سنقوم بدراسة الأمر حول إذا كانت هناك تداخلات دولية في هذا الانقلاب، لكن الوقت الآن وقت الدفع لهذا التمرد

بن علي يلدرم رئيس وزراء تركيا فى مؤتمر صحفي صبيحة يوم السبت 16 يولو/تموز

من المبكر الحديث عن الدول الإقليمية التي قد تكون متورطة في التخطيط للانقلاب العسكري على أردوغان كما لوح يلدرم، أو تلك التي ترى في سقوط أردوغان تعظيماً لمكاسبها السياسية في المنطقة كما يلوح كثيرا أردوغان فى أحاديث سابقة.لكن، لا مانع من طرح سيناريو، قد يكون مُستبعداً، لكنه يُقدم حزمة من المؤشرات، تتعامل مع الواقع التركي، وحقيقة علاقاتها الخارجية، ومستقبلها. وهذا السيناريو يدخل في إطار التحليلات المرتبطة بنظرية «البجعة السوداء»، وهو أحد المداخل النظرية للتفكير في حالة عدم اليقين، وقد طورها الباحث «نسيم طالب»، ويتعامل هذا المدخل مع الأحداث التي تقع خارج التوقعات الطبيعية، دون وجود أي إشارات تاريخية مرتبطة بها، كما هو الحال مع البجع؛ فالبجع في كل أنحاء العالم أبيض اللون، لكن احتمال وجود بجعة سوداء اللون غير مستبعد. وقد انتشر هذه المدخل التحليلي عقب اندلاع موجات الربيع العربي، بسبب فشل الأكاديميين في توقعها.
البجعة السوداء، نسيم طالب
البجعة السوداء، نسيم طالب
فقد يتصور البعض أنه من المستحيل أن تساهم دولة ما في محاولة انقلابية على دولة أخرى، لم يمر سوى حوالي أسبوعين فقط على توقيع اتفاق للمصالحة والتطبيع بينهما. ولكن واقع وتاريخ السياسية الإسرائيلية يُبدد هذه الاستحالة.وهنا المساهمة لا تعني فقط التورط أو الاتصال المباشر مع قادة الانقلاب، ولكن قد تعني مباركة هذه الخطوة، أو تأييدها، أو على أقل تقدير تمني نجاحها.فإسرائيل لم تخرج بأي تصريح رسمي خلال ساعات ذروة الانقلاب، سواء على لسان رئيس وزرائها أو أي مسئول حكومي أخر. فلم تبدي انزعاجاً أو قلقاً إزاء تطور الأحداث هناك، وهو على عكس ما يحدث بين الدول التي تجمعها علاقات استراتيجية وتحالفية قوية.حيث خرج التصريح الرسمي الأول بعد 15 ساعة من بدء محاولة الانقلاب، بعد تأكد فشله التام، حيث قال «ايمانويل نحشون»، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، في تصريح مقتضب: «إن اسرائيل تحترم العملية الديمقراطية في تركيا، وتتطلع إلى استمرار عملية المصالحة بين تركيا وإسرائيل».كما لم أن حجم التناول الإعلامي الإسرائيلي للانقلاب التركي بدا متواضعاً للغاية مقارنة بباقي وكالات الأنباء العالمية التي اعتبرته حدث الساعة.

ثلاثة مؤشرات

المؤشر الأول

تتمتع إسرائيل وتركيا بعلاقات عسكرية قوية وعميقة منذ خمسينيات القرن الماضي، وشملت هذه العلاقات تبادل صفقات وتكنولوجيا التسليح، وعقد المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية. وهو الأمر الذي جعل من تبادل الزيارات بين القادة العسكريين للبلدين أمراً اعتيادياً، بل دورياً، وهو ما يشير إلى أن إسرائيل تتمتع بعلاقة جيدة – على أقل تقدير – مع الجيش التركي، حيث بدت مستوعبة لعقيدته العسكرية، وقادرة على تحليل التطورات والتفاعلات داخله.
تتمع إسرائيل بعلاقات جيدة مع قادة الجيش التركي، مما يجعلهم لا يخشون على العلاقات التركية الإسرائيلية تحت قيادتهم للبلاد.
ورغم التغيرات المستمرة التي كان يُحدثها أردوغان في المؤسسة العسكرية، إلا أن رسوخ العلاقات العسكرية بين البلدين، وامتدادها لتاريخ طويل، قد يجعل من الصعب تغير رؤية الجيش التركي تجاه إسرائيل.ومن ثَم، قد يكون هناك قنوات تواصل مباشرة بين قادة الجيش في تركيا مع إسرائيل، خاصة أنه قد تم طرح رئيس سلاح الجو التركي كأحد أسماء قادة الانقلاب، مع العلم أن سلاح الجو هو أحد الأسلحة المركزية في التعاون العسكري بين البلدين.وحتى في ظل عدم وجود هذه القنوات، فإن إسرائيل تبدو على قناعة بأن قادة الجيش الذين قد يتولوا الحكم، سيكونون على وفاق معها، وسيعملون على تعزيز العلاقات بينهما، دون وجود أي احتمال لانحراف سياسة تركية الخارجية تحت قيادتهم نحو أعداء إسرائيل الإقليميين، وعلى رأسهم إيران.

المؤشر الثاني

إن توقيع اتفاق المصالحة بين تركيا وإسرائيل في نهاية الشهر الماضي، يونيو/حزيران 2016، ليس دلالة على عودة العلاقات إلى سابق عهدها، فإسرائيل مازالت تنظر بعين الريبة إلى شخص أردوغان، رغم احتياجها للتحالف الإقليمي مع تركيا.معظم التحليلات الإسرائيلية والدولية، أكدت أن العلاقات التركية الإسرائيلية لن يُعيدها الاتفاق إلى سابق عهدها، وكان هذا عنوان لأحد التحليلات التي نشرتها صحيفة «جيروزاليم بوست»، ووُصف الاتفاق بأنه «اتفاق مصالح بلا حُب».وهنا يجب إدراك أن تركيا كانت مدفوعة إلى المسارعة بتوقيع هذا الاتفاق، لتعزيز موقفها الإقليمي المتراجع، ولرؤيتها بأن هذا الاتفاق قد يساعدها على إعادة علاقتها بروسيا. أمّا إسرائيل فلم تشأ أن تُضيع هذه الفرصة لتعزيز وضعها الإقليمي ودائرة تحالفاتها، وكذلك لتضييق الخناق على حركة حماس، ولحاجتها إلى السوق التركي، لتنشيط تصدير الغاز الطبيعي لديها.ولكن، إسرائيل تدرك أن أردوغان مازال يُمثل «عقبة إقليمية» أمام تحقيق أهدافها ومصالحها في المنطقة، فهو من ناحية مازال متسمك بعلاقته مع حركة حماس (بعيداً عن مستوى الدعم التركي الحقيقي للحركة)، كما أن قنوات اتصال أردوغان مع إيران، تسمح له بتطوير علاقته معها في أي وقت، مما يُمثل تهديداً لأمن إسرائيل ومصالحها. أي أن أردوغان مازال يمتلك أوراق ضغط قوية على إسرائيل، يمكن أن يستخدمها في أي وقت، وهو ما تخشاه بكل تأكيد.

المؤشر الثالث

إن توقيع اتفاق المصالحة بين تركيا وإسرائيل ليس دلالة على عودة العلاقات إلى سابق عهدها.
لم ينل اتفاق المصالحة بين تركيا وإسرائيل ثقة كامل المجلس الوزاري الإسرائيلي، حين تم المصادقة عليه. ففي حين أبدى 7 من الوزراء تأييدهم للاتفاق، عارضه 3 وزراء وهم وزير الدفاع «أفيجدور ليبرمان»، ووزيران من حزب «البيت اليهودى» اليمينى المتشدد، «نفتالى بينت» و«إياليت شاكيد».
استعادة العلاقات مع تركيا على النحو الذي طرحه اتفاق المصالحة، لم يلق قبولاً تاماً داخل إسرائيل.
حيث ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، أن هناك وزراء في المجلس الوزاري المصغر يرون أنه تم التعامل معهم كـ «ختم مطاط»، وأنه لم يتم مناقشة هذا الموضوع في المجلس الوزاري من قبل. وقال أحد الوزراء: «كيف يحضرون قرارا كهذا إلى المجلس الوزاري لمناقشته في الدقيقة التسعين.. إنهم يمارسون علينا الضغط كي نصادق على الاتفاق بعد أن سمعنا بأنه تم توقيعه».كما بعث النائب نحمان شاى من كتلة «المعسكر الصهيونى» في الكنيست الإسرائيلي برسالة إلى رئيس لجنة الخارجية والأمن، جاء فيها أن «تجاهل الحكومة للكنيست وصل إلى قمة جديدة من السخرية، الاتفاق الاستراتيجي البالغ الأهمية مع تركيا مر بواسطة شبح نتانياهو من تحت رادار الكنيست».وعلى ذلك، يبدو واضحاً أن استعادة العلاقات مع تركيا على النحو الذي طرحه اتفاق المصالحة، لم يلق قبولاً تاماً داخل إسرائيل، وفقاً للرؤية التي ترى أن مكاسب أردوغان من الاتفاق أكبر من مكاسب إسرائيل.وقد يكون توقيع مثل هذا الاتفاق قبل حوالي أسبوعين من محاولة الانقلاب، هو نوعاً من التغطية على تورط إسرائيل فيه، خاصة وأن نجاح الانقلاب، ووصول قادته العسكريين للحكم، لم يكن ليُعرض هذا الاتفاق للخطر، بل كان من الممكن أن يتطور بشكل أفضل لصالح إسرائيل.وختاماً، فإن السيناريو المستبعد (البجعة السوداء) الذي يطرحه المقال، حتى وإن كان مُستحيلاً أو غير واقعي، فإن ما صاحبه من مؤشرات يجعلنا ندرك أن سقوط أردوغان قد يكون أحد المكاسب الحيوية لإسرائيل في المنطقة.