الخاتمة

لا بد لهذا المقال أن يبدأ من النهاية، لأن توقعاتك حول الهدف من المقال ستفسد عليك قراءته. هنالك حقيقة واضحة تثبتها الأرقام والسجلات الرسمية، أن التعاون التجاري بين تركيا وإسرائيل في ازدهار مستمر. وهنالك أخرى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لا يتوقف عن انتقاد إسرائيل، ويصفها بدولة الاحتلال والإرهاب في مناسبات شتى. الجمع بين الحقيقتين يمكن تسميته بالنفاق، إذا كنت معارضًا لأردوغان، وإذا كنت في صفوف المؤيدين فيمكنك وصفه بأن هذه هي السياسة، فالسياسة هي فن الممكن ولا مكان للمثاليّات فيها.

من جانب المؤيد، يمكن القول بأن السياسة عامةً، والتركية خاصةً، لا تقوم على الشعارات. بل هي سياسة تدور في فلك الواقع، لذا كان من الضروي أن تحافظ تركيا على علاقة تجارية وثيقة مع إسرائيل. إذ إن هذه العلاقة هي التي تضمن لطرفيها ألا يتجاوز أحدهما الخطوط الحمراء في العلاقة، كإعلان حالة حرب مثلًا أو قطع العلاقات الدبلوماسية نهائيًا أو حشد المجتمع الدولي ضد الآخر، فإسرائيل هي المقياس الذي تُفرق به الدول الغربية بين المعتدل والمتطرف، من يُعادي إسرائيل يُعتبر عدوًا للجميع وعلى رأسهم الولايات المتحدة. فإذا اعتبرنا أن العلاقات مع إسرائيل هي شر، فهي شر لا بد منه، بنظر مؤيدي التجربة التركية.

اقرأ أيضًا: البجعة السوداء: هل شاركت إسرائيل في محاولة الانقلاب التركي؟

أما المعارض، فهذا نفاق من قبل الرئيس أردوغان، ولعبٌ على مشاعر المسلمين حول العالم. كما يرى معارضوه أن التصريحات المعادية لإسرائيل ليست سوى وسيلة لكسب شعبية زائفة بين الأتراك والعرب. بل يذهب بعضهم إلى القول بأن حدة هذه التصريحات وكثرة انفعالات أردوغان عن الحديث حول فلسطين وإسرائيل ليست سوى تعويض عما يفعله في الخفاء. ويضعها البعض ضمن خطة أكبر يحاول فيها أردوغان السيطرة على التنظيمات الإسلامية في العالم العربي، إشارةً إلى تصريحاته بدعم حماس في فلسطين، وجماعة الإخوان المسلمين في مصر.

أما عن التقرير الذي بين أيديكم، فهو يرصد واقعًا ولا يُحلله. ويضعك أمام مشهدين متوازيين، كشاشة تلفاز مقسومة إلى نصفين، في النصف الأول على يمينك سترى مشاهد التوتر السياسي التي عصفت بالعلاقة الثنائية. وعلى يسارك منحنى التعاون التجاري والاتفاقيات الاقتصادية التي تزامنت مع مراحل التوتر المختلفة. وفي النهاية يظهر أمامك سؤال ختامي وحيد؛ هل تؤثر تصريحات أردوغان اللاذعة على العلاقة بين الطرفين؟

وسيكون عليك حينها بكل بساطة أن تجيب بـ نعم أو لا، من خلال الحقائق المعروضة. أما عن كيف ولماذا، فليس هذا ما يبحثه المقال.


أسطول الحرية 2010

في عام 2010 كانت الأزمة الدبلوماسية بين الطرفين مستعرةً بعد مهاجمة السفينة «مافي مرمرة» المتجهة إلى غزة بهدف كسر الحصار المفروض عليها. حين طلبت إسرائيل من السلطات التركية إفراغ الحمولة في إسرائيل أولًا ثم نقلها إلى غزة عبر الأمم المتحدة والصليب الأحمر، رفض أردوغان وأصر على أن تتوجه السفينة مباشرةً إلى غزة. هذا الإصرار من الطرفين أتى على خلفية إتهام أردوغان لنظيره الإسرائيلي شيمون بيرز بالإرهاب وقتل الأطفال في منتدى دافوس الاقتصادي عام 2009.

وكرد فعل قامت السرية 13 الإسرائيلة بمهاجمة الأسطول، قتلت 9 أتراك وجرحت عشرين. الحادثة لم تكن هينةً على المستوى الدبلوماسي، إذ أعلن أحمد داوود أوغلو، وزير الخارجية آنذاك، طرد السفير الإسرائيلي وتجميد العلاقات بين البلدين. وظل أردوغان غاضبًا من الحادثة حتى أنه بعد مرور سنوات في يوليو/ تموز 2014 انتقد فتح الله كولن عدم أخذ أردوغان الإذن من السلطات قبل الاقتراب من غزة. فأجابه أردوغان متسائلًا أي سلطات تقصد، أحبابك في الجنوب، يقصد إسرائيل، أم نحن. ثم استطرد بأنك إذا كنت تقصدنا فقد منحناهم الإذن، وأما إسرائيل فليست سلطةً لنستئذن منها.

لكن هذا الغضب والتوتر الدبلوماسي لم يغير من حقيقة أن تركيا تقع في المرتبة السادسة ضمن قائمة الدول التي تصدر لها إسرائيل. بل إن المتحدث باسم وزارة التجارة والصناعة الإسرائيلية، براك كرانوت،صرح بأن التبادل بين الدولتين ارتفع من 300 مليون دولار في 1997 إلى 3.1 مليار دولار في 2010. وأضاف أنه في عام 2010 وحده استوردت تركيا من إسرائيل ما يربو على المليار وربع المليار دولار. على الجانب الآخر استوردت إسرائيل من تركيا ما قيمته 1.8 مليار دولار، أي بزيادة 30% عن عام 2009.


حرب غزة 2014

استمرت التبعات السياسية لحادثة مرمرة حتى مارس/ آذار 2013. في ذلك التاريخ اعتذرت إسرائيل لتركيا رسميًا عن الحادثة،وأعلنت إسرائيل نيتها تعويض أهالي الضحايا بـ20 مليون دولار. التوتر الذي امتد من عام 2010 حتى عام 2013 لم يوقف منحنى صعود العلاقات التجارية بين الطرفين. بل زاد التبادل التجاري في 2014 بنسبة 400% عما كان عليه في 2002، عام تولي العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا، ليصبح 5.8 مليار دولار بدلًا من 1.4 مليار دولار.

عام 2014 شهد هو الآخر حربًا إسرائيلية على غزة، وشهد تصريحات تركية لاذعة بخصوصها. لكن في تلك الأثناء زادت واردات إسرائيل من النفط، وزادت صادراتها كذلك. العامل المشترك بين واردات إسرائيل وصادراتها هو تركيا. فالشريان الرئيسي للنفط الآتي لإسرائيل هو شمال العراق، أو نفط الأكراد الموجودين هناك. ثلاثة أرباع هذا النفط يأتي من شمال العراق إلى إسرائيل عبر ميناء جيهان التركي.

أما عن الصادرات فأشار تقرير هيئة رقابة وتنسيق سوق الطاقة في أغسطس/ آب 2015 إلى أن هنالك زيادة مستمرة في صادرات النفط الإسرائيلي إلى تركيا، وأن الفترة من يوليو/ تموز 2014 حتى مايو/ آيار 2015، فترة الحرب على غزة، زادت فيها الصادرات بنسبة 84%.


نقل السفارة الإسرائيلية 2017

عام 2016 تراجعت نسبة التبادل من 5.8 مليار دولار قليلًا لتصبح 4.3 مليار دولار، لكنها عادت للارتفاع مرةً أخرى عام 2017. 2017 هو العام الذي شهد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس. أدى هذا القرار إلى تلاسنٍ شديد بين أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إذ وصف أردوغان إسرائيل بأنها دولة الاحتلال والإرهاب، ورد عليه نتنياهو بأنه لن يتلقى درسًا في الأخلاق من رئيس يقصف قرى الأكراد ويحبس الصحفيين.

هذا التردي الدبلوماسي لم تلحظه مؤشرات وزارة الاقتصاد التركية التي قالت في نفس العام، إن الصادرات التركية إلى إسرائيل من السيارات والحديد والصلب والأجهزة الكهربائية والبلاستيك زادت بنسبة 20%، بينما زادت الصادرات الإسرائيلية من الوقود والنفط إلى تركيا بنسبة 45%. وأوضحت أنه ليس من المُتوقع أن تؤثر التصريحات السابقة على مستقبل العلاقة بين الطرفين.

اقرأ أيضًا: دون تهويل أو تهوين: نظرة على واقع الاقتصاد التركي

كذلك شهد نفس العام ارتفاع عدد السياح الإسرائيليين إلى مليوني سائح عبر 12400 رحلة جوية، بعد أن كان عدد السياح 686 ألفًا في 2012. أما عن الأتراك فكانوا لا يفضلون السفر عبر إسرائيل لكن الحرب السورية اضطرت سفن الشحن والنفط الذاهبة إلى الأردن أن تمر بميناء حيفا أولًا.


حليف لكن سيئ؟

السفير الإسرائيلي في أنقرة، إيتان نائيه، لا ينفي التناقض في أحوال السياسة والتجارة بين الطرفين. بل فسر ذلك بقوله إن واقع العلاقات التجارية مختلف تمامًا عن العلاقات السياسية. نفس الأمر الذي يراه ديفيد بيهريش، شريك في شركة شحن إسرائيلية،في تصريحه إن صعود وهبوط العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وتركيا لم يؤثر يومًا على عدد المارين أو سفن الشحن القادمة لإسرائيل. وجاء تصريح مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية في أوائل 2018، ليؤكد على ذلك بقوله إن علاقات تركيا سوف تستمر مع إسرائيل رغم التوتر في القضية الفلسطينية.

الآن، حان وقت مشاركتك بتصريحاتك في هذا الصدد، هل تؤثر تصريحات أردوغان اللاذعة على العلاقة بين الطرفين؟ وكيف يمكنك الجمع من وجهة نظرك بين نصفي الشاشة؟