القس أندرو برانسون من سكان كارولاينا الشمالية، ولايةٌ متدينة، تنتخب الجمهوريين. والداه المبشران لا يختلفان عن باقي السكان، وكذلك برانسون وزوجته. لذا انتقل برانسون، 50 عامًا، من الولايات المتحدة إلى تركيا عام 1993 كجزء من حملة تبشيرية في الكنيسة الإنجيلية هناك. تركيا لا تمنع الحملات التبشيرية رسميًا، لكنه والقائمين عليه لا يلقون ترحيبًا شعبيًا. في عام 2007 قُتل مبشر ألماني واثنان من الأتراك اعتنقا المسيحية. لم يمنع ذلك برانسون من مواصلة مهامه، بل سعى إلى توسعتها عبر تأسيس كنيسة القيامة بأزمير.

منذ عام 1993 حتى أوائل عام 2016 كان برانسون شخصًا عاديًا، لا يعرفه سوى أعضاء كنيسته المُقدر عددهم بـ25 فردًا. لكن في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2016 تم اعتقاله وزوجته، بعد أن استدعته الشرطة المحلية إلى اجتماع ظن أنه روتيني لمناقشة طلبه بتمديد تأشيرة إقامته وزوجته وأولاده الثلاثة. تم إخباره أنه سيتم ترحيله في غضون 15 يومًا، لكن بعد 13 يومًا تم إطلاق سراح زوجته وبقي برانسون معتقلًا بانتظار توضيح الأسباب الرسمية لاعتقاله.

تدوينة نورين برانسون، تحكي فيها عن إعتقالها وزجها بعض ما يحدث معه

في تلك الأثناء حاول محاميه التواصل معه لكن رفضت السلطات التركية. وبعدما حصل المحامي على إفادة خطية من برانسون بتوكيله للدفاع عنه، عرضت السلطات التركية وثيقةً وقعها برانسون يتنازل فيها عن حقه في التمثيل القانوني. كذلك رفضت السلطات التركية اجتماع ممثل القنصلية الأمريكية به، الأمر الذي يُعد انتهاكًا تركيًا لمعاهدة فيينا بخصوص العلاقات القنصلية. كما مُنع القس من مقابلة أعضاء كنيسته، ولم تسمح السلطات بوصول أي أطعمة أو ملابس أو زيارات له.


الانتماء لجماعة محظورة

بعد ما يزيد على 60 يومًا، في 9 ديسمبر/ كانون الأول 2016 أشارت إحدى الوثائق القضائية للتهم الموجهة لبرانسون وهي الانضمام لمنظمة إرهابية. كما تلاحقه تهم التجسس والمشاركة في التخطيط لانقلاب يونيو/ تموز. إضافة إلى التهم السابقة تواجهه دعوى تقديم المساعدة إلى حزب العمال الكردستاني. هذه الدعوى تستند إلى سجلات سفره التي ورد فيها السفر إلى المناطق الكردية في جنوب شرقي تركيا. هذه التهم تجعل العقوبة التي تنتظره هي السجن مدى الحياة.

المطالبة الأمريكية الأولى بإطلاق سراحه كانت في أواخر عام 2017، جاء الرد التركي بالموافقة شريطة مبادلته بفتح الله كولن. كولن الذي يراه أردوغان المُخطط الرئيسي للانقلاب الأخير. لم تستجب الولايات المتحدة للطلب التركي، وكذلك لم تلق تركيا اهتمامًا للمطالبات الأمريكية المتكررة.

اقرأ أيضًا: لماذا تنهار الليرة التركية؟ 6 نقاط تحكي القصة الكاملة

في أوائل أغسطس/ آب 2017 تم نقله من مركز احتجازه إلى سجن كيركيلار برفقة اثنين من مناصري كولن. وفي 24 أغسطس/ آب 2017 نشرت الأناضول، وكالة الأخبار الرسمية، تقريرًا يفيد بأن المدعي العام قد حصل على وثائق جديدة تدعم التهم الموجهة إلى القس أندرو برانسون. ثم 5 مارس/ آذار 2018 قبلت إحدى المحاكم التركية قرار المدعي العام باتهامه. وتم تحديد 18 أبريل/ نيسان 2018 موعدًا لجلسة استماعه الأولى. استمرت الجلسة إحدى عشرة ساعة كاملة، حسب رواية ساندرا جولي، نائبة رئيس لجنة الولايات المتحدة للحرية الدينية الدولية، والتي حضرت الجلسة مع برانسون، فإن القاضي لم يستمع إلى شاهد من شهود الدفاع الذين طلبهم برانسون وهيئة دفاعه.

ثم في يوليو/ تموز 2018 تم إطلاق سراحه ووضعه تحت الإقامة الجبرية أثناء فترة المحاكمة. إذ شهد هذا الشهر تغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي يصف فيها اعتقال برانسون بالعار التام، ودافع فيها عن برانسون، مشيرًا إلى أن تركيا تحتجزه كرهينة لمقايضته بكولن لا أكثر. كذلك شهد الشهر مطالبة نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس بإطلاقه سراح برانسون أو ستقوم الولايات المتحدة بفرض عقوبات على تركيا. الأمر الذي أكدته تغريدة ترامب في نفس اليوم.


أول أمريكي في سجون تركيا؟

المُلفت هنا أن سابع سبعةٍ ممن رافقهم برانسون في زنزانته كان سيركان جولج، عالم أبحاث أمريكي تركي في وكالة ناسا للفضاء. تم القبض على جولج بعد انقلاب يوليو/ تموز لنفس أسباب برانسون، وتم الحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات ونصف بالفعل.

للوهلة الأولى قد يبدو القس برانسون أندرو شخصًا مشهورًا على مستوى العالم، لكن الحقيقة أن تداعيات قضيته صارت أكثر شهرةً منه. والأزمة الاقتصادية بين تركيا والولايات المتحدة غطت على أخباره، بينما كان من المفترض أن تفعل العكس. قد يكون من المشروع هنا أن نتساءل حول الهدف الأمريكي من هذه الأزمة، هل هو حقًا تسليم الرجل إليها، أم الولايات المتحدة قد استخدمته ذريعة لمعاقبة تركيا أو لحثها للموافقة على شيء ما، أو أن الأمر كان محاولة انتخابية لكسب أصوات مصوتي كارولاينا الشمالية المتدينين ثم تفاقمت الأوضاع.

كذلك يؤكد ترامب أن انفعاله بخصوص برانسون يتضاعف بسبب شعوره بالخداع من قبل تركيا. إذ يقول ترامب إنه اعتقد أنه تم التوصل إلى إتفاق مع الجانب التركي يقضي بإطلاق سراح برانسون في مقابل إطلاق إسرائيل سراح امرأة تركية متهمة بدعم حماس ماليًا، هي إبرو أوزكان. وتم إطلاق سراحها في 16 يوليو/ تموز 2018، إلا أن برانسون يظل محتجزًا رهن الإقامة الجبرية بعد خروجه من محبسه.

اقرأ أيضًا: التناقضات التركية: إسرائيل عدو أم صديق؟


خط الأزمة الشخصية

للأزمة الدبلوماسية خط آخذ في الارتفاع، لكن هل يؤثر ذلك على برانسون، الذي من المفترض أنه جوهر هذه الأزمة. بتتبع تصريحات زوجته بعد خروجها نجد أن أوضاع برانسون لم تختلف كثيرًا قبل أو بعد وصول الأمر إلى الرئاسة الأمريكية. سواء من حيث معاملة السطات التركية له، أو من جهة الاهتمام الشعبي به. في البداية ظلت نورين برانسون تحاول التوصل إلى حل لقضية زوجها وحدها، دون مساعدة من أي مسئول أمريكي.

حتى أنها كتبت في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 أنها لا تعرف كيف تتصرف لتساعد زوجها، وأن النصائح المتضاربة التي تسمعها ممن حولها جعلتها لا تعرف الطريقة المثلى للتصرف. حتى حين بدأ أقرباؤهما في التصعيد الكلامي عبر وسائل التواصل الاجتماعي نصحتهم بالهدوء واحترام الدولة التركية كي لا ينعكس ذلك سلبًا على زوجها.

كما أن الحوار الهاتفي الذي تم بين أردوغان وترامب في 7 فبراير/ شباط 2017 والذي استمر لـ4 ساعات لم يأت على ذكر برانسون إطلاقًا. لكن 16 من ذات الشهر وقع 78 عضوًا من الكونجرس الأمريكي على خطاب إلكتروني يطالب أردوغان بالنظر في قضية برانسون. ثم بعد شهر في 10 مارس/ آذار وصل الأمر إلى الأمم المتحدة في خطاب شفهي دون أن يلقى صدى فعليًا.

تدوينة نورين برانسون عن محاولة لقائها بوزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون

ولم يُسمح لها بالحديث إلى وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون أثناء زيارته لأنقره في 30 مارس/ آذار 2017. ورفض المسئولون الأمريكيون هناك ترتيب لقاء لها معه، وستقابل مسئولًا آخر. وبعد إصرارها قابلها تيلرسون دون وعود بحل القضية لحساسية العلاقة بين البلدين. ولم تصل القضية إلى مسامع الرئيس الأمريكي إلا بعد اللقاء بشهرين في مايو/ آيار 2017. وحين وصلت استغرق الأمر أكثر من عام حتى تدخل المطالبات الأمريكية مرحلة جدية. ومنذ دخلت الأزمة مرحلتها الحالية لم تنشر زوجته أي شيء بخصوصه أو حتى مطالبتها المعتادة لمتابيعها بالدعاء له. كما يبقى عدد متابعي زوجته 11 ألفًا، غالبيتهم من الكنائس الأخرى، ولم يتفاعل معها عبر سير الأزمة ما لا يزيد على 1500 شخص.