في ديسمبر 1943م ألقت السلطات السعودية القبض على رجل إيراني يُدعى «أبو طالب يزدي»، بتهمة «تدنيس الكعبة» خلال طوافه في صحنها، جرت محاكمته على عَجَل ونال عقوبة الإعدام، وخلال يومين نُفذت فيه علنَا على مرأى الناس في السعودية بين جَبَليْ الصفا والمروة.

تسبَّب هذا الحادث في عواقب خطيرة على العلاقات بين السعودية وإيران، وعلى السنة والشيعة بشكل عام؛ إذ قُطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين الكبيرين، كما توقفت جميع جهود التقريب بين المذهبين السني والشيعي. استغرق هذا التطور على الصعيدين الديني والسياسي سنوات من الجهود التي بذلها دبلوماسيون ورجال دين لرأب الصدع في البيت الإسلامي، وهي الجهود التي حققت قدْرًا من النجاح حتى أتى «حادث أبي طالب».

ما قبل الحادث

يحكي عبد الله العلمي، في كتابه «الأطماع الإيرانية في الخليج»، أن العلاقات السعودية-الإيرانية بدأت رسميًّا عام 1928م حين سافر حبيب الله خان هويدا، القنصل الإيراني في دمشق.

خلال هذه الفترة لم تكن الدولة السعودية الثالثة قد أُعلن قيامها بعد، وإنما كان عبد العزيز آل سعود لا يزال يحمل لقب ملك الحجاز وسلطان نجد، وهو ما يعدُّ تحركًا إيرانيًّا مبكرًا للاعتراف بالكيان الجديد الذي سيُقدِّر له رعاية الحرمين وإدارة طقوس الحج.

لاحقًا أسفرت تلك الجهود عن تأسيس سفارة لإيران في جدة عام 1930م، وبعدها بسنتين سافر الأمير فيصل بن عبد العزيز (الملك فيصل لاحقًا) إلى طهران لدعم العلاقات بين البلدين.

بعدها سارت وتيرة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين حتى عام 1943م حين أُعدم أبو طالب، وهو ما تسبَّب في قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لمدة 3 سنوات ومقاطعة طهران للحج لعدة أعوام.

كيف دُنِّستْ الكعبة؟

إزاء تلك التداعيات المؤثرة لابد أن نطرح سؤالاً منطقيًّا بشأن مدى جسامة ذلك الفِعل الذي أقبل عليه أبو طالب، وأثار الجدل بين الفريقين، وهل كان يستحق كل هذا أم لا؟

الرواية السعودية الرسمية قالت إن أبي طالب تعمَّد خلال طوافه بالكعبة أن يلوثها بالقاذورات، وأن يبصق على أرضها، وهو ما اعتبرته تحريضًا متعمدًا وانتهاكًا صارخًا لقدسية الحرم، والأخطر أن هذا الانتهاك جرى بواسطة شيعي، ما اعتُبر رفضًا للسلطات الوهابية واستهزاءً بالدولة السعودية.

وخلال تغطيتها للحادث، صحيفة أم القرى السعودية نشرت خبرًا يعبِّر من صياغته عن حقيقة الموقف الرسمي السعودي، إذ يقول: «بلاغ رسمي، رقم 82، جريمة مُنكَرة. ألقت الشرطة القبض في بيت الله الحرام في يوم 12 ذي الحجة 1362 على المدعو عبده طالب بن حسين الإيراني من المنتسبين إلى الشيعة في إيران، وهو متلبس بأقذر الجرائم وأقبحها، وهي حمل القاذورات (العذرة) وهو يلقيها في المطاف حول الكعبة المشرَّفة بقصد إيذاء الطائفين وإهانة هذا المكان المقدَّس، وبعد إجراء التحقيق بشأنه وثبوت هذا الجرم القبيح منه، فقد صدر الحكم الشرعي بقتله، وقد نُفِّذ حكم القتل فيه في يوم السبت 14 ذي الحجة 1362».

أما إيران الشاهنشاهية، فلقد قلَّلت من شأن الادعاءات السعودية، معتبرة أن الرجل «تقيَّأ» في الكعبة لأنه مريض ليس أكثر من ذلك، وأن محاولة تدنيس الكعبة المزعومة تلك لم تكن إلا عملًا بريئًا قام به لتنظيف ملابسه مما علق بها من آثار القيء.

ستعتبره الأدبيات الإيرانية – خلال أي مساعٍ لمعارضة آل سعود – ضحية للقسوة التي تُغلف النظام الوهابي، ولا يزال حتى الآن يُستدعى كرمزٍ للراغبين في إنهاء سيطرة السعوديين على مشاعر الحج ويُلقَّب بـ «شهيد مروة».

ما وراء الحادث

في كتابه «قصة الأشراف وابن سعود» أرجع علي الوردي حالة التشنُّج بين السنة والشيعة بشأن الطقس إلى عقود سابقة لتلك الواقعة.

يقول الوردي إنه خلال موسم الحج من عام 1042هـ أمر السلطان العثماني عامله على مكة بتبليغ الفرس بأنهم لن يُسمح لهم بالحج في العام المقبل. ونُودي بهذا الأمر في أسواق مكة حتى يسمعه الفرس ويبلغوه لإخوانهم عندما يعودون إلى بلادهم.

مرد ذلك القرار إلى انتشار شائعة بين سكان مكة مفادها أن الشيعة لا يعتقدون بتمام حجهم إلا بتلويث الكعبة بالنجاسة، صدَّق الناس هذه الشائعة واعتبروا أن أي فِعل من أي شخص شيعي يفهم منه أن تلويث الكعبة أمر متعمد، وهو ما خلق حالة استنفار كبيرة بين أهل مكة تجاه الشيعة وطقوسهم في الحج.

هذا الاستنفار ظهر في أوضح صوره عام 1677م/1088هـ، عندما ظهرت آثار تلوث على الحجر الأسود وباب الكعبة وأستار البيت الشريف بـ «أشياء نتنة خبيثة الرائحة»، هنا صاح أحد الشيوخ في سكان مكة: «ليس هذا إلا فِعل هؤلاء اللئام (يقصد الشيعة)»، فهجموا على بعض رجالهم وضربوهم بالحجارة حتى ماتوا.

هذا الأمر تكرَّر مرة أخرى عام 1143هـ حينما أقامت قافلة من حجَّاج الشيعة في مكة بغية أداء الحج، وهنا تكرَّرت الشائعات بشأن تعمد الشيعة وضع النجاسات حول الكعبة، فثار عليهم أهل مكة وأمر حاكمها بطرد القافلة الشيعية إلى الطائف وإلى جدة.

تكرار هذه الحوادث بذات التهمة أكد وجود حالة قصوى من الاستنفار بين السنة والشيعة بعضهم تجاه بعض، والتباين بين الفريقين في ممارسات الحج، وتجاه «اتهام التلويث» الذي يلاحق الشيعة دائمًا وأبدًا.

أكثر من وعت حقيقة هذه الاختلافات ومدى خطورتها هي طهران نفسها، فبعد واقعة أبي طالب قاطعت الحج 3 سنوات، عادت بعدها وسمحت لقرابة 17 ألف إيراني بالحج إلى مكة. يقول أبو الفضل حاذقي أمير  الحجاج الإيرانيين في مذكراته، إنه خلال أول رحلة حج إيرانية إلى السعودية أصدرت طهران كتيبًا حمل تعليمات صارمة إلى جميع الحجيج الإيرانيين تضمَّن الآتي:

1. عدم استخدام «مُهر» (تربة حسينية مجففة اعتاد الشيعة الصلاة عليها) خلال الصلاة، واستبدال قطعة كرتون أو ورقة عادية بها.

2. تجنب قراءة أي أدعية تتضمن لعن الصحابة.

3. عدم التمسح بجدران قبر النبي أو الحرم المكي.

لم ينهِ هذا الكتاب حالة الصخب التي عادة ما لازمت دخول حجاج إيران مكة وتسبَّبت في وقوع عدة اشتباكات بينهم وبين أهلها، أبرزها أحداث مكة 1987م، التي نتجت عن تنظيم الحجاج الإيرانيين مظاهرة داعمة للخميني، اعترض عليها رجال الأمن السعوديون، فوقعت اشتباكات دموية بين الطرفين تسبَّبت في مقتل 275 حاجًّا إيرانيًّا و85 شرطيًّا سعوديًّا، ما تسبَّب في قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ومقاطعة طهران لموسم الحج مُجددًا.

ما بعد الحادث: فلنبدأ جهود التقريب

يقول راينر برونر، في كتابه «الأزهر والشيعة»، إن «واقعة أبي طالب» اشتعلت في نفس الشيخ الإيراني محمد تقي القمي، فسافر إلى القاهرة عام 1946م بنية تأسيس هيئة تعمل على إنهاء النزاعات المذهبية داخل الإسلام.

رحَّب بهذه الخطوة شيخ الأزهر حينها مصطفى عبد الرازق، علاوة على علماء كبار شكَّلوا ما سيُعرف لاحقًا بـ «جماعة التقريب»، بعض أعضائها سيصيرون شيوخًا للأزهر فيما بعد، عبد المجيد سليم، ومحمود شلتوت، وبعدها سينضم إلى تلك الجماعة حسن البنا مرشد جماعة الإخوان ومحمد صالح حرب رئيس جمعية الشبان المسلمين.

كان أحد النتائج المهمة لعمل تلك اللجنة هو قرار الأزهر بتدريس المذهب الشيعي الجعفري لطلابه، مثله مثل بقية المذاهب الفقهية السنية، واستمرَّت تلك الجماعة في نشاطها حتى أغلقت عام 1979م بسبب تدهور العلاقات السياسية بين مصر وإيران بعد قيام الثورة الإسلامية واستقبال القاهرة للشاه في أيامه الأخيرة.