رسالته بتأكيده أنه لا يعرض ذلك خوفًا من القتال ولا خشية على نفسه ولكن «الصلح أصلح إلى صون دماء المسلمين»، وكانت الأحداث المتعاقبة قد تسببت في مجاعة في القاهرة وشاع أن طومان باي يمنع سفن الغلال من التوجه إلى القاهرة من الصعيد حيث يختبئ، فمال سليم لإجابة مبادرته وأرسل إليه السفارة المعدة سالفة الذكر.

ولكن سرعان ما وصلت أنباء مهاجمة بعض العربان والجند المماليك لتلك السفارة وقتلهم بعض رجالها. فحمّل العثماني مسئولية ذلك على طومان باي وسحب موافقته على الأمان. وبدا واضحًا أن تلك المراسلات لم تكن بالفعل سوى مناورة من طومان باي لإعطاء نفسه وقتًا ينظم فيه صفه. ففي الثامن والعشرين من صفر، بلغت العثمانيين أنباء وصول طليعة قوات طومان باي إلى الجيزة. فاشتعل غضب سليم وبادر إلى إعدام الأمراء المماليك المحبوسين بالقلعة وألقى جثثهم بالشوارع حتى اضطررت زوجات بعضهم لرشوة الجلادين لإعطائهن جثث أزواجهن لدفنها.

وفي العاشر من ربيع الأول بلغت قوات كل من سليم وطومان باي الجيزة لتندلع المعركة الأخيرة التي كانت الغلبة في أولها للمماليك ولكنهم انهاروا أمام ضربات العثمانيين الذين أمطروا الجند المماليك بوابل من رصاص بنادقهم، فكانت الهزيمة وفرار طومان باي إلى البحيرة. وشق العثمانيون القاهرة بموكب النصر وفي مقدمته رؤوس القتلى من جيش طومان باي من مماليك وعربان.


المشهد الأخير: أسر طومان باي وإعدامه

فر طومان باي إلى البحيرة حيث لجأ لصديقه الشيخ حسن بن مرعي – من عربان البحيرة – الذي أقسم له سبع مرات على المصحف أنه لا يسلمه لعدوه، وكان طومان باي قد أنقذه يومًا من حبس السلطان السابق قنصوة الغوري، فتوقع أن يذكرها الشيخ له. ولكن ابن مرعي سرعان ما غدر بضيفه وأبلغ العثمانيين عنه، فأرسلوا قوة قبضته وحملته للسلطان سليم الذي أبقاه في أسره لمدة سبعة عشر يومًا. وكان يشاع أنه ينفيه إلى مكة، بل وشاع أنه قد يجعله نائبًا عنه على مصر.

لكنّ أيًا من هذا لم يتحقق، فبعد انقضاء المدة المذكورة أخرجه الجند من محبسه وساروا به إلى باب زويلة «وهو لا يدري ما يصنع به». وبقي يمشي وهو يلقي السلام على الناس الذين احتشدوا بأمر العثمانيين، حتى بلغ الباب فرأى مشنقة منصوبة فأدرك مصيره، فالتفت للناس وطلب منهم أن يقرأوا له الفاتحة ثلاث مرات، ثم قرأها معهم وقال للجلاد: «اعمل شغلك». وشنقوه بعد أن انقطع حبل مشنقته مرتين.

ويختم ابن إياس وصفه المؤثر لهذا المشهد بقوله: «فلما شنق وطلعت روحه صرخ عليه الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف». ثم راح يعدد محاسن السلطان المملوكي الأخير الذي كان في بدايات أربعينات عمره ولم يشنق من قبل سلطان غيره على باب زويلة.


ختامًا

ذري اللون، حليق الذقن، وافر الأنف، واسع العينين، قصير القامة، في ظهره حَنية، عنده خفة ورهج، كثير التلفت إذا ركب الفرس، له من العمر نحو أربعين سنة أو دون ذلك، وليس له نظام يُعرَف مثل الملوك السالفة، غير أنه سيئ الخلق سفّاك للدماء شديد الغضب لا يراجَع في قول.

القارئ لكتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس يدرك مدى تأثره عاطفيًا بتلك الأحداث، فبين صفحات هذا الكتاب وما جاء به من أحداث مختلفة منها المثير والخطير، كانت المقاطع التي وصف بها ابن إياس غزو العثمانيين لبلاده وما جرى حتى إعدام طومان باي هي الأكثر احتشادًا بالانفعلات والأكثر إسهابًا لـ «فظائع الأمور».

وربما كان هذا ما جعل لشهادة ابن إياس على تلك الوقائع مكانة بارزة بين مختلف الشهادات، حيث إنها لم تنقل الأحداث فحسب، بل نقلت معها مشاعر وانفعالات المصريين في ذلك الوقت حتى لكأن القارئ نفسه يحسها.