ما أن يأتي ذِكر تجاور المسلمين والمسيحيين في الأندلس، فإن الذاكرة، في غالب الأحيان، لن تستدعي إلا معارك دامية وصراعات مُروِّعة تكسَّرت فيها النصال على النصال، وقتل فيها الرجالُ الرجالَ رغبة في اقتلاعهم عن دينهم وأرضهم.

لا يُمكننا اتِّهام هذا الرأي بالمُبالغة، فشبه الجزيرة الإيبرية شهدت عقودًا من القتال المرير بين الطائفتين على الأرض الأوروبية راح ضحيته ألوف البشر، ولم ينتهِ إلا برحيل آخر مركب حملت آخر مسلم من غرناطة إلى المغرب.

ولكن هذا التاريخ المُعمَّد بالدم لم يمنع وجود لحظات صفاء نادرة وتاريخية استراح فيها الجانبان وكفَّا عن القتال قليلًا، وخاضا نقاشات من نور عن الفلسفة والدين والله، التقى فيها العقلان العربي والأوروبي، لأول مرة، راغبين في تبادل الخبرات والمعارف بعيدًا عن رغبات القتل والذبح وسفك الدماء.

جسَّد كتاب «المسائل الصقلية» واحدًا من أبرز هذه اللحظات، فواضعه  فيلسوف مُسلم عظيم الأهمية هو ابن سبعين الأندلسي، ويُجيب فيه عن تساؤلات وردت إليه من نفسٍ حائرة وعقلٍ لا يكف عن الاستفسار، وهو إمبراطور صقلية النصراني فريدريك الثاني، وأكثر ما يجمع بين الفردين هو أن سعيهما الحميم وراء المعرفة كان سببًا في تكفير كل واحدٍ منهما عن دينه.

فما قصة هذا الكتاب؟

الراسل: إمبراطور رومي وقع في غرام الحكمة العربية

مثلت هذه الأسئلة مثالًا غير عادي عن الاتصال بين الثقافات، بين الشرق والغرب.
جيوسيب ماندالا – باحث في المعهد الإسباني للدراسات الوطنية

هو فريدريك (فريدريش) الثاني فون هوهنشتاوفن Frederick II von Hohenstaufen  ملك ألمانيا (1212-1250) وقيصر الإمبراطورية الرومانية المقدسة (1220-1250) وملك القدس والصقليتين (1229-1250).

وتروي كُتب التاريخ العربية، أن فريدريك حذَّر الملك الكامل سُلطان مصر الأيوبي من الحملة الصليبية الخامسة، التي تزعمها الملك الفرنسي لويس التاسع عشر، وانتهت الحملة بهزيمة الأوروبيين وأسر ملك فرنسا.

بعدها ضغط عليه بابا الفاتيكان من أجل شنِّ حملة صليبية جديدة على أراضي المشرق الإسلامي، فلم يبدِ حماسًا كبيرًا لدرجة دفعت بابا الفاتيكان إلى مهاجمته واعتبار أنه «ليس صليبيًّا»، فحرمه من رحمة الكنيسة وأطلق عليه لقب «خادم محمد».

في النهاية، أذعن فريدريك للبابا، وقاد الحملة الصليبية السادسة، والتي نجح فيها بالظفر بالقدس وتوَّج نفسه ملكًا عليها، دون خوض عمليات قتالية كبيرة بعدما سلَّمه السلطان الكامل في مصر الأراضي المقدسة مقابل أن يُعينه في صراعه على عرش مصر ضد أخيه السلطان المعظَّم عيسى صاحب دمشق،  وخلال هذه الحملات الصليبة اطَّلع فريدريك على ثقافة المشرق وآدابها فأُغرم بها.

وزعمت كارين أرمسترونج الباحثة البريطانية في تاريخ الأديان، أن الإمبراطور الروماني كان يجد من الانتماء النفسي الحقيقي في العالم الإسلامي أكثر مما يجده في أوروبا المسيحية.

بعد عودته خاض فريدريك صراعًا عسكريًّا مع البابا، تزامَن هذا مع أبداه من إعجابٍ كبيرٍ بالثقافة الإسلامية حتى إن كافة حُراسه الشخصيين كانوا من العرب، كما ذاع صيت غرامه بالفلسفة العربية ورغبته المستمرة في القراءة فيها والسؤال عن تفاصيلها وإتقانه للغة العربية وبذله الأموال على العلماء في العراق وسوريا، ما جلب عليه سخط رجال الدين المسيحيين عليه فاتَّهموه بالهرطقة والخروج عن الدين.

ويبدو أنه احتفظ بصداقته بالسلطان الكامل بعد انتهاء حملته على الشرق، فيُحكى عنه واقعة مماثلة لما حدث مع ابن سبعين، بأنه أرسل مسائل في الهندسة والحكمة والرياضة إلى ملك مصر طلب منه تكليف أحد علمائه بالإجابة عنها، فتكفَّل الشيخ علم الدين قيصر الحنفي بهذه الإجابات.

المُرسل إليه: حكيم عربي

هو أبو محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر، الشهير بِابن سبعين الأندلسي، المولود سنة (614هـ/1217م).

يقول عنه المقري في كتابه «نفح الطيب»:

خلقه الله تعالى من أشرف البيوت التي في بلاد المغرب، وهم بنو سبعين، قرشيًّا، هاشميًّا، علويًّا، وأبواه وجدوده يُشاره إليهم، ويُعوَّل في الرئاسة والحسب.

ويضيف:

له مشاركة في معقول العلوم ومنقولها، وله فصاحة لسان، وطلاقة قلم، وفهم جنان وهو أحد الفضلاء.

تحكي عنه باتريسيا سبالينو في أطروحتها «إشكالية الأصالة في المسائل الصقلية»، قائلة إنه عاش في منطقة وادي ريكوت (Ricote valley)، التي تقع ضمن منطقة مرسي شرقي الأندلس، حيث درس العلوم الشرعية والعقلية.

وكعادة أي فيلسوف مُتمرِّس مزج بين علوم اليونان وإشراقات التصوف في أوقات ساد فيها الفقه المالكي المتزمت، فلم يكن مُرحبًا به في أي مكان ذهب إليه إلا من تلاميذه الأوفياء، ولعبت هذه الأجواء دورًا كبيرًا في تناقض الصورة التاريخية المنقولة عنه.

فهو في نظر تلاميذه «قُطب الدين»، الذي حاز «المجد الأزلي والتخصيص الإلهي» كما وصفه تلميذه يحيى بن أحمد بن سليمان.

أما في نظر خصومه من الفقهاء فهو زنديق جديد يدعو لـ«وحدة الوجود» وهراطق الفلاسفة، فحكم عليه المؤرخ الكبير ابن خلدون بأن كتبه يجب أن تُحرق أو تُغسل بالماء حتى يُمحى أثر الكتابة منها.

لذا لا نستغرب حين نرصد حجم التنقلات الكبيرة في حياة الرجل، بالرغم من أنه وعائلته من المقربين من سُلطة الموحدين التي حكمت الأندلس وقتها، فوفقًا لما أخبرنا به ابن الخطيب في كتابه «الإحاطة في تاريخ غرناطة»، كان والده من المقربين من سُلطة دولة الموحدين التي كانت سائدة آنذاك.

ولكن لم تضمن هذه المكانة البارزة عند الموحدين ديمومة رخاء الحال على ابن سبعين؛ لأنه نشأ في عصرٍ شهد أجواءً سياسية مُضطربة لم يضمن فيها الموحدون أنفسهم ثبات مُلكهم للأبد، وراحت سُلطاتهم على الأندلس تنهار تدريجيًّا، وفي العام 625هـ/1228م اندلعت ثورة عارمة على الموحدين في المنطقة التي وُلِد فيها ابن سبعين، بزعامة أبو عبد الله الجذامي المُلقب بالمتوكل على الله، الذي دعَّمه العباسيون للتمرد على سلطان دولة الموحدين، وبالفعل نجحت ثورته في اقتطاع شرق الأندلس من حُكمهم وأعلن تبعيته لخليفة بغداد لمدة 9 سنوات انهارت بعدها دولته.

عقب وفاة المتوكل على الله عام 635هـ/1238م دخلت البلاد في أتون الاضطرابات السياسية من جديد، فقرَّر ابن سبعين الرحيل؛ سافر أولًا إلى غرناطة ثم إلى سبتة مقتفيًا آثار كل المهاجرين الأندلسيين الفارين من ديارهم بسبب الاضطرابات السياسية والمذابح المسيحية.

وربما كان لهذه التنقلات وهذه اللعنات الفقهية التي لاحقته حتى مماته أثرًا في قِلة ما نعرفه عن سيرة الرجل، وكأن البعض رغبوا في دفن سيرة الرجل وكتبه معه لحظة غلق القبر عليه.

على جميع الأحوال، نعرف أن ابن سبعين تشرب علوم الإسلام وبرع فيها ونال شهرة كبيرة داخل بلاد الإسلام وخارجها، جعلت أخاه يتلقَّى ثناءً كبيرًا من قس النصارى الأعظم في رومية البابا غريغوريوس التاسع (Pope Gregory IX) (ت 1241)، حينما وفد عليه في مهمة دبلوماسية أرسله فيها الأمير المُوحِّد (دليل آخر على مدى قُرب آل سبعين من ذوي المُلك)، وما أن دخل عليه ونبَّأه بِاسمه حتى قال لمِن حوله: «اعلموا أن أخا هذا ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه».

 

كما جعلته هذه الشهرة مُستحقًّا لأن يُطلب تحديدًا لتلك المهمة الجسيمة التي كلَّفه بها أمير البلاد، وهي الرد على الأسئلة التي استعصت إجابتها الواضحة على مشايخ الإسلام كُلهم إلا ابن سبعين وهو ابن عشرين!

وخلال إقامته في سبتة، أتاه العرض الأميري عام (638هـ/1240م)، حين طلب إمبراطور الروم وساطة أمير العرب للإجابة على عددٍ من الأسئلة المرتبطة بقضايا فلسفية شديدة التعقيد كنظريات قدم العالم والغاية من العلم الإلهي وتفسير بعض الأحاديث عميقة المعنى كـ«قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن».

فوضع إجابته على الأسئلة في مُؤلَّفه الشهير «الأسئلة الصقلية»، الذي انتصر فيه لآرائه الفلسفية الصوفية المتشبعة بالحكماء اليونانيين، وبعدها ألَّف كتابًا لم يقل عنه شهرة وهو «وُدُّ العارف» ولم يختلف عنه كثيرًا في محتواه الفلسفي المُتصوِّف المُثير للغضب.

وبالرغم من هذه الخدمة الجليلة التي قدَّمها لسُلطان البلاد، لم يهنأ عيش ابن سبعين في سبتة بعدما لم تُعجب بعض الآراء التي أوردها في «وُدُّ العارف» بعض فقهاء هذه البقاع فهيَّجوا عليه النَّاس ما اضطر والي سبتة أبي علي بن خلاص إلى طرد ابن سبعين خارج مدينته.

رحل الفيلسوف الأندلسي مُجدَّدًا مُعتَمِدًا على مبدأ حياتي بسيط ظلَّ يُطبِّقه حتى مات؛ كلما حاوطته الاضطرابات هرب شرقًا.

سافر إلى تونس حيث طالت إقامته فيها، ومنها رحل إلى مصر حيث لم يُرحَّب به على الإطلاق، فغادرها سريعًا إلى مكة حيث صادق واليها أبا نمى محمد بن أبي سعد.

ومرة أخرى لم يحمِه صلاح حاله مع السُّلطة الحاكمة، فحوَّل الفقهاء حياته إلى جحيم ونشروا عنه مرويات ترسم «صورة زنديقية» له، تمامًا كما حدث سابقًا مع كبار الفلاسفة من أمثال ابن رشد وابن عربي وغيرهم.

اتَّهموا ابن سبعين بأنه شبَّه الحُجَّاج حول الكعبة بأنهم كـ«الحمير حول المدار»، وأنه كان يصعد غار حراء ليرتجي فيه وحيًا كالذي أتى للرسول محمد، بناء على ما يعتقده من أن النبوة يُمكن اكتسابها.

لكن هذه المرة صمد ابن سبعين في وجه الهجوم، ولم يُبارح مدينة الرسول حتى مات فيها سنة (668هـ – 1269م)، وحتى في رحيله لم يسلم من لعنات معارضيه بعدما ادَّعوا أنه مات منتحرًا، فذكر الكتبي في كتابه «فوات الوفيات»: «سمعت عن ابن سبعين أنه فصد يديه، وترك الدم الذي يخرج حتى تصفَّى».

ويروي الإمام تقي الدين محمد الفاسي المكي، في كتابه «العقد الثمين»، أن قبره كان معروفًا بالمعلاة (مقبرة تقع بالقرب من الحرم المكي)، وكان عليه حجر تمَّت إزالته بعد انكباب الناس على زيارته، ومن بعدها صار القبر خافيًا ولا يُعرف له مكان.

سؤال وجواب

لما وردت على سبتة المسائل الصقلية – وكانت جملة من المسائل الحكمية وجهها علماء الروم تبكيتًا للملسمين – انتدب للجواب المقنع عنها على فتاء من سنة وبديهة من فكرته.
المؤرخ لسان الدين بن الخطيب متحدثًا عن ابن سبعين

تقول آنا أكاسوي، الباحثة في الدراسات الإسلامية، في أطروحتها «ابن سبعين والأسئلة الصقلية: النص ومصادره»، إن الفضل الأول في معرفتنا بهذا الكتاب يعود إلى المستشرق ميشيل أماري (1806- 1889) الذي لفت انتباه الدارسين إلى قيمة هذا المخطوط ونشره عام 1853م، حتى إن بعض الدارسين اعتبره «المخطوط الأعظم أهمية في تاريخ الفلسفة».

 

ويقع المخطوط العربي الوحيد من هذا الكتاب في مكتبة بودليانا في أكسفورد، ضمن 7 مقالات فلسفية كتبها ابن سينا والرازي وأبي الأشعث، واحتلَّت مقالة «المسائل الصقلية» الترتيب السادس من بينها.

وبالرغم من أن نص «المسائل» لم يرد على ذِكر السائل الأوروبي العظيم، واكتفى ابن سبعين في حديثه بالإشارة إلى «ملك الروم، وصاحب صقلية»، أو بمدحه أحيانًا بأوصافٍ من نوع «الزعيم المسترشد» أو «القائد الذي يبحث عن الطريق».

إلا أن أماري كان أول مَن حدَّد هوية الإمبراطور المُخاطَب بإجابة المسائل، وهو الإمبراطور فريدريك الثاني.

أما الأمير العربي الذي تلقَّى الرسالة، فهو الخليفة المهدي أبي محمد عبد الوحيد الرشيد الذي حكم خلال عامي (1232م و1242م/ 630 هـ- 640هـ)، وبناءً عليه كلَّف عامله على سبتة بإيصال الأسئلة إلى ابن سبعين مُلحقة بشحنة كبيرة من الهدايا الإمبراطورية رفضها الفقيه المتصوف رغبةً منه في أن يكون صاحب الفضل الوحيد في هذا الاتصال، وهو الأجوبة الشافية على الأسئلة المُستعصية.

واعتبر محمد عبد الهادى أبو ريدة الأستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة في أطروحته «تحليل لأجوبة الفيلسوف المسلم على أسئلة الإمبراطور»، إن مشكلة «قِدم العالم» شغلت أذهان الفلاسفة، وكانت «مناسبة لحدوث اتصال فكري بين إمبراطور مسيحي مستنير وعلماء الإسلام»، وإذا كانت مشكلة قدم العالم لم تنحسم، فإن الأمر الحاسم هو روح البحث عن الحقيقة والحوار حولها رغم اختلاف الأدباء، معتبرًا أن صقلية كانت إحدى نقط الالتقاء الكبرى بين الإسلام والغرب الأوروبي.

وهنا يجب ألا ننسى أن المسلمين (الأغالبة والفاطميون) أقاموا دولة عربية متينة حكمت صقلية 300 عام متتالية.

وتضيف أكاسوي أن ذات الأسئلة أُرسلت إلى كافة أقطار العالم الإسلامي (مصر وسوريا والعراق واليمن) ومنها تتالت الإجابات، ولم يشفِ ظمأ الإمبراطور للمعرفة واحدة منها إلا إجابات الفيلسوف المُطرود من وطنه المتهم بالزندقة؛ ابن سبعين.

وتعتبر أن ابن سبعين تعامل في إجاباته مع المشاكل الفلسفية الأكثر إلحاحًا في العصور الوسطى، وهي خلود العالم، والعلم الإلهي، وخلود الروح، وكشف ابن سبعين في إجاباته عن ثقافة فلسفية عالية وقدرة كبيرة على تفنيد الحجج وتقديم الإجابات الشاملة المُقنعة.

ومن أهم المصادر التي وضح من خلال ردوده الاستعانة بها، كانت أعمال الفارابي الذي أعلى ابن سبعين من شأنه وأظهر تأثرًا كبيرًا بفِكره طوال سطور كتابه، بالإضافة إلى كتاب «liber de causis»، الذي نُسِب إلى أرسطو، وتمت ترجمته إلى العربية بِاسم «لاهوت أرسطو» (بعض المرويات زعمت أن العرب أسموا الكتاب «العلل»)، وشكَّل حجر الزاوية في كتابات أشهر فلاسفة الإسلام كالفارابي والسهروردي وصدر الدين الشيرازي وآخرين، بالإضافة إلى رسائل إخوان الصفا وكتاب النفس لابن باجة، وكتاب الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة للبطليوسي، علاوة على بعض الاقتباسات الصغيرة من كتاب الحدود لابن سينا.

ولا نستغرب هنا عدم اعتماد ابن سبعين على أيٍّ من كتابات الفيلسوف ابن رشد، بالرغم من القُرب الزمني بين حياتيهما،  بسبب هجوم ابن سبعين الدائم على الأول وعدم اقتناعه به كفيلسوف، واصفًا إياه بأنه «قليل المعرفة، بليد التصور غير مدرك، عالم بعجزه ولا يُعوَّل عليه في اجتهاده».

وعلى الرغم من هذا تُؤكد أكاسوي من خلال استقرائها لنصوص «الرسائل الصقلية» أن الأثر الرشدي ينبعث بلا شك من بين السطور، وأن ابن سبعين تأثر به حتمًا ولو بشكلٍ غير مباشر.