كتابٌ مُغلق المعاني، كلماته عسيرة الفهم، مؤلفوه مجهولون مُعارِضون للسُلطة، آراؤهم تتجرأ على ثوابت الدين والسياسة، هل يُمكن تصوّر أن يحتلَّ حيزًا كبيرًا بتاريخ أمة الإسلام؟

هذا ما حققته رسائل «إخوان الصفا»، فبرغم سطورها المُتمردة، وعباراتها الغامضة، وكتّابها المارقين، وبرغم أنها لم تحظَ برعاية خليفة ولا بعناية بيت حكمة (مكتبة رسمية) ولا دعاية حَلَقة مسجد أو خُطبة جمعة، إلا أنها نجحت في حجز مكانٍ مهمٍ بتاريخ الثقافة الإسلامية.

هذه الرسائل كنزٌ لم يُقدّر بعد، لأنه لم يُعرف بعد.
طه حسين – مقدمة طبعة القاهرة للرسائل في العام 1928

يروي سليم الجندي في أطروحته «أبو العلاء المعري وإخوان الصفاء»، أنه لمَّا كانت الصحائف مُشتملة على ما لا يوافق الدين والسياسة، خاف أصحابها على أنفسهم أن يُصيبهم ما كان يُصيب الزنادقة والمُلحدين فكتموا أسماءهم، وبثّوا رسائلهم بين الورّاقين ووهبوها للناس ليصلوا إلى الغاية المقصودة من وضعها دون توقيع: التنوير.. فالثورة.

ويضيف:

كتمان الأسماء أفسح المجال لاختلاف الناس فيمن وضع هذه الرسائل، فقال فريق إنها كلام بعض الأئمة من نسل الإمام علي بن أبي طالب، وقال فريق آخر إنها من تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول، وامتدَّت القائمة لتشمل عددًا من كبار أسماء المثقفين والأدباء، مثل أبي سلمان محمد بن معشر وزيد بن رفاعة، وآخرين.

إلا أن الأكيد بلا أي ريب، أنها من وضْع فريق من صفوة علماء البصرة الذين بزغوا بالقرن الرابع الهجري، اتخذوا منهجًا غير تقليدي في معارضة حكّام بغداد، وذلك عبر إعلان الحرب عليهم بالعلم والفلسفة.

جماعة تطهير الشريعة

يقول الدكتور عمر فرّوخ في كتابه «إخوان الصفا.. درس، عرض، تحليل»، إن الفيلسوف والأديب الشهير أبو حيان التوحيدي أول من أتى على ذِكرهم بكتابه «المقابسات»، حينما سُئل عن بعض رجالاتهم عام 373هـ، فتحدَّث عن «جماعة لأصناف العلم وألوان الصناعة»، وأذاع أسماء رهطٍ منهم كأبو سليمان محمد بن معشر البُستني (ويُعرف بالمقدسي)، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاتي، وأبو أحمد المهرجاني، والعَوفي وغيرهم، هؤلاء الأفراد «قالوا إن الشريعة قد دُنّست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة» فـ «وضعوا بينهم مذهبًا زعموا أنهم قرّبوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله».

ثم جاء القفطي بكتابه «أخبار الحكماء» ونقل قول أبي حيان مختصرًا، وعنهما أخذ باقي المؤرخين حتى الآن.

يزعم الإخوان أن جماعتهم كانت موجودة في زمن الرسول، ولمّا مات ورحل من بعده أبو بكر وعُمر، اختاروا الاختفاء حتى قرروا الظهور مجددًا في القرن الهجري الرابع (العاشر الميلادي)، وهو قولٌ عسير التصديق ويصعب التحقق منه، لكن وصف «إخوان الصفاء» ورد كثيرًا في عددٍ من أبيات الشعر القديمة المنتمية لعصور الجاهلية، كقول عمرو بن شاس الأسدي:

تذكرتُ إخوان الصفاء تيمموا :: فوارس سعد واستبد بهم جهلا

كما ظهر وصف «إخوان الصفاء» أيضًا في باب «الحمامة المطوقة» من كتاب «كليلة ودمنة»، وهو عمل أدبي تأثروا به بشدة، وتعرضوا له بإحدى رسائلهم، فضربوا به المثل بالقول: «إنك محتاج في نجاتك إلى معاونة إخوان لك نصحاء، فاعتبِر بحديث الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة، وكيف نجت من الشبكة، لتعلم حقيقة ما قلنا»، وأغلب الظن أنهم اصطكوا من وحيْ كلماتِه شطرًا من اسم الجماعة، أما لقبهم كاملاً فهو: «إخوان الصفا وخلان الوفا وأهل العدل وأبناء الحمد».

ويضيف سعيد زايد في بحثه «رسائل إخوان الصفا»، أن أول ظهورهم كان في البصرة خلال بداية أيام بني بويه، إلا أن جماعتهم بلا شك تكونت قبل ذلك، وبقيت تعمل في الخفاء بمختلف الأصقاع.

ويشرح عبد اللطيف الطيباوي بكتابه «جماعة إخوان الصفا»، أنه بعد أعوامٍ من الانزواء بسبب تسلط المعتزلة والأشعرية، تغلب أمراء آل بويه على بغداد عام 334هـ، فتنفست كل الجماعات السرية الصعداء لأن الحكام الجُدد كانوا من الشيعة الذين لا تهمهم الجدالات السُنية كثيرًا، في هذا الوقت فقط بدأنا نسمع عن «إخوان الصفا».

في ذلك الوقت كانت البصرة تعيش واحدة من أخصب الفترات في تاريخ الفكر العلمي واللغوي في العالم العربي والإسلامي، ففيها قامت المعتزلة وفي مسجدها اختمرت أفكار الحسن البصري، وفي مسجدها أعلن الأشاعرة أفكارهم المخلصة للسنة، حتى الجماعات السرية لم تكن بالغريبة عنها.  فتشرب «أبناؤها إخوان الصفاء» من كل الأديان والثقافات والفلسفات المختلفة، فبنو بويه الشيعة يسيطرون على الخلافة العباسية في بغداد، فيما يختلف أهل الشيعة الإمامية على أنفسهم عقب وفاة الإمام جعفر الصادق بين فريق أيّد الكاظم، وآخر رأى أن الإمامة يجب أن تكون محصورة بذرية جعفر من ولده إسماعيل، فعرفهم التاريخ بِاسم «الإسماعيلية» وهي جماعة لعبت دورًا كبيرًا في التاريخ الإسلامي، عبر معارضتها المستمرة لرؤوس الحكم.

جاءت آراء «إخوة البصرة» خليطًا من أفكار أفلاطون وفيثاغورس والشيعة الباطنية والمعتزلة، وغيرها من الفرق التي لمع نجمها خلال تلك الحقبة، وهم يُعدون من الأوائل الذين فتحوا باب حرية الفكر على مصراعيه في الإسلام، ومعظم المؤرخين أجمعوا على أن رسائلهم واحدة من المواد النفسية «غزيرة الفلسفة، قوية الحجة»، لذا لم يكن غريبًا أن يتأثر بها عتاة الفلاسفة العرب، مثل الفارابي (259- 339هـ)، وأبي حيان التوحيدي (310- 414هـ)، وابن سينا (428هـ).

قرآن الإخوة يقول: العلم أساس الدين

اعتبر «إخوان الصفا» أن صناعتهم معرفة الخير والشر، وأن غرضهم صلاح الدين والدنيا، والاقتداء بالحكماء، وبالفيثاغوريين على الأخص، فأقاموا مذهبهم على أساس النظر في جميع العلوم الطبيعية والرياضية والإلهية، وعدم معاداة أي علم ولا دين ولا مذهب.

كما اعتقدوا أن العقائد وحدها لا تؤدي إلى السعادة الدنيوية ولا إلى الفوز في الآخرة، أما العبادات الشرعية فليست عظيمة الأهمية أيضًا، ولهذا أضافوا إلى صُلب عقيدتهم معارف طبيعية وما ورائية خاصة، وجعلوا الإحاطة بها شرطًا أساسيًا للسعادة الحقيقية، فالعِلم إذن عند إخوان الصفا جزء أساسي من الدين.

يعتبر الدكتور عز الدين فودة، في بحثه «أطروحة التراث السياسي في رسائل إخوان الصفاء»، أن رسائل إخوان الصفا تُمثل التقاء تيارات متعددة وروافد مختلفة للفكر الإنساني في عصر الحضارة الإسلامية، فمن فلسفة يونانية بصورتها الهيلينستية إلى آداب هرمسية وآراء غنوصية وآثار ثقافات فارسية وهندية، وغيرها من أنواع المعارف والعلوم وألوان الفنون التي أرادوا تنشئة أتباعهم عليها، وبهذا تكون قد جمعت شيئًا من كل شيء وتأثرت بشيء من كل شيء.

بوَّب الإخوان آراءهم في 51 رسالة تتفاوت طولاً وقصرًا، وبالرغم من أنها اتّسمت بعدم العُمق في بحثها إلا أن التحفظ الذي راعوه في كتابتها وإكثارهم من الرموز جعلها صعبة الفهم على القارئ العادي، وهم لم يتركوا مناسبة إلا ونبّهوا المُطَّلِع أن وراء ما يذكرون أمرًا غامضًا، وأن الإفصاح عن غاية مراميهم متعذر: «فتأمل هذا الكلام، فإنه من الأسرار العجيبة والرموز الدقيقة، وفيه غرض غامض… وينبغي لكَ أن تُراجع نفسك النائمة الساهية، فانتبه من غفلتك وأنعِم النظر في جميع ما قلناه، وافهم جميع ما بيّناه من الإشارات والرموزات، ولا تظنُّ بنا ظنّ السوء لأن إفشاء سِر الربوبية كُفر».

في سبيل بلوغ غايتهم اعتمدوا على مصادر أربعة، أولاً: الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة من الرياضيين والطبيعيين، وثانيًا: الكتب المنزلة التي جاء بها الأنبياء كالتوراة والفرقان والإنجيل، وثالثًا: الكتب الطبيعية المعنية بأشكال الموجودات وتركيب الأفلام وصور الحيوانات والمعادن، ورابعًا: كتب العلوم الباطنية (علم الأعداد والحروف)، وهي التي يسميها الإخوان الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهرون.

يقول بطرس البستاني في كتابه «رسائل إخوان الصفاء»، إنهم جعلوا القسم الرياضي أول أقسام رسائلهم، لما للعدد من مقام خطير في فلسفتهم، لأنهم تأثروا بطريقة الفيثاغورثيين، فاعتبروا العدد أصل الموجودات، وربطوا بينه وبين مسائل فكرية محضة كالإمامة والمدينة الفاضلة، كما أدخلوا الموسيقى ضمن القسم الرياضي، وبحثوا في صناعتها وأصلها.

وأما القسم الثاني في رسائلهم فيبحث في الطبيعة، وهو في أكثره على المذهب الأرسطي، وقادهم بحثهم في المعادن والحيوان إلى لمس مذهب النشوء والارتقاء، وقالوا إن المعادن متصل أولها بالتراب وآخرها بالنبات، كما اعتبروا أن النخل «نبات حيواني»؛ فهو آخر المرتبة النباتية مما يلي الحيوانية، وكذلك آخر مرتبة الحيوان منتهية بأول مرتبة للإنسان، كالقرد في التقليد والفيل في الذكاء والنحل في حسن التدبير.

كما بحث القسم الثالث في النفسانيات والعقليات، واعتمدوا مذهب الأفلاطونية الحديثة في تعليل صدور الموجودات عن الله بفلسفة الفيض الأفلاطونية (ولكنهم نسبوها إلى فيثاغورث)، فلكل موجود سبب وُجد عنه حتى ترتد سلسلة المعلمين والأئمة إلى معلم واحد في النهاية، هو الله عند الأنبياء والعقل الأول عند الفلاسفة، واعتبروا أن سلسال الفيض دائم ولم ينقطع بعد وفاة النبي محمد، ويتجلى في الأرض عبر الأئمة، كما استعانوا بنظرية التناسخ لتكون أساسًا لتسويق منطقهم في «التأويلات الخفية».

فيما اختصَّ القسم الرابع بالآراء والديانات، وما اتصل بها من المذاهب الروحانية والفلسفية والعلمية، وغايتهم منها التوفيق بين الدين والفلسفة، إلا أنهم لم يأخذوا الإسلام بشرائعه الخالصة، بل مزجوه بمختلف الأديان والآراء، زاعمين أن مذهبهم يستوعب المذاهب كلها، فكأنهم أرادوا بذلك أن يضعوا دينًا عقليًا يعلو الأديان جميعًا، وبه يتم التوفيق بين الشريعة والحكم.

وبالرغم من انتقادهم للمعتزلة ووصفهم بأنهم «طائفة من المجادلة»، إلا أنهم وافقوهم في أن الإنسان يقوم بأفعاله وفقًا لإرادته الحُرة، ويكون مسؤولاً عنها، إن فعل خيرًا جُوزي وإن فعل شرًا عُوقِب، وهو يناقض فكرة الجبرية التي حاول ملوك الدولة العباسية تنظيف خطاياهم بالترويج لها، من منطلق أن الإنسان مجبر على أفعاله الخير منها والشر، فاستُعملت لتبرير مظالم أحفاد العباس بدعوة أنها إرادة علوية لا حيلة لهم إلا تنفيذها!

استفاد الإخوان من تعاليم هرمس في حساب السنين والأزمان وعلم الفلك والنجوم، كما عبّروا عن فكرة «اللوح المحفوظ» التي روّج لها دعاة الفاطميين في سجلاتهم، و«دورات التاريخ والسنين»، فكل دورة هي ألف سنة يقوم على رأسها (نبي / ملك / عالم / مستخرج / مبتدع) وهو الإمام «السوبر مان»، المخلص، والمنقذ، والقائد السياسي المُلهم المعبَّر عنه في الرسائل بـ «سيد إخوان الصفاء المؤيد بوسع الطاقة في المعارف».

ويوضح زايد أن مَثَل الإنسان الأعلى عندهم هو إنسان عالمي نشأ في فارس، وتدين بالإسلام، واعتنق المذهب الحنفي، وعشق أدب العراق، وصار عبرانيًا في مخبره، مسيحيًا في منهجه، شاميًا في نسكه، يونانيًا في علمه، هنديًا في بصيرته، صوفيًا في سيرته، ملكيًا في خلقه، إلهيًا في معارفه.

لماذا تُعلن دعوة سرية رسائلها؟

رأيتُ جملة منها، وهي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وهي خرافات وكنايات وتلفيقات، وحملت عدة منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي السجستاني محمد بن بهرام، وعرضتها عليه فنظر فيها أيامًا وتبحرها طويلاً، ثم ردها عليّ، وقال: تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجروا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا.
أبو حيان التوحيدي متحدثًا عن الرسائل

مع اتساع رقعة الأنصار وتشتتهم في الأمصار، لم يعد بمقدور جميع أفراد الجماعة أن يحضروا مجالسها، لذا بزغت فكرة تدوين خلاصة أفكار المجالس في أطروحات مركزة تُوزَّع على باقي الإخوة، ولهذا لم تظهر ككتاب موحَّد مُجمَّع وإنما بشكل «رسائل مفردة» تُنتج دوريًا، ويُلاحظ أن كلامهم عن مدى اتساع دعوتهم لم يرد قط في الأقسام الأولى، بل القسم الأخير، ما يدلُّ على أن الإخوان بدأوا بالتأليف حين شعروا بالحاجة إلى نشر الدعوة وتأليف الجماعة، وهكذا ظهرت للنور 51 رسالة تلتها «رسالة جامعة» اعتبروا أنها «نهاية المراد، وبها يكون الفوز في الدنيا والآخرة».

وبدءًا من القرن الرابع الهجري، بدأت الرسائل تظهر إلى النور، في ظلِّ قيام الدولة الفاطمية في المغرب (296هـ=909م)، كما أن «الإخوان» كانوا معروفين بمذهبهم ورسائلهم قبل اختفاء الحاكم بأمر الله (411هـ= 1021م) بنحو جيلٍ من الدهر أو يزيد.

أكد الإخوان أن غايتهم العامة من كل هذا العمل الشاق هو «توحيد الله عزَّ اسمه، وتنزيهه عما نسبه إليه الجاهلون عن معرفته”، وهم يقصدون بالجاهلين المشبهة والأشعرية، الذين يصفون الله بصفات البشر، ولكي يصلوا إلى غايتهم من تنزيه الله عن الصفات الإنسانية لجأوا إلى أنواع العلوم والمعارف التي استعرضوا قشورها في رسائلهم، يقولون في إحداها «ولعل كثيرًا ممن يقف على رسائلنا هذه يظنُّ أن مرادنا في وضعها هو تعليم علم النجوم، ولعمري أن ذلك أحد أغراضنا فيها لأننا نحب لإخواننا، أيدهم الله، أن يقفوا على جميع العلوم ويتعلموها ولا يجهلوها».

فالغاية الأساسية إذن هي بسط جميع العلوم قدر الطاقة؛ لاعتقاد الإخوان أن الإنسان لا ينجو بالعبادة فقط بل بالعلم أيضًا، ولما كانت رسائلهم مشتملة على هذه العلوم التي تبلغ بالإنسان مرتبة تنزيه الله، وتساعده على النجاة في الآخرة، وجب ألا نستغرب أنهم كانوا يسمونها «قرآنًا».

لا للاستقرار

يقول فرّوخ لقد كان للجماعة غايات سياسية بلا ريب، ولكننا لا نعرف تلك الغايات من رسائلهم معرفة صريحة، فالذي لا ريب فيه أنهم أرادوا أن يُنشئوا جماعة مُفكرة متصافية منعزلة عن «المجتمع الكبير».

أما الدكتور فودة، فلقد كان أكثر وضوحًا بهذه النقطة، حين أكد على أن إخوان الصفاء ضمّنوا عقيدتهم الدينية أيديولوجية سياسية، تُحفّز على حركة ثورية تسعى إلى محاولة تغيير صورة المجتمع السياسي القائم، آنذاك، عن طريق إجراء تغيير عقلي في المجتمع تمهيدًا لتغيير النظام السياسي كله، ومن هنا كان سبيل الإيمان بالفكر والتعليم وقدرتهما على خلق إرادة التغيير لدى الأفراد وفي هيكل البنيان الاجتماعي للدولة.

ويعتبر أن هذا التصرف يذكرنا بمحاولة مشابهة للفلاسفة المثاليين الفرنسيين الاجتماعيين في القرن الثامن عشر أمثال ديدرو ودالامبير وغيرهما، ممن عكفوا على تأليف دائرة معارف علمية واجتماعية وفلسفية أرادوا أن يبثوا فيها أفكارهم الانتقادية للدولة، وأن يهاجموا من خلالها فكرة السلطة السياسية المطلقة التي تسلب المواطنين حقوقهم الأساسية.

ويوضح: اعتمادهم على المبادئ العلمية أو النظريات الفلسفية لا يعني أنهم لا يريدون أن يصلوا بها إلى حكم استنباطي عام للمجتمع ككل، عبر إثبات اعتقادهم أن الحركة والتغير عملية متصلة تدفع إلى التقدم، لا في الظواهر الطبيعية وحسب، ولكن في العلاقات الاجتماعية والسياسية أيضًا.

هذه الحركة كانت موضع مناقشة في مناسبات متعددة في الرسائل، بهدف التركيز على أن الاستقرار ليس الحالة الطبيعية للموجودات، ولهذا لم يتخذوا موقفًا معارضًا من التغيرات الاجتماعية التي قد تحدث عن طريق الانقلابات والثورات، ومن ثم كان مفهوم التغير الثوري وتبشير أعضاء الجماعة بقرب زوال «دولة أهل الشر»، له مكانه المميز في هذه الرسائل، ولهذا اقترنت أسماؤهم بواحدة من أكبر قوى المعارضة بالتاريخ الإسلامي، وهم الإسماعيليون.

الإخوان والإسماعيليون: مَن أخذ عن الثاني؟

يعتبر الدكتور عمر فرّوخ في كتابه «إخوان الصفا.. درس، عرض، تحليل»، أن صلة إخوان الصفا بالإسماعيليلة معروفة، ولكن تحديد شكلها لا يزال إلى اليوم صعبًا، وسبب ذلك أن البحوث التي تتناول العهد الفاطمي لا تزال قليلة جدًا، لكن ثمة ألفاظ مختلفة، مثل: (الناطق – آدم – إمام – الدور – القميص- دور الستر)، وهي رموز إسماعيلية شهيرة وردت في رسائل إخوان الصفا، كما أن عددًا كبيرًا من الأصول الفلسفية موجودة عند الاثنين، كترتيب العالم وفيضه والنفس الكُلية، فالشبه إذن موجود بشدة، ولكن من أخذ عن الثاني؟

ويضيف سعيد زايد في بحثه «رسائل إخوان الصفا»:

فلسفتهم تضعهم في تعداد الشيعة الإسماعيلية، وهي فرقة سياسية عنيفة قامت بحركات تمرد كثيرة وحاولت مرارًا قلب نظام الحكم، فهل اتّعظ الإخوان بفشل حركاتها، وآثروا أن يهيئوا لانقلابهم دعوة فكرية قبل أن يقرروا الانقلاب على الحُكم؟ لكنه يجيب على نفسه بالنفي، مؤكدًا أن غايتهم المُثلى هي تحقيق الإصلاح على المدى الطويل، عبر الدعوة لفهم جديد للدين من خلال تفسيره بالفلسفة والعلوم الطبيعية.

فيما يعتبر فودة، أنه في ظل حالة الصراع السياسي والتناحر الاجتماعي التي ميّزت هذا العصر، ربط الإخوان بين انقشاع هذه الأحوال المضطربة في دولة الشر وبين معتقدهم بأن هناك أئمة أهل الهدى وأصحاب دعوة حق مستترين، ولهذا تعاونوا مع أكثر الحركات المتطرفة التي ناوأت العباسيين، وروّجوا لها في بدن دولة الخلافة لا بمنشورات سياسية وإنما بمنشورات علمية تنطق بالسياسة.

وأكد، أن الغرض الرئيسي للرسائل ليس التنوير وحسب، وإنما جذب الناس إلى موالاة الدعوة الإسماعيلية، وجمعهم تحت حجاب التقية ضد دولة «أهل الشر»، ولهذا جاءت مكسوة بالإشارات المرموزة والتأويلات المخصوصة التي يتعذّر أن يصل إلى باطنها أيُّ أحدٍ، يقولون: «إن عادتنا جارية على أن نكسو الحقائق ألفاظًا وعبارات وإشارات»، وكل ذلك تمهيدًا لإقامة «دولة أهل الخير».

ولكن الباحث الكبير فراس السوّاح شكّك في إسماعيلية إخوان الصفا في كتابه «طريق إخوان الصفا»، معتبرًا أن كل الروايات التي تحاول إثبات أن الرسائل من أصل شيعي «لا تتمتع بمصداقية تاريخية»، ويقلب الأمور على أعقابها حين يعتبر أن التشابه بين فكر الفرقتين، إنما نابع من التأثير الذي مارسه فكر الرسائل على الفكر الإسماعيلي فيما بعد، مؤكدًا أنه بالرغم من التماهي في كثيرٍ من المواقف الفلسفية والسياسية بينهما، إلا أن هناك أيضًا عددًا من الاختلافات الجسيمة بين الفِكْرين، بل ويزعم أن هذا الخلاف دفع أيادي إسماعيلية إلى تحريف بعض مقاطع الرسائل لتكون موائمة لدعوتهم.