ليست الموادعة بين أهل مصـر والنوبة موادعة هدنة، وإنما هي هدنة أمان؛ نعطيهم شيئًا من قمح وعدس، ويعطوننا رقيقًا، ولا بأس بما يُشترى من رقيقهم. كان البقط المرتب على النوبة وهو الرسم على ما قُرر: في كل سنة أربعمائة رأس من الرقيق، وزرافة واحدة. لأمير المؤمنين ثلاثمائة وستون رأسًا، وللنائب بمصـر أربعون رأسًا. ويُطلق لرسله، إذا وصلوا بالبقط تامًا ألف وثلاثمائة أردب قمح، لرسله منها ثلاثمائة.

الفقيه والعالِم المصري يزيد بن أبي حبيب (ت 128هـ) متحدثًا عن اتفاقية «البقط» بين الفاتحين المسلمين والنوبة.


القواعد الثلاث!

كانت النوبة منذ ما قبل الفتح الإسلامي لمصر دولة مسيحية عاصمتها دنقلة وتقع في أعالي النيل، وكانت حدودها تمتد من بلاد الحبشة جنوبًا إلى تخوم أسوان شمالًا، وهذه الدولة انقسمت تاريخيا إلى مملكتين أقواهما مملكة الشمال التي كانت عاصمتها دنقلة والمتاخمة لمصر.

كانت العلاقة بين مصـر والنوبة منذ الفتح الإسلامي لمصر، تقوم على أُسس ثلاثة هي:

الأول: مدى التزام النوبيين باتفاقية البقط مع الفاتحين المسلمين الأوائل لمصر بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنه.

الثاني: مدى ضعف مصر وقوتها، واستغلال النوبيين لهذا الضعف للإغارة والتوسّع.

الثالث: مقدار الحرية الدينية المتاحة للمسيحيين في مصر أو التضييق عليهم الأمر الذي كان يضطر النوبيين إلى إحداث القلاقل والاضطرابات في الجنوب، لفك الضغط عن إخوانهم المسيحيين في مصر [1].

لقد استقر الحال بين المسلمين والنوبة على اتفاقية سُميت «بـالبقط» كان يتم بموجبها إرسال هدية سنوية مقررة من النوبة إلى مصر والعكس، قال يزيد بن أبى حبيب:

ليست الموادعة بين أهل مصـر والنوبة موادعة هدنة، وإنما هي هدنة أمان؛ نعطيهم شيئًا من قمح وعدس، ويعطوننا رقيقًا، ولا بأس بما يُشترى من رقيقهم. كان البقط المرتب على النوبة وهو الرسم على ما قُرر: في كل سنة أربعمائة رأس من الرقيق، وزرافة واحدة. لأمير المؤمنين ثلاثمائة وستون رأسًا، وللنائب بمصـر أربعون رأسًا. ويُطلق لرسله، إذا وصلوا بالبقط تامًا ألف وثلاثمائة أردب قمح، لرسله منها ثلاثمائة[2].

لكن العلاقات كانت تشهد تقلبًا في العصور التالية الأموية والعباسية والفاطمية، ونتيجة لذلك سمحت الحكومات العباسية والفاطمية بهجرات القبائل العربية إلى بلاد النوبة، واستقرت هذه القبائل في تلك البلاد، واشتغلت بالزراعة، وأدى ذلك إلى تملكها للأراضي الزراعية وتوريثها لأبنائهم من بعدهم، وترتّب على ذلك أن خالط العرب المهاجرون أهالي النوبة وتزوّجوا منهم واستفادوا من نظام الوراثة عندهم الذي يعطي حق الإرث لابن البنت أو ابن الأخت دون ولد الصُلب [3]!


حروب المماليك وإضعاف النوبة

واستمر الحال على ذلك حتى شهدت مصـر في بدايات عصـر السلطان المملوكي الظاهر بيبرس (حكم من 658 – 676هـ) هجومًا مباغتًا وقويًا من دولة النوبة، ويسوّغ بعض المؤرخين هذا الهجوم على مصـر بسبب من العصبية النوبية المسيحية؛ «فإنه كان من الصعب أن تمر موجة الحماسة الدينية التي عمّـت عصر الحروب الصليبية دون أن يلحق مملكة النوبة بعضًا من رذاذها، وإذا كان الصليبيون في بلاد الشام مسيحيين مخلصين يهددون الكيان الإسلامي، فإن النوبيين كانوا عندئذ أيضًا مسيحيين لا يقلون إخلاصًا لعقيدتهم، وتهديدًا للمسلمين في جنوب مصر عن الصليبيين في الشام»[4].

استغل داود ملك النوبة آنذاك فرصة انهماك بيبرس بحروبه ضد المغول والصليبيين والأرمن في شمال بلاد الشام، فهاجم جنوبي مصر سنة 671هـ، فتمكن من نهب أسوان وأسر جماعة من سكانها، كما هاجم ميناء عيذاب على شاطئ البحر الأحمر، وهو الميناء شديد الأهمية بالنسبة للتجارة المصرية المملوكية، فضلا عن كونه الميناء الرئيس آنذاك للحُجاج.

وبسبب انشغال بيبرس في حروبه الشامية لم يتمكن من قيادة الجيش المملوكي على المملكة النوبية، لقد أراد أن يقود الحملة العسكرية ضد النوبة كما كان يفعل في الشام وآسيا الصغرى والفرات لتأديبهم على هذه الخيانة والمباغتة، لكنه في نهاية الأمر أرسل حملة عسكرية بقيادة الأمير آقسُنقر الفارقاني، مستغلًا لجوء ابن أخت ملك النوبة «مشكد» – كما تسميه المصادر التاريخية – إلى جانب المماليك.

تحركت هذه الحملة في شهر شعبان سنة 674هـ، وكان الظاهر قد أمدّها بكل ما تحتاجه من المؤن والعتاد، واستصحبت معها مشكد ابن أخت شكنده بغرض تمليكه النوبة حتى يكون ولاؤه للظاهر بيبرس دون غيره.

وبالفعل استطاع هذا الجيش المملوكي أن يهزم داود ملك النوبة، ويتعقّب قواته في بلاده، فاستولى على المناطق المهمة في تلك البلاد مثل قلعة الدقم وبلاد الجبل التي أبقى آقسنقر على ملكها.

عقب هذه الهزيمة وتنصيب مشكد أو شكندة في المملكة النوبية، تمت اتفاقية بين المماليك وشكندة نصّـت على ما يلي:

  • أن يُرسل إلى القاهرة جزية سنوية مقررة عبارة عن: 3 فيلة و3 زرافات و5 فهود و100 فرس و100 رأس من البقر الجيد.
  • أن يكون نصف مال النوبة للسلطان المملوكي ونصفها الآخر لعمارتها.
  • أن تخضع بلاد العلى وبلاد الجبال وهي المناطق الشمالية من النوبة للسلطة المملوكية مباشرة لقربها من أسوان.
  • أن يدفع كل نوبي دينار سنويًا إلى السلطة المملوكية نظير جزية، وقد اختاروا هذا الشرط عوضًا عن الإسلام أو القتل.
  • أن يعاد تفعيل اتفاقية البقط القديمة بين الجانبين [5].

وهكذا نرى انتصارًا سياسيًا وعسكريًا ظافرًا للملك الظاهر بيبرس، ولو ظلَّ النوبة على اتفاقهم القديم الذي وقّعوه مع الصحابي الجليل عبد الله بن سعد بن أبي السـرح سنة 31هـ المعروف بالبقط لكان خيرًا لهم، ولأول مرة يتم إخضاع النوبة لسيادة دولة إسلامية هي الدولة المملوكية منذ ظهور الإسلام.

وسرعان ما قُبض على داود فأُتي به إلى القاهرة، واعتقله الظاهر بيبرس في قلعة الجبل فكان آخر العهد به.

والحق أن تدخل المماليك في شئون مملكة النوبة زمن الظاهر بيبرس، وتبعيتها السياسية لهم كان سببًا في تدهور أحوال تلك المملكة وضعفها السياسي والعسكري؛ إذ ساعدت على ظهور بعض الدول الإسلامية في غرب السودان مثل الكانم والبرنو وهي الدول التي بدأت ترتبط بالمماليك بعلاقات راسخة طيبة، جعل مملكة النوبة محصورة في نطاق من الدول الإسلامية المتعاونة.

لكن ذلك لم يمنع ملك النوبة سمامون عن تراجعه عن قرار عدم دفع الجزية التي قررها المماليك عليه في العقد الثامن من القرن السابع الهجري، لذلك أرسل السلطان قلاوون إليها جيشين الأول سنة 685هـ والآخر سنة 688هـ، واستطاع المماليك أن يهزموا النوبة في المرتين، مع إبقاء حامية صغيرة للإشراف على تنفيذ الاتفاقيات المسبقة [6].

وفي عام 704هـ سافر الملك النوبي «آياي» إلى القاهرة حاملًا معه الهدايا، وقد جدد ولاءه للسلطان الناصر محمد بن قلاوون وطلب منه مساعدة عسكرية ضد منافسيه من السودان في الجنوب، فاستجاب السلطان له وأرسل معه فرقة عسكرية بقيادة والي قوص الأمير سيف الدين طقصبا، وأنهت الحملة مهمتها وعادت في العام التالي، «بعد غيبتهم تِسْعَة أشهر، ومقاساة أهوال فِي محاربة السودَان وَقلة الزَّاد»[7].

وبعد ست سنوات ثار الأمير كرنبس على أخيه آياي وقتله وحل محله ملكا على النوبة , وشعر كرنبس أنه في حاجة إلى دعم المماليك فزار القاهرة وحمل معه الجزية والهدايا وأعلن ولاءه للسلطان الناصر سنة 711هـ [8].

بيد أنه انقلب على النفوذ المملوكي، مما جعل الناصر يرسل حملة عسكرية تأديبية بقيادة الأمير عز الدين أيبك جهاركس، وأرسل مع الجيش أميرا نوبيا كان قد أسلم وهو سيف الدين عبد الله برشنبو وهو ابن أخت الملك السابق داود، وعندما علم كرنبس بأمر الحملة أرسل ابن أخته كنز الدولة إلى السلطان مستفسرًا حول هذه الحملة، ومعه كتاب يسأله فيه أن يشمله بعطفه، ويوليه المُلك، وقال في رسالته للناصر: «إذا كان يقصد مولانا السلطان أن يولي البلاد لمسلم، فهذا مسلم، وهو ابن أختي، والمُلك ينتقل إليه من بعدي»[9]، لكن الناصر لم يجب كرنبس إلى طلبه، واعتقل كنز الدولة، ووصلت الحملة إلى دنقلة ففر كرنبس وأخوه أبرام، لكن الفرقة المملوكية استطاعت القبض عليهما، وعادوا بهما إلى القاهرة سنة 716هـ [10].

وتم تعيين عبدالله برشنبو ملكا على النوبة، لكن ذلك لم يلق قبولًا من النوبيين، والتفوا وراء كنز الدولة الذي عفا عنه الناصر, واستطاع كنز الدولة قتل الملك برشنبو, وأعلن نفسه حاكما على النوبة, ولم يقبل الناصر ذلك, فأفرج عن أبرام أخي الملك كرنبس، وأمر بالمسير والقبض على كنز الدولة، وقام الأخير بالتنازل عن الملك لأبرام، لكن أبرام عاد للملك ثانية بعد موت كنز الدولة بصورة فجائية!

لقد عدّ الناصر كنز الدولة ثائرًا متمردًا، فجرّد حملة عسكرية بقيادة الأمير علاء الدين بن على قراسنقر سنة 723هـ ومعه خمسمائة من أجناد الحلقة أو قوات الاحتياط المملوكية, ومعه كرنبس الذي أسلم أثناء فترة أسره؛ لينصّبه على عرش النوبة, وتمكنت الحملة من تنفيذ الهدف المقرر لها، لكن في النهاية استطاع كنز الدولة استرداد عرشه بعد مغادرة الحملة، وتعد هذه الحملة هي الحملة الأخيرة التي أرسلها المماليك إلى النوبة، وانشغل المماليك بمشاكلهم الداخلية في مصـر، وورث أولاد وأحفاد كنز الدولة وكانوا مسلمين العرش في دنقلة حتى العصـر العثماني [11].


انهيار دولة النوبة

الحق أن تدخل المماليك في شئون مملكة النوبة زمن الظاهر بيبرس، وتبعيتها السياسية لهم كان سببًا في تدهور أحوال تلك المملكة وضعفها السياسي والعسكري
وبهذا، قُضي على دولة النوبة المسيحية ذات العرق الواحد والدين المسيحي، ودخل أغلبهم الإسلام طواعية في العصرين المملوكي والعثماني.

لقد انتهت الحملات العسكرية المملوكية التي كانت تخرج بانتظام منذ الظاهر بيبرس، لأسباب عدة، ولعل السبب الأبرز أن كنز الدولة كان مسلمًا انحدر من أصل عربي صريح، ولم يقف الأمر عند اعتلاء ملك مسلم للعرش، وإنما أخذت بلاد النوبة منذئذ تصطبغ بالصبغة العربية الواضحة نتيجة لهجرة بعض القبائل العربية، ومن ثم لم يعد هناك مبرر لأن يقوم سلاطين المماليك بالتدخل في شئون دولة مجاورة ذات صبغة عربية يحكمها ملوك مسلمون، خاصة أن هذه الدولة في عهدها الجديد كانت قد جنحت إلى السلم، ولم تعد مصدر خطر على حدود مصر الجنوبية، وإذا كان سلاطين المماليك قد تمسّكوا فيما مضى بضرورة قيام ملوك النوبة بإرسال البقط، فإن هذه الضريبة صار لا مبرر لها أيضًا بعد أن غلب الطابع العربي الإسلامي عليهم، ويتضح ذلك من قول القلقشندي: «فبعث السلطان كرنبس إليهم فملكهم وانقطعت الجزية عنهم من حين أسلم ملوكهم»[12].

وسرعان ما تشرذمت دولة النوبة بسبب انتشار القبائل العربية وعلى رأسها جزء من قبيلة جُهينة «في بلادهم واستوطنوها، وعاثوا فسادا، وعجز ملوك النّوبة عن مدافعتهم فصاهروهم مصانعة لهم، وتفرّق بسبب ذلك ملكهم حتى صار لبعض جهينة من أمّهاتهم على رأي العجم في تمليك الأخت وابن الأخت، فتمزّق ملكهم واستولت جهينة على بلادهم، ولم يحسنوا سياسة الملك، ولم ينقد بعضهم إلى بعض، فصاروا شيعًا ولم يبقَ لهم رسم ملك، وصاروا رحّالة بادية»[13].

وبهذا قُضي على دولة النوبة المسيحية ذات العرق الواحد والدين المسيحي، ودخل أغلبهم الإسلام طواعية في العصرين المملوكي والعثماني، وخضعت هذه المناطق لنفوذ المماليك وبني كنز الدولة وهم من العرب الأقحاح ثم تحت الحكم العثمانيين ثم تحت سيطرة محمد علي وأسرته على هذه البلاد وضمها لمصر حتى استقلال السودان الحديث، ولا يزال النوبيون منتشرين فيما بين أسوان شمالاً وحتى شمال الخرطوم جنوبًا وسط أغلبية من القبائل العربية حتى الآن.


[1] عطية القوصي: تاريخ دولة الكنوز الإسلامية ص43- 46.[2] النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب 30/348، 349.[3] القوصي: السابق ص46.[4] سعيد عبد الفتاح عاشور: العصر المماليكي ص80.[5] المقريزي: السلوك 2/94، والمنصوري: زبدة الفكرة ص149.[6] محمد حمزة إسماعيل الحداد: السلطان المنصور قلاوون ص96، 97.[7] المقريزي: السلوك 2/410. [8] محمد شعبان أيوب: تاريخ المماليك ص520.[9] النويري: نهاية الأرب 32/238.[10] المقريزي: السلوك 2/516.[11] المقريزي: السلوك 3/67، وجمال الدين سرور: دولة بني قلاوون ص156.[12] القلقشندي: صبح الأعشى 5/267، وسعيد عاشور: العصر المماليكي ص100- 102.[13] القلقشندي: صبح الأعشى 5/267.