في يوم الإثنين، الخامس من يونيو/حزيران، أعلنت عدة دول على رأسها السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر، واليمن وغيرهم قطع العلاقات الخارجية مع دولة قطر. وكان ذلك مُعللاً من قبل تلك الدول بأن قطر داعمة للـ«إرهاب»؛ إذ هي تدعم وتأوي جماعات الإرهاب كالإخوان المسلمين، وداعش، والقاعدة.

كذلك، فقطر، وفقًا للبيانات الرسمية لتلك الدول، تدعم «المخطط الإيراني» في المنطقة، وكانت تلك الأسباب المُعلنة دافعًا كافيًا لقطع العلاقات والبدء في تحركات سياسية داخلية وخارجية لـ«عزل» قطر سياسيًا واقتصاديًا، ولربما يعد ذلك مناسبةً للوقوف على مراحل تاريخ قطر، وعلاقتها بتمويل الجماعات المسلحة.


قطر: من الإمارة إلى الدولة

هناك إجماع في المصادر المتوفرة عن تاريخ قطر على أنها مرت بثلاث مراحل حاسمة: مرحلة التحول من القبلية إلى الإمارة، ثم مرحلة إنهاء النفوذ العثماني ومحاولات الاستقلال عن النفوذ الأجنبي البريطاني، ثم مرحلة الاستقلال وبدء الدولة [1]. فأما مرحلة التحول من القبلية للإمارة، فتبدأ تحديدًا مع ضعف النفوذ العثماني على منطقة الخليج العربي وبداية ظهور «بني خالد» كقوة قبلية لها كلمة ذات صدى في عام 1670م.

فقد سيطر العثمانيون على المنطقة في عام 1551م، ثم فوَّضوا القبائل والعشائر الموجودة بالفعل لإدراتها بشرط إعلان الولاء للعثمانيين؛ ومن هذه القبائل «بنو خالد». ولطبيعة المنطقة البدوية، كان الترحال سببًا رئيسًا في عدم قدرة العثمانيين على إقامة حدود ثابتة لكل عشيرة أو قبيلة، بالإضافة إلى انشغال العثمانيين بقضايا وصراعات أكبر خلال القرن السابع عشر. وفي وسط تلك الحالة من انعدام قدرة العثمانيين على المراقبة الدائمة للمنطقة، نمت قبيلة «بني خالد» واشتد ساعدها حتى أعلنت استقلالها عن العثمانيين في عام 1670م [2].

برزت قبيلة «آل ثاني» بزعامة الشيخ «محمد آل ثاني» الذي تمكن من استغلال تلك النزاعات، إلى جانب ضعف «آل خليفة»، وقدرته على تدبير شأن «الموارد» الاقتصادية.

وبإمساك «بني خالد» بمقاليد المنطقة، بدأوا في تنفيذ نظام مشابه لنظام العثمانيين؛ إذ هم فوَّضوا الحكم للقبائل المختلفة الموجودة بالمنطقة مقابل ولائهم ودفع أموال ثابتة، وكانت معظم رقعة قطر مفوضة لـ«آل مسلم». لكن، بمرور الوقت بدأ «آل مسلم» في فرض الضرائب الباهظة، في وقت من القحط والنزاعات القبلية؛ مما أجج القبائل عليهم، ومن ورائهم «بني خالد».

وتفاقم الأمر في عام 1766 حين بدأ «آل خليفة» في الدخول إلى الزبارة والاستقرار فيها، ثم أعلن «محمد بن خليفة» استقلاله عن «آل مسلم» و«بني خالد»، وقام ببناء قلعة مرير في عام 1768م، وانتهى الأمر بأن انتصر على «آل مسلم» و«بني خالد»؛ مؤسسًا بذلك للبدايات الفعلية لإمارة قطر المستقلة [3].

ثم تلا ذلك نزاعات عدة، وخلافات نشبت بين «آل خليفة» وعدة قبائل مجاورة؛ نظرًا للترحال وتقلبات المنطقة المشار إليها. وفي الوسط من ذلك برزت قبيلة «آل ثاني» بزعامة الشيخ «محمد آل ثاني» الذي تمكن من استغلال تلك النزاعات، إلى جانب ضعف «آل خليفة»، وقدرته الخاصة على تدبير شأن «الموارد» الاقتصادية للمنطقة؛ الأمر الذي ساعده على توحيد القبائل في قطر لمواجهة «آل خليفة» والتخلص من حكمهم.

وقد تم الأمر لـ«آل ثاني» في الأخير نتيجة لعدة أمور أهمها: الصراع بين الدولة السعودية الأولى (1744م-1818م.) وبين العثمانيين الذي انتهى بانتصار «محمد علي باشا» و«إبراهيم باشا» مبعوثيْ العثمانيين في تلك المعارك؛ الأمر الذي مهَّـد لسيطرة «آل ثاني» على قطر [4]. كذلك انتصار «آل ثاني» على «آل خليفة» في معركة «جبل الوكرة الطويلة» عام 1868م؛ وقد انتهى بإعلان استقلال قطر عن سائر القبائل تحت إمرة «آل ثاني». وأيضًا، لجوء «محمد آل ثاني» لتوقيع اتفاقية مع بريطانيا في العام نفسه تؤكد الاستقلال الرسمي لقطر تحت حكم «آل ثاني»[5].


آل ثاني والسيطرة البريطانية

استمرت الصراعات العسكرية بين «آل ثاني» و«آل سعود» من جهة، كذلك المعارك السياسية بينهم وبين «آل خليفة»، فضلاً عن العثمانيين، والبريطانيين من جهة أخرى. وبمرور الوقت، انحسر الصراع ليكون مع العثمانيين والبريطانيين. لكن عبر رغبة العثمانيين المباشرة في السيطرة على قطر بفرض إلزامات قانونية وضريبية مُلزمة، تصاعدت حدة الأزمة لتصبح معركةً حربية بين قطر والعثمانيين انتهت بموقعة «الوجبة» عام 1893م. والتي شهدت انتصار قطر؛ الأمر الذي تركها في مواجهة بريطانيا بشكل مباشر [6].

وقد ساعدت عدة عوامل على تصاعد مد بريطانيا لعل أهمها التزامن مع فترة الوهن العثماني آنذاك، وإرهاصات الحرب العالمية الأولى، كذلك التسليم الرسمي للدولة العثمانية بإمكانية زوال سيادتها كليةً عن قطر. وهنا، بدأت سلسلة من الاتفاقيات بين قطر وبريطانيا كان أهمها اتفاقية عام 1916م، والتي نصت على تعاون شبه كامل بين البلدين؛ خاصةً التعاون العسكري والأمني نظرًا لتوجس قطر من المد السعودي وتهديده لها من جهة، ولرغبة بريطانيا في الاحتفاظ بحق التدخل العسكري متى عنَّ لها ذلك من جهة أخرى [7].

وفي السنوات التي تلت عام 1916م، بدأت قطر في سلسلة من المباحثات مع بريطانيا حول ضرورة تسليح الأخيرة وفقًا لبنود الاتفاقية، لكن ظلت بريطانيا عازفة عن تسليحها مكتفية بمطالبة السعودية بعدم المساس بجارتها.

وكانت هناك مساعٍ مكثفة من الجانب البريطاني لإدخال مبعوث بريطاني في قطر، لكن الشيخ «عبد الله بن القاسم آل ثاني» ظل يقظًا لتلك المحاولات مانعًا إياها، وبوفاة الشيخ «عبد الله» تولى «علي بن عبد الله آل ثاني» الحكم في 1949م، ووافق على إدخال مسئول أمني بريطاني في قطر، وأعقب ذلك دخول مبعوث رسمي لبريطانيا في قطر [8].

قد يستغرب البعض من السعي البريطاني الحثيث على إدخال مثل ذلك المبعوث خاصةً وأن قطر لا تمثل أي تهديد عسكري من جهة، كذلك فبريطانيا قد نحت بعد الحرب العالمية الثانية سياسة خارجية أقل رغبة في التدخل المباشر في الدول الأخرى بشكل عام. لكن لذلك السعي ما يُفسره؛ وهو اكتشاف البترول في قطر ورغبة بريطانيا في الحصول عليه بشدة [9].

ولكن، مع تطور التعديلات الإدارية في البلاد بدايةً من الستينيات، ومع إعلان بريطانيا انسحابها من المنطقة بشكل عام في 1968م، بدأت قطر تعي ضرورة تحقيق الاستقلال التام وهو ما تحصل لها في نهاية المطاف عام 1971م. وفي فترة التسعينيات برزت هذه الدولة الصغيرة للساحة العالمية معتمدة على موارد الغاز العظمى لتصبح قوة اقتصادية فعالة ونشطة على المسرح العالمي [10].


قطر: بين الجماعات المسلحة والثورات العربية

في بداية القرن العشرين حاولت بريطانيا إدخال مبعوث بريطاني لقطر، لكن الشيخ «عبد الله بن القاسم آل ثاني» منع هذه المحاوﻻت

قد يُلقي العرض التاريخي السابق بعض الضوء على وجود عوامل أساسية مُحركة لقطر عبر تاريخها، لعل أهمها: الخطر الدائم الممُثل في السعودية، واعتمادها على دورها القبلي، ومن بعده «مواردها البترولية» لجلب المداد العسكري والسياسي لها، وقدرة سياسييها على اقتناص الفرص متى سنحت. هذه العوامل وضعت في قالب جديد تحت إمرة الشيخ «حمد بن خليفة آل ثاني»؛ فهو أطلق ما يمكن أن يُصطلح عليه بالقوة الـقطرية «الناعمة».

فنظرًا لغياب «سردية قومية» قطرية من جهة، وللظروف الجيوغرافية والعسكرية من أخرى؛ أصبح لزامًا على هذه الدولة أن تستغل عوامل بعينها كي تجذب إليها الاستثمارات وأعين العالم. ولذلك، فقد وُضعت موارد الدولة نحو مشاريع اقتصادية عملاقة لاقت نجاحًا عالميًا منذ التسعينيات [11]، مثل: إنشاء شبكة «الجزيرة الإعلامية»، الإصلاحات التعليمية الكبرى، التوسعات البحثية في مجال الطاقة النظيفة، ودعم الرياضة بشكل واضح. هذه المشاريع الناعمة، بلغة «جوزيف ناي»[12]، درَّت على قطر أرباحًا كبرى جعلت منها قوة اقتصادية، وعالمية بالفعل.

طورت قطر سياسة خارجية ﻻ تستند لأي شيء سوى مصالحها، وتعتمد على «البرغماتية»؛ أي التعامل وفقًا للواقع، لا للتحيزات ولا الأيديولوجيات.

ولعل هذه القوة الناعمة، بالإضافة إلى العوامل المحركة لقطر عبر تاريخها هي ما جعلتها تُطور سياسة خارجية تعتمد على «البرغماتية»؛ أي التعامل وفقًا للواقع، لا للتحيزات ولا الأيديولوجيات [13]. وهذا ما أكده «برنارد هايكل» إذ لاحظ أن قطر «لا تستند لأي شيء سوى مصالحها، وهو ما يدفعها إلى تكوين تحالفات متى رأت فيها فرصة مناسبة»[14].

ويمكن لذلك أن يتضح متى تتبعنا سياستها في التعامل مع الثورات العربية؛ فقبيل تلك الثورات، وتحديدًا منذ عام 2007م، بدأت قطر في انتهاج أمرين: تأكيد دورها على أنها وسيط قوي بين القوى العالمية وبين الدول العربية من جهة، وتقوية علاقتها مع الحكام العرب من أخرى، ونقطة تقوية العلاقات مع الحكام العرب تعد كاشفة لسياسة قطر المقصودة [15].

ففي سوريا وحدها، قُدرت الاستثمارات القطرية بين عاميْ 2007م-2010م. بحوالي 12 بليون دولار أميريكي [16]. كذلك في مصر، بدأت قطر في عام 2010م في اتخاذ خطوات من أجل تحالف اقتصادي مع «حسني مبارك»؛ ولعل ما يبرز ذلك تلك الزيارات المتبادلة بين «مبارك» وبين الأمير «حمد بن جاسم»[17]. حتى وصل الأمر بأحد كبار دبلوماسيي مصر للتأكيد على أن «مصر تقبل الدور الدولي والإقليمي الرائد الذي تريد قطر بدأه»[18].

لكن مع الثورات العربية في 2011م، تغير الوضع بالكامل؛ فقد أصبح هناك عدة تعقيدات/ لاعبين جددًا كان لزامًا على قطر التعامل معهم: الإسلاميين، الحكام العرب المنبوذين من شعوبهم، والفرصة السانحة أمام قطر لدعم دورها الإقليمي الذي سعت من أجله.

أما الإسلاميون، فإن قطر مثّلت لكثير منهم، وخاصة أعضاء جماعة «الإخوان المسلمين»، ملجأ من ملاحقة الأنظمة العربية لهم منذ حقبة «جمال عبد الناصر»، و«مجزرة حماة» التي أشرف عليها «حافظ الأسد»[19]. وباستقرارهم في قطر، بدأ هؤلاء الفارون بالانخراط في الأجهزة التعليمية القطرية وأنشأوا روابط قوية مع البيروقراطية القطرية، إذا جاز التعبير [20].

كذلك، فقد قامت قطر بإيواء الدكتور «يوسف القرضاوي» واستغلال شعبيته لدعم «قواها الناعمة»، خاصة عبر منبر الجزيرة [21]، ولكن كل هذا تم تحت تعهد من الإسلاميين الفارين بألا يتدخلوا في الشأن السياسي الداخلي لقطر [22].

كذلك، فقد أشارت عديد من التقارير الرسمية إلى جانب الأبحاث العلمية الموثقة إلى أن عدة دول قد مولت على مدار سنين جماعات إسلامية مسلحة، وتحديدًا القاعدة؛ هذه الدول هي: السعودية، قطر، الإمارات، والكويت [23]. وغني عن البيان اختلاف دوافع هذه الدول؛ فإذا صح تمويل قطر لبعض هذه الجماعات فإنما كان ذلك بهدف ضمان حليف مسلح لطالما بحثت عنه في تاريخها.

بعد انطلاق ثورات الربيع العربي قامت قطر بدعم الجماعات الإسلامية للوصول للحكم، بحثا عن موضع قدم لها

على أن الثورات العربية قد جاءت بمشهد جديد؛ فقد أصبح عدد من الحكام العرب مرفوضًا على المستوى الشعبي، ومن أخرى أمكن للإسلاميين أن يلعبوا دورًا أكبر في العملية السياسية إبان تلك الثورات؛ ولهذا قامت قطر بدعم الجماعات الإسلامية للوصول إلى الحكم بحثًا عن موضع قدم لها.

ويظهر هذا مثلاً في موقفها من ليبيا؛ فالبرغم من علاقتها الممتدة مع الرئيس السابق «معمر القذافي»، إلا أنه حين سنحت الفرصة لها أن تتدخل وتحث الدول على تحرك عسكري في ليبيا فقد فعلت ذلك بنجاح، ثم هي وثقت علاقتها ببعض الجماعات الإسلامية الليبيبة بعد ذلك [24].

وفي «حالة الاستثناء» الإقليمية تلك، وفي مشهد بدأت قطر تتحرك بالفعل تجاه إبراز نفسها على أنها ذات صوت في المشهد الدولي؛ فقد آن لقواها الناعمة أن تقوى عسكريًا بعدة تحالفات على كل المستويات: الدولي منها، وغير الدولي، في المقابل بدأت عدة دول عربية ترى فيها «كيانًا يجب الحذر منه»، على أنه بعد هزيمة التيار الإسلامي وتصاعد الحرب في سوريا، والتغيرات الاقتصادية الكبرى في المنطقة، برزت فرصة لتلك الدول كي تبدأ في أخذ خطوات عكسية مباغتة ضد قطر بالفعل؛ وهو ما تفاقم في الأزمة الحالية.

إن الوضع الإقليمي العربي الآن في مرحلة حرجة على كل الأصعدة. لكن لا يجب أن ننسى أنه وضع تشاركت فيه معظم، إن لم يكن كل الدول العربية بطريقة أو بأخرى؛ فلا يمكن تحميله بالكامل لدولة واحدة قط.

وبكلمة، إن الأمر الذي فجَّر الأزمة الحالية على الصعيد العربي هو منطق تشربته العقلية الحاكمة، بل والمحكومة، منذ بداية ظهور الدولة القومية: وهو منطق نفي الآخر والعداوات المتخيَّـلة؛ تلك العداوات التي دومًا ما تبحث عن فرص قد تودي بالجميع إلى الهاوية في نهاية المطاف.

المراجع
  1. طارق نافع الحمداني، »قطر: من النشوء إلى قيام الدولة الحديثة «، (العراق: الوراق للنشر المحدودة، 2012) صـ: 7-11
  2. المصدر السابق، صـ: 30-35
  3. المصدر السابق، صـ: 35-43
  4. Kristian Ulrichsen, «Qatar and the Arab Spring», (New York: Oxford University Press, 2014), p.15, and: James Wynbrondi, «a Brief history of Saudi Arabia», (USA: Library of Congress, 2004) p. 142-143
  5. ج. ج. لوريمر، »دليل الخليج « ترجمة: قسم الترجمة بمكتب صاحب السمو أمير دولة قطر، القسم التاريخي، الجزء الأول، (قطر)
  6. أحمد زكريا الشلق، » فصول من تاريخ قطر السياسي «،(الدوحة: مطابع الدوحة الحديثة المحدودة، 1999)، صـ 64
  7. المصدر السابق، صـ:64، 66 حتى نهاية الفصل
  8. المصادر السابق، بداية من صـ 88
  9. المصدر السابق، الفصلان الثالث والخامس
  10. المصدر السابق، صـ: 128
  11. Kristian Ulrichsen, «Qatar», p. 37-45
  12. Joseph Ney, «Soft Power», (New York: Public Affairs, 2004)
  13. Ulrichsen, «Qatar», p. 122-123
  14. Bernard Haykel, «Qatar and Islamism», NOREF Policy Brief, Feb 2013, p.2
  15. Ulrichsen, «Qatar », p. 109
  16. Ibid.
  17. Ibid., p.108
  18. «Egypt and Qatar Pursue new economic and political cooperation», AL-Ahram Online, December11, 2010
  19. Ulrichsen, «Qatar», p. 102
  20. Ibid.
  21. Ibid., p. 103
  22. Ibid.
  23. See for example: Ramtanu Maitra, «ISIS: Saudi-Qatari-Funded Wahabi terrorists worldwide», Executive Intelligence Review, August 29, 2014
  24. Ulrichsen, «Qatar», p. 122-131