في البداية كان كل شيء على ما يرام، طفلة جديدة لأسرة مصرية من الطبقة المتوسطة، أعوام قليلة حتى تصحبها أمها من يدها الصغيرة إلى المدرسة، ستمضي أعوامها بالمدرسة من تفوق إلى تفوق، وسط تشجيع وحفاوة غير عاديتين من والدتها.

أذكر كل مرة أخبرتني فيها أمي أنه عليّ أن أتفوق، وأن أنهي مساري التعليمي بتفوق باهر وأكمل دراستي الجامعية ثم الدراسات العليا، وأحمل الدكتوراه، علي أن أكمل تعليمي وأن أعمل في مهنة مرموقة، لأحقق ذاتي، علي ألا أتخذ مسارها في الحياة، وألا أفني عمري في الزواج والإنجاب والتربية، أن أكون شيئاً مهماً.

هذا ما أخبرتني به أمي في البداية…

كانت الأمور تسير على ما يرام، تمركزت قواي خلف نظارتي وكتابي وعرفت كل شيء عن مهارات الدراسة والنجاح بتفوق، وحظيت بالرضا. كل ذلك قبل أن تنقلب الدنيا رأسًا على عقب، تخرجت في الجامعة، بدأت بالبحث عن عمل لأحقق ذاتي، لكن كان عليّ أن أجد عملاً لا يخرجني من المنزل، ويكفل لي قضاء سبع ساعات في أعمال المنزل، عليً أن أترك نظارتي ومهارات الدراسة والتحصيل جانباً وأن أتقن بدلاً منها مهارات وضع مساحيق التجميل ورعاية المنزل.

بداخلي بدأت المعركة، كان علي أن أمزق كل صورة رسمتها لنفسي قديمًا، ارسم صورة جديدة مشوهة لفتاة بثمانية أطراف جميعها تجتذب من أماكن شتى، عمل، مسيرة مهنية ناجحة، جلسات السمر والتواصل الاجتماعي، الدراسة، العناية بالبيت، كان علي أن أكون أمي وخالتي وعمتي وأنا في ذات الوقت.

علي دوماً أن أكون صورة تشبه الجميع ويرضى عنها الجميع، لكن لا تجيب عن سؤال واحد: من أنا؟


في البدء كانت الآلة

أعلم أن أمي كانت نتاج سؤال ممتد لقرن خلا محازيًا لسؤال المجتمع عن هويته، عندما كان يدخل بمكوناته كافة دوامات من إعادة الهيكلة وفق فلسفات متناقضة. ربما جدتي، أو لجدتين علتا، لم تكن واحدة منهن بحاجة لتلقي ابنتها فى دوامة من التصورات كتلك، كل واحدة منهن كانت تعيش في بيت كبير لأسرة ممتدة في حي صغير بمدينة صغيرة يعرف كل سكانها بعضهم البعض.

تعرف جدتي الخبز والحياكة وكافة مهارات إعداد الطعام من الصفر، لكن مقدار جودة خبزها لم تكن لتحدد من هي ولا لترسم تصورًا لنفسها أو للحياة، كما لم تكن وظيفة جدي هي مصدر مكانته المجتمعية. بالأخير تكتسب جدتي مكانتها وتصورها عن ذاتها بكونها أنثى في مجتمع ديناميكي التفاعل، إنساني الهوية وتحمل الوظائف فيه بانسيابية عالية عن عاتق المرأة والرجل لتصبح وظائف مشتركة عامة، وبالتالي لا يحمل إثم النجاح أو الفشل فيها فرد واحد.

فالتربية لم تكن وظيفة جدتي وحدها، ولا جدي، في البداية هما يعيشان في بيت لأسرة ممتدة من الجد للأحفاد وأحفاد الأحفاد، تتوارث أدوار التربية تبعًا للسن لا للعلاقة البيولوجية، وباب هذا البيت مشرع دومًا، منفتح على الطريق الرئيسية، كعلامة على كونه جزءًا من سياق الطريق والمجتمع لا مجرد مكعب مظلم مقتطع من الصورة. كل المارين لهم في التربية نصيب، حتى صاحب محل البقالة وشيخ المسجد البعيد، الأطفال في مأمن يلعبون في الطرقات، لأن الحي كله بيت ودار رعاية وتربية.

لم تحمل جدتى عبء البحث عن إجابة سؤال (من أنا؟) بالأخير هي لم تكن مضطرة لتختار كلمة واحدة معبرة عن كينونتها، فهي ليست ربة منزل تسكنه 7 نساء على الأقل، وليست مربية لأن الجميع يربي، وليست حائكة ولا صاحبة عمل ما لأن عملها هو نوع من النشاط الطبيعي الذي تقوم به لتلبية احتياجاتها الشخصية واحتياجات أولادها أو لمساعدة جاراتها وتبادل المهام مع نسوة الحي لتقوم الحياة. إذاً جدتي كانت تكتفي بأنها هي هي.

كل ذلك كان قبل أن تختلق الآلة، فتحل محل الوظائف الحياتية اليومية، وتبني المصانع الكبرى في المدن، ويتكدس رأس المال بالمدينة على حساب القرى والأحياء. كان على إحدى جداتي أن تنتقل مع زوجها إلى المدينة، مخلفة وراءها بيتًا كبيرًا مزدحمًا بالأقارب، بعد ذلك سيهجر البيت تدريجيًا، ويتعلم سكانه كيف يسكنون شققًا حجرية صغيرة في وسط المدينة، منعزلون عن الطريق وعن الأقارب. ستفقد جدتي كل هذا الدعم الذي اعتادته، في المدينة لا شيء سوى العمل، كل الوظائف الحياتية تنتهي إلى خلق عامل جيد، وبعد سنوات ستنتهي إلى خلق مواطن جيد.

لم تمهل جدتي بعض الوقت لتدبر أمرها فيما يخص تكدس المهام الحياتية عليها بعد فقدها دعم المجتمع المتجانس، ستحل الدولة محل المجتمع سريعًا. الدولة ستهتم بالتربية والتعليم في مدارسها، وتهتم بالقضاء وحل المنازعات في محاكمها، وتحل محل السلطة الدينية والعرفية بوضع قانون خاص بها. لم تعد جدتي بحاجة لتجيب ابنتها على ما الصواب أو الخطأ، الكتب واللافتات الإرشادية تقوم بذلك كل صباح.

وما دامت الدولة تحمل هذه الأعباء عن المرأة، الأسرة، المجتمع، فبطبيعة الحال هناك مقابل، وهو بسيط، كل ما هنالك أن الدولة ستسعى من خلال ذلك لخلق المواطن الصالح لخدمتها والاهتمام بها ليس لخدمة أي شيء آخر، ولا حتى للاهتمام بسؤال (من أنا؟). بالضبط هذا ما صاغه عالم الاجتماع الشهير «إميل دوركايم» في مقولته: «الواجب الوظيفي يجب أن يحتل في قلوب الرجال المكان الذي كان يحتله الواجب الأسري».

غير أنه تمدد ليحتل قلوب الرجال والنساء على حدٍ سواء.


اللغز الأنثوي

في مكان ما من العالم كانت نساء لا أعرفهن، ولا تعرفهن جداتي، قد أمضين حياتهن في رعاية المنزل وترتيب أمور الأسرة، كن يرين كم أن هذا المنجز عظيم، وكم أن أطباقهن اللامعة دليل ساطع على نجاحهن الباهر في أداء مهمتهن في الحياة. كانت نظرية دوركايم قابلة للتطبيق حتى وإن تغلفت بثقافة الأسرة التي بقي منها بعض الشيء، فحال هؤلاء النسوة أن أدوارهن هي التي تعبر عن ذواتهن بشكل كبير.

وبما أن المجتمع يتحرك بمجمله ليلبي حاجات الدولة، فأدوار الأمومة ورعاية المنزل ليست في القلب من الحدث. التقطت «بيتي فريدان» تلك الحال التي كانت تغلي بها قلوب نساء أميركا والتي عانتها هي دون أن يتسنى للمجتمع التعبير عنها بجرأة، فمع تضاعف فرص النساء في التعلم؛ صار من الطبيعي أن تكمل الفتيات تعليمها الجامعي وفوق الجامعي، لكن ليس من الطبيعي بعد أن تخرج المرأة للعمل.

وفي مجتمع تتجلى فيه القيمة الذاتية للفرد بمقدار ما يقدمه لنهضة ورفاه مجتمعه وتمكين سيادة دولته كما يخبر دوركايم؛ فلا قيمة مباشرة واضحة لجهد سيدة أمريكية ثلاثينية العمر في اكتشاف أفضل أنواع مساحيق الغسيل، فهي لن تسهم في رفاه أمريكا وبالتالي هي لا تحمل قيمة ذاتية. لكن يمكن للمرء أن يجعل من أي شيء مصدرًا للرضا الذاتي ما لم يجد ذاته الأصيلة، حتى لو كان ذلك الشيء «مسحوق غسيل»، هذا بالضبط ما تمردت عليه «بيتي فريدان» في كتابها «اللغز الأنثوي».

وصفت فريدان في كتابها كيف بدأت النساء تضطرب من تعريفها لذاتها عبر أدوار دقيقة في المنزل، وكيف صارت أرواحًا خاوية بلا معنى، تلهث وراء التسوق، وأن تصير أجسامها أصغر بمقاسين أو ثلاثة. تقول إحداهن:

يذكرني ذلك كثيرًا بكلمات أمي وأنا صغيرة: «لا أريدك أن تكوني مثلي أريدك أن تكوني ذاتك». اختارت أمي لي العمل والدراسة لأكون ذاتي، نفس المسار الذي بدأته فريدان في كتابها، في حركة بندولية من أقصى التطرف إلى أقصاه؛ دشنت لرفع راية العصيان على مؤسسة الزواج بالكلية، بل والأمومة باعتبارها حالة بيولوجية تقهر النساء وتدخلهن تحت سطوة التصنيف والتسلط الذكورى.

الخط الذي سيمتد بعد ذلك للدعوة للسحاقية باعتبارها ثورة على سلطة الرجال، وتقنين عمليات الإجهاض وتمجيد هدم مؤسسة الأسرة بالكامل. عرف هذا التيار بالنسوية الراديكالية، وهو أشد التيارات النسوية عنفًا في معاداته لكل المظاهر الأنثوية، بدا ذلك منطقيًا في سياقه، فالتطرف ينتج تطرفًا.

لكن راديكالية فريدان لم تصل إلى أمي هنا، توقفت أمي عند سؤال مشوش بصوت خفيض حول اختيارات الذات وأدوارها، تركت أمي السؤال مفتوحًا لأعيد أنا صياغته والإجابة عليه.


الذات: الأزمة التي لا مسمى لها

أشعر على نحو ما بالخواء، بالنقص، أشعر كما لو أنني غير موجودة، بائسة أبدأ بالشعور أني بلا شخصية.

«من أنا؟» السؤال الذي تركتني أمي على أبوابه، والذي اجتمع في رحلة البحث عن جواب له أنا وجداتي في أزمان غابرات، وفتيات يحتسين أكوابًا من الشاي في حديقة لجارتهن بأميركا، وأمي، ومع ذلك، ثمة حلقة ما أفتقدها، وعثرة على أبواب الطريق.

يقول «ميشل فوكو»:

الذات مؤلف حياة يلزم إنجازها .. هل تناسب أفعالك أقوالك؟ هل حياتك وفية إلى مبادئك؟ هل تنظم وجودك بحسب المأثورات والحكم التي فتحت لك؟

ربما كانت تلك الحلقة المفقودة هي أزمة فقد لغة التواصل مع الذات، لسنوات كانت نظرة دوركايم هي ما يسيطر على الوضع، هنالك عندما تنبعث التصورات عن الذات بمقدار الإجابة على سؤال المجتمع، ليست فقط الإجابة عليه، بل الإجابة بدقة وصوابية عالية ترضي المجتمع عني. كأنثى عليها أن تغطي كل الجوانب التي يوجبها المجتمع، عليها لتحقق تصور ذاتي تفخر به أن تكون أمًا ناجحة كما يرى المجتمع الأم الناجحة، وموظفة مجدة، كما يحبها المجتمع، وعضو فاعل يسهم في رقي دولته.

هكذا وبكل بساطة تحول وجودها إلى مجموعة أدوار عليها أن تؤديها بدقة وصرامة لتحصل على ذات مستقلة قوية وجيدة، مستقلة هنا هي أكثر الكلمات سذاجة، فليس ثمة استقلالية في تصور أتجرعه كحبوب الدواء بيد مجتمعي، ويتحقق بقائمة مهام أضع أمامها علامة الإنجاز كل صباح.

من أنا؟

يقول «ميشيل فوكو»:

ليس الاهتمام بالذات دعوة إلى اللا فعل، بل إنه من يدفعنا إلى المساهمة بشيء ما في هذا العالم، مما يحدد موقعنا وما يشكل مبادئنا وأفكارنا، وعندما يتعلق الأمر بممارسة مسؤوليات سياسية معينة فإنه من الضروري أن تنظر إلى ذلك باعتباره وظيفة مؤقتة وليست هوية اجتماعية وأن من يلزم أن تحكمه دائمًا ذاتياتنا وليس الآخر.

ربما يا بنيتى الحبيبة أنا أيضًا سأتركك على أبواب سؤال «من أنا؟»، لكن ثمة أشياء أدركها اليوم ولم تخبرنها أمي، أنا أدرك ما هو ليس أنا، أدرك أنني لست مجموعة من الواجبات، ولست حرة حرية مطلقة أيضاً، أنا مجموع كل ذلك عندما أختاره بنفسي، أنا مجموع قناعات أرتبه وأنمقه حتى يبرز جميلاً عبر مجموعة أداءات مجتمعية ومجموعة أدوار، إن كنت أدرك أن نجاحي ليس مناطه حسن أدائي بل تمكني من اختيار خيار يتناسب مع ما أؤمن به.

أدرك أنني لست شكلاً أفرزه المجتمع ووضع حدوده وحروفه، أنا أبحث في كل آن، في كل شعور عن ذاتي، ولا أقبل أن أقترف الذنب الذي لا يغتفر، والذي أورثناه عبر عقود، ألا نستمعها.