محتوى مترجم
المصدر
Dyntran
التاريخ
2017/06/01
الكاتب
كريستفر د . بال

مَثّل غربي المحيط الهندي في بواكير العصر الحديث في الفترة ما بين (1400-1700) منطقة عابرة للأقاليم، ومسرحًا للعديد من الظواهر التاريخية. فقد ربطت حركة المسافرين والبضائع البحر الأحمر غربًا، عبر الخليج العربي وبحر الهند، بسواحل غربي الهند شرقًا. وتكشف قراءة متأنية للسيرة الذاتية «الضوء اللامع»، لعالم القرن الخامس عشر المصري محمد السخاوي، مسارًا متكررًا للعديد من الجماعات: من مصر إلى الحجاز، اليمن، ولاية كَجرات وهضبة الدكن بالهند وعودة مرة أخرى. لم تُصن هذه الروابط بحركات الحج والتجارة فقط، بل بفضل الممارسات النصية أيضًا، كنقل وترويج النصوص الإسلامية على هيئة مخطوطات على سبيل المثال. كانت أمهات الكتب العربية ككتب قواعد الصرف والنحو، المعاجم والقانون، من أبرز الكتب تداولًا. لهذا، يمكن دراسة هذه التبادلات الحضارية بناءً على المخططات الأثرية الناجية حول غربي المحيط الهندي.

يمكن تتبع تغيرات هذه الثقافات المخطوطة عبر الزمن من خلال متابعة تعديلات نقل المخطوطات بين الدارسين الرحالة ومجموعات البلاطات الحاكمة. تظهر هذه التعديلات، أيضًا، في ملاحظات الهوامش التي تركها مستخدمو المخطوطات كالمقدمات، بيانات النُّسخ والنشر في نهاية المخطوطات، ملاحظات الملْكِية وما إلى ذلك. سأركز، في هذه التدوينة، على عينة من الملاحظات على هوامش مخطوطات لأدلل على عدد من آليات نقل الكتب خلال القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر. يمكن دراسة هذه الأطر بمقارنة أعمال عالم مصري من القرن الخامس عشر الميلادي بمخطوطات مملوكة لقبيلة العيدروسي من القرن السابع عشر. من خلال «مشروع دناتران»، تكون دراسة الحالة هذه فكرة عن عملية نقل الكتب وملكيتها في إطارات اجتماعية مختلفة عبر الزمن.


التركيبات النصّية للعلماء الرحالة

العالِم الرحّالة الذي ينتقل من مكان لآخر بحثًا عن المعرفة، وتقديم مهاراته وخدماته للعامة وللأسر الحاكمة ظاهرة اجتماعية ثقافية بارزة، ولم تكن هذه الظاهرة محصورة في بواكير العصر الحديث. لكن، تتزايد مثل هذه الارتحالات العابرة للحدود في منطقة غربي المحيط الهندي بالقرن الخامس عشر. يمكن تفسير هذا بتطلعات الدولة الإسلامية السياسية الوليدة لشبه القارة بعد تفكك سلطنة دلهي في بدايات القرن الخامس عشر (آشر/تالبوت 2006، ص.84-97). فقد تحمّست السلطنات اللاحقة بكجرات والبنغال وهضبة الدكن لجذب العلماء والإداريين والأدباء لقاعات قصورهم، ووجدت النخبة المتعلمة من دلهي وظائف جديدة في هذه البلاطات الحاكمة، لكن رؤساءهم استمروا في البحث عبر بحر العرب لاستقطاب أصحاب المهارات وذوي النبوغ.

يمكن فهم هذه الفرص الأكاديمية العابرة للحدود بشكل أفضل بالنظر إلى سيرة العالم المصري محمد بن أبي بكر الدماميني (توفي 828/1424هـ) (السخاوي، الجزء السابع/ ص. 184-185). فقد ارتحل في بداية القرن الخامس عشر من منطقة البحر الأحمر عبر اليمن، ثم الكجرات واستقر في النهاية بمنطقة هضبة الدكن. توقف الدماميني خلال رحلته في الكثير من الأماكن إما ليخدم كمعلم في مسجد كما فعل في زبيد باليمن، أو ليقدم مهاراته وعلمه كمؤدب للعائلات الحاكمة بكجرات وهضبة الدكن. برزت ثلاثة من مؤلفاته التي ناقش فيها ملاحظاته على قواعد النحو المتفق عليها في القرون اللاحقة، وقد مثّل كل واحد منها هدية أدبية منه لكل من السلاطين الذين عمل في بلاطهم.

آخر أعماله المعروفة هو كتاب النحو «المنهل الصافي في شرح الوافي»، وهو شرح لمتن الوافي لكاتبه محمد جمال الدين بن عثمان البلخي. في هذه الحالة، تمثّل تفاعلات الاستهلالات والمقدمات بالإضافة إلى العناصر المدمجة بالنص التعاملات النصية للعالِم الرحالة، فعندما وصل الدماميني إلى كجرات صادف العديد من الدارسين المحبين لمتن الوافي، لكنهم اشتكوا من صعوبات بالغة عند دراسته؛ لهذا أنتج مؤلفه كاستجابة مباشرة لمعاناتهم من باب التيسير. لكن وقعت كتابة ونقل المؤلف الفعليين خلال رحلاته من كجرات إلى أعماق المملكة البهمانية بهضبة الدكن. وُصفت عاصمة البهمنيين أحسن آباد ( اليوم كلبركة – جنوب الهند)، بعماد العقيدة الإسلامية، فقد كانت محكومة بسلطان قوي هو أحمد شاه بهماني؛ لذا صدّر المؤلف تأبينًا طويلًا له يذكر إنجازاته ومحاسنه. أما مقدمة المؤلف فهي تصف العمل كهدية أدبية للسلطان، وهذه من الطرق المعروفة لكسب الرعاية والحماية من العائلات الحاكمة في العالم الإسلامي؛ فالعلماء مثل الدماميني كان يعني هذا العمل له ضمانًا لرعاية وكنف، بالإضافة إلى تكملة ناجحة لمسيرته الأكاديمية.

شُرحت طريقة نقل متن الوافي للبلخي في مقدمة شرح الدماميني. لكنها، أيضًا، واضحة بصريًا: تظهر النسخ الناجية من المخطوطة تفاعلًا داخل النص بين متن البلخي المكتوب بخط أسود سميك (أحيانًا أحمر ) كاقتباس حرفي مجزأ، يتبع كل فقرة منه شرح الدماميني مكتوبًا بخط أسود أقل سمكًا. قدّم الدماميني بهذا شرحًا عامًا للتفاصيل المعجمية والنحوية. يمكن معرفة تفاصيل أكثر عن المؤلَف بالنظر إلى بيانات النسخ والنشر في الصفحة الأخيرة منه، فتبعًا لها، كتب الدماميني بالهند في الفترة الزمنية بين نهاية شهر رمضان 825/1422هـ والحادي والعشرين من شهر ذي الحجة بالعام نفسه، ثم بدأ بنقل المؤلف إلى هذه النسخة في الثالث والعشرين من شهر صفر 826/1423هـ بمدينة أحسن آباد، وانْتُهِيَ منه في العام نفسه. ما تظهره هذه العناصر الهوامشية من مقدمات وبيانات نسخ ونشر هو شكل معقد وشخصي لنقل الكتب، الذي كان محوريًا لنقل المعرفة عبر الحدود على هيئة مؤلف نحوي من عالم إلى بلاط ملك.


رحلات المخطوطات عبر الحدود

أُعيد رسم خريطة هضبة الدكن السياسية على مدى القرون اللاحقة؛ فقد اندثرت إمبراطورية البهمنيون وانبثقت سلطنات الدكن. ترى دراسة استقصائية لمجموعات المخطوطات في منطقة هضبة الدكن تدفق المخطوطات عبر المحيط بحلول القرن السابع عشر بصورة لافتة مكثفة، وتعتبر قبيلة العيدروس، التي برز شأنها في تلك الفترة، من ضمن المجموعات المسئولة عن ذلك. وجد سادة قبيلة العيدروس في مدينة تريم بمحافظة حضرموت (اليمنية) نقطة انتماء جغرافي لاحتضانها مثوى سلفهم الأخير. بالإضافة إلى ذلك، يرى «إنغسنج هو» أن تريم أصبحت محطة العودة خلال القرون اللاحقة عندما حملت مغامرات العيدروسيين الاجتماعية الأجيال اللاحقة إلى الهند، شرق آسيا والأرخبيل الإندونيسي. لقد أنتجوا مُدَوّنَة من النصوص، نصوص رحّالة، تعكس كل ما اعتبروه مهمًا لهذه المجتمعات شديدة الخصوصية وممتدة الأطراف.

أصبحت شبكة قبيلة العيدروس لا غنى عنها لحركة النصوص الإسلامية الأخرى أيضًا؛ فبحلول القرن السابع عشر، مثّلوا مجتمعًا توزيعيًا بارزًا، كما رسّخوا أنفسهم كجزء من حاشية البلاط في سلطنات الدكن، خاصة بيجابور (إيتون 1978، ص.125-129)، حيثما استقرت تلك النصوص في المكتبة الملكية الخاصة بسلالة العادل شاه (Adil Shahi dynasty) كان «التحرير في أصول الفقه» واحدًا من المخطوطات التي انتقلت معهم، وهي متن في أصول وتفسير الفقه في المذهب الحنفي بيد الإمام المصري الكمال بين الهمام.

تقول مذكرة كُتبت بالفارسية على الورقة الأولى إنه شُرِيَ الكتاب من وريثه الشرعي، وأُدخل للمكتبة الملكية ببيجابور في سنة 1023/1614هـ. فتبعًا لما ذُكِرَ في نهاية المخطوطة، فقد أنهى الخطّاط حسن محمد أحمد نسْخ الكتاب في شهر ذي الحجة 988/1580هـ بعد صلاة العصر أمام الكعبة المكرمة بمدينة مكة.

ويكشف بيان مِلكية الاسم الكامل لمالك الكتاب السابق أنه العلّامة غلام الله عبد الرازق المكي الحنفي العيدروسي. التعبير التقني المُستخدم في هذه الحالة «فاز» بمعنى «حقّق» شيئا أو حصل على شيء، بالإضافة إلى الملكية واسم المالك. لا توجد أي ملاحظات منقولة أخرى ذات علاقة على المخطوطة تصف ملاحظة الملكية الخاصة مع الملاحظة الفارسية من المكتبة الملكية، فلا نقف على عملية نقل هذه المخطوطة من شخصية علمية إلى مجموعة ملكية. هذه المخطوطة واحدة من ثماني عينات لعضوين من قبيلة العيدروس، انتهت كجزء من مجموعة المكتبة الملكية بالطريقة نفسها، وقد شرحت عناصر الهوامش على متن المخطوطات المسار الواصل بين المؤلفين والناسخين عبر منطقة البحر الأحمر، بينما قدم البلاط الحاكم ببيجابور علامته الخاصة على المِلْكية، مما يتمم سلسلة النقل.


من المركز إلى الأطراف

تشير التغيرات التاريخية في العناصر الهوامشية بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر إلى حدوث تعديل في هيكل نقل الكتب؛ فقد ظلت الروابط الجغرافية كما هي، وبالتبعية مسار حركة المخطوطات، لكن يمكن تتبع كثافة المخطوطات في تلك الحقبة إلى زيادة عدد المجتمعات/الأفراد المنخرطة في التوزيع، من ضمنهم قبيلة العيدروس.

على الرغم من ذلك، يمكن التنبؤ بتغير نوعي في أنماط النقل المستجدة، فبحلول القرن السابع عشر يكتمل إتمام نقل النص عبر دمغ ختم مِلكية الطرفين. طُرِّفَ نمط التبادل هذا، حيث انتقل من المقدمات والاستهلالات إلى ملاحظات الملكية والأختام. فنمط نقل العمل شديد الشخصية يوازيه استحواذ ونقل هوامشي. بهذا أصبحت عملية نشر الكتب أبسط كثيرًا. تقترح هذه الممارسات الثقافية المتغيرة تكثف الروابط الإقليمية بين منطقة البحر الأحمر واليمن، ولاية كجرات وهضبة الديكن خلال الفترة الحديثة المبكرة، ودُعمت عن طريق شبكات اجتماعية متعددة. وسع ممثلوها من استراتيجيات نقل النصوص، مما عكس في النهاية زيادة هيمنة أسمائهم وعلاقاتهم على حركة نقل الكتب الإقليمية.