لا أقمنا في مكان و إن طاب .. و لا يمكن المكان الرحيل * كلما رحبت بنا الروض قلنا .. حلب قصدنا و أنت السبيل * فيك مرعى جيادنا و المطايا .. و إليها وجيفنا و الذميل
أبو الطيب المتنبي

سيف حلب وشاعرها

الزمان : 343 هـ – المكان : ثغر الحدث، الثغور الشامية – شمال حلب

نفض الأمير غبار المعركة الذى اعتلى لأمته، التقطت الخيل أنفاسها وخف خفقانها بعد معركة طويلة، تسربل الآلاف من جنود الروم فى دمائهم أو قيودهم، أغمد سيف الدولة سيفه، واستل أبو الطيب لسانه، افتتح قصيدته وكان التاريخ منصتا يسجل نصر معركة عابرة بشعر خالد : على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم.

فى طريق العودة بعد أن رُممت قلعة الحدث وصُدت موجة الروم، يشتاق الرجلان لحلب، يشتاق الأمير لقلعته، والشاعر لبيته فى أدوار بني كسرى بجوار القلعة التى أنزله فيها الأمير قبل 6 أعوام، طاب المقام لأبى الطيب هنا، وجد الطموح والأحلام، أوقف شعره ومدحه لسيف الدولة، ووصفه وتغزله للشهباء حلب، يعود إليها مظفرا وعلى رأس الجيش الرجل الذى يحسب أن طموحه أخيرا سيكون معه، فارسا عربيا يصد بيد الشعوبية التى عضت جسد الدولة فسممته، وباليد الأخرى يقاتل الدولة البيزنطية التى تهجم على نصف الجسد الآخر وتأكل منه كل يوم بلا رادع.

ما يقارب عقد من الزمان، وما يشارف ثلث شعره قاله هنا، واستحق به أن يكون شاعر العربية المخلد، وفارس الكلمة الذى لا يشق له غبار، وحتى بعد أن خرج من مدينته التى أحبها، كان يبث لها الأشواق بين الحين والحين، حتى مات على هواه الحلبى ذاك!

Leo_Phokas_sents_the_captive_Arab_general_Apolasaeir_to_Constantinople
Leo_Phokas_sents_the_captive_Arab_general_Apolasaeir_to_Constantinople

خيول القدس

الزمان: ربيع الآخر – 541 هـ – المكان: فى الطريق من قلعة جعبر إلى حلب
منبر صلاح الدين الذى أمر بإنشاءه نور الدين محمود زنكي
منبر صلاح الدين الذى أمر بإنشاءه نور الدين محمود زنكي

حثّ الفتى ذو الثلاثين عاما فرسه بشدات متتابعة من لجامه على المضى قدما، الغبار المتناثر يخفى معالم القلعة التى ستظل شاهدة على الجريمة، جريمة قتل الرجل الذى أذاق الصليبيين الويلات، فلم يجدوا وسيلة للتخلص منه سوى بالغدر، طعنة على يد فرقة باطنية، يد من بنى جلدته أخذت ذهب الإفرنج وقتلت محرر الرها الأمير عماد الدين زنكي.

خاتم أبيه يلتمع فى عينيه، ينظر إليه بين الفينة والأخرى نظرة من يقسم له بأن يكمل الطريق الذى اختطه. فبعد مقتل عماد الدين جرد الصليبون حملتهم الثانية على الشرق لاستعادة الرها، لكن محمود استطاع من إمارة حلب أن يكون الجيش اللازم للتصدى لهم بعد أن ضم دمشق ووحد الشام، فشل الصليبيون وأحسوا لأول مرة بأن حملتهم قد تحين نهايتها قريبا.

بعد اثني وعشرين سنة من الجهاد المتواصل، وفى 563 هجرية كان نور الدين يتفقد ما فعله المهرة والنجارين فى المنبر الذى أمرهم أن يصنعوه بما يليق بالمسجد الأقصى، لم يكن تحرير القدس مجرد فكرة تراوده، ولكن هدف وصل من أجله الليل بالنهار، وحلب بدمشق بالموصل بمصر، فلم يكد تستقر له الشام حتى ضم مصر التى بدونها لا يكون فتح ولا نصر.

تفرقت الممالك مرة أخرى بعد موت نور الدين، وكان على صلاح الدين أن يخرج مرة أخرى هذه المرة من مصر لتوحيد الشام، كان عليه أن ينتظر ثمان سنوات أخرى يوحد الممالك مرة أخرى، حتى وقف على باب حلب فى 18 صفر 579 “عين الشام وقلعتها بؤبؤها” الذى سيفتح له الساحل الصليبى كله.


سليمان من حلب

الزمان: 15 يونيو 1800م – المكان : بركة الأزبكية – القاهرة

يتحسس الفتى ذو الأربع وعشرين ربيعا خنجره الغزاوى الذى ابتاعه من حداد فى السوق القديم عندما كان قادما من القدس إلى القاهرة، يحكم مكانه مطمورا تحت أثوابه ويتقمص شخصية غير التى هو عليها – طالب علم أزهرى فى الجامع الأزهر، يصيح بصوت عال معلنا حاجته وعوزه فى وسط بستان بيت محمد بك الألفى الذى يتوسطه قائد هؤلاء الغزاة القادمون من فرنسا، يهرع للقائد

موهما إياه بتقبيل يده وبسط حاجته إليه، وفور أن يصله يستل خنجره ويصيبه بأربع طعنات سريعة نافذة، ويحاول الفرار.

أعدم سليمان الحلبى بعد محاكمة علنية، هو والشيوخ الذين عرفوا بما كان يضمره من قتل كليبر قائد الحملة، كان أشدهم عذابا إذا قُتل بالخازوق، بعد عام واحد والعديد من الثورات والمقاومات رحلت الحملة الفرنسية، رحلت بمدافعها وبارودها وأوراق وخرائط رسمتها، وخنجر سليمان وجمجمته التى حرمتهما حتى من أن يضمهما وطن، وطن نشأ فى حلب، واقتنى سلاحه من غزة، ليقتل قائد جيوش فرنسا فى القاهرة. وكل هذه المدن مجتمعة وما حولها لم تفلح فى أن تسترد ولو جزء من كرامتها وتعيد رفاته من (متحف الإنسان) فى باريس!


بروفة حماة

الزمان: أول أيام عيد الفطر 11أغسطس 1980 م – المكان : المشارقة – حلب

تكبريات العيد تتناهى من مساجد البلدة، الضباب ما زال يحيط بالمدينة، الناس يطرقون الأبواب ويلقون التهنئات، وأزيز مركبات عسكرية يحكم حصار المكان فى صمت، يتقدم المقدم هاشم معلا ويصدر الأوامر بفتح النار، يسمع الناس ضرب الرصاص، بل صب الرصاص، ساعة من الزمان يسقط فيها نحو100 قتيل، شباب وأطفال ونساء وشيوخ، تُحفر حفرة كبيرة بالجرافات، تُلقى فيها الجثث، ويُبنى فوق المقبرة المنسحقة مسجد كبير باسم السفاح القائد حافظ الأسد.

كانت هذه هى (بروفة) مجزرة حماة التى راح ضحيتها الآلاف بعدها بعامين فقط، وامتدت مجازرها إلى حلب أيضا مرة أخرى، الأعداء دائما متوفرون، عصابات إرهابية مسلحة، والقوانين دائما جاهزة، إعدام كل من يثبت انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين، والضحايا دائما بين هؤلاء وهؤلاء يقع أغلبهم، مدنيون لا باكٍ لهم ولا ثمن.


عندما سقطت عاصمة قريبة

الزمان: 20 مارس 2003 م – المكان: بغداد

ليل المدينة مضاء بسماء ملتهبة، وأرض تُبعثر باطنها وتطوحه فى الفضاء، طائرات الـ F16 تستبيح سماء المدينة وتمطرها لهبا بعد لهب، المعركة بدأت بأهداف واضحة على لسان زعيمي الحرب بوش وبلير «تجريد العراق من اسلحة الدمار الشامل، ووضع حد للدعم الذى يقدمه صدام حسين الى الارهاب وتحرير الشعب العراقى».

لكن الأيام والشهور تمضى ولم يتم الكشف عن أى أسلحة دمار شامل، إذن من المؤكد أن هناك إرهابيون، على الأقل إذا كنا غير قادرين على اختلاق أسلحة دمار شامل فإننا قادرون على تخليق إرهابيين، حتى نحرر العراق منهم. فلتقام الحفلة إذن، لنفتتح معسكر صناعة الإرهابيين. افتُتح المعسكر وكتب عليه بالخط العريض أعلى سوره «سجن أبو غريب»

«ما حدث فى أبوغريب على وجه التحديد كان عملا أمريكيا ممنهجا وليس وليد المصادفة، لتحويل القيادات العسكرية السابقة بالجيش العراقى إلى متطرفين، ثم الإفراج عنهم فى مرحلة لاحقة ليكونوا نواة داعش بعد تعرضهم لبيئة مصنوعة داخل السجن غيرت بوصلتهم». هذا ما صرح به دبلوماسى عراقى لجريدة الشروق المصرية تحفظ على ذكر اسمه لطبيعة عمله الحالى بوزارة الخارجية العراقية، وقد جاء التصريح ضمن ملف بالجريدة عن دور السجون المصرية فى تجنيد أفراد جدد لتنظيم داعش.

أَمَريْكـا تُطُلِقُ الكَلْـبَ علينا.. وبها مِن كَلْبِهـا نَستنجِـد!ُ .. أَمَريْكـا تُطُلِقُ النّارَ لتُنجينا مِنَ الكَلبِ .. فَينجـو كَلْبُهـا..لكِنّنا نُسْتَشُهَـدُ

أحمد مطر

على بعد 500 ميل فقط كانت تقبع دمشق، وعلى الحدود العراقية السورية كان أكثر من مليون عراقي ينزحون إلى الشام، يحملون معهم الخوف والهول، ويخبرون من خلفهم أن أمة وقفت تشجب ونحن نقتل، لتدفعن الثمن لا محالة.


ثورة العزة

الزمان: 25 مارس 2011 م – المكان: حى صلاح الدين – حلب

(الله .. سورية .. حرية .. وبس) .. انطلق الهتاف فى المسجد تلقفته ألسنة الشباب سريعا، دوى وخرج من جدران المكان إلى الشارع، اغرورقت عين شيخ لم يسمع بهتاف ولا مظاهرة منذ الـ 82 هنا، منذ أن كانت المجازر والمذابح، هتف معهم (يلعن روحك يا بشار .. يلعن روحك يا أسد).

ومنذ تلك الجمعة – جمعة العزة – وأصبحت المظاهرات فى حلب شبه أسبوعية، فى صلاح الدين والسكري وبستان القصر والجامعة والكلاسة وطريق الباب والشعار هتف الشباب وسقط عشرات القتلى من جمعة إلى جمعة، إلى أن كان العشرين من يوليو 2011 حيث جرى لأول مرة اشتباك عنيف بين مسلحي الجيش الحر والجيش النظامي فيما عرف لاحقا بمعركة حلب التى سيطر فيها الثوار على مساحات واسعة من الجزء الشرقى من المدينة، حيث أصبح الشمال السورى مفتوحا أمامهم حتى الحدود التركية.

سُمح للثوار – على اختلاف فصائلهم ومناطقهم – بالسيوف والرماح التى يحاربون بها، أسلحة خفيفة ورشاشات وجرينوف وربما مدفعية أو ما تطاله أيديهم من عتاد الجيش النظامي، لكن لم يُسمح لهم أبدا بالخيول، لا مضادات طائرات ولا غطاء جوى بأى شكل كان، السماء مفتوحة تماما لأعدائهم تُمطر نارها كل يوم كما تشاء، والعالم وأمريكا يخاف من بندقية فى يد ثائر حقيقي أكثر من خوفه وقلقه من حاملة طائرات فى يد مستبد فاسد، وأكثر بكثير من ترسانة ضخمة فى يد ذوى لحى زائفة ربتها الاستخبارات الأمريكية على عينها.


المتنبى يبحث عن حبيبته

الزمان: 2006 – المكان: حلب

وقف الشاعر السورى عامر الدبك قبل عقد من الزمان فى حلب يستنطق روح المتنبى عندما اختيرت المدينة عاصمة للثقافة العربية، وقف يتأمل حالها وهى تحت الاستبداد شاحب بياضها مبدلة حالها فقال قصيدة كأنه يرى بها أحداث اليوم وأمس، ويعد بمستقبل غد

أتيت أرى الشهباء لكنَّ خيبة أطاحت بأحلامي وأدمت صباحـــــــــــــــــــــــيا

فحطت سحابات من الحزن في دمي كأنِّي أرى ما لا يُرى في دمائيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

سأرحل .. لا شعري يعيد مدينتي ولا أدمعي تحيي دهورا خواليا

لعلي أرى الشهباء في قبر وحدتي فأبعثها .. فالقبر أمسى عزائيا

أضم بقاياها واحيي رميمها وأطلقها بيضاء للحب ثانيا


هنا يتشكل العالم من جديد

El_Haleby,_Souleyman
سليمان الحلبي

هنا كان العالم من قديم، كان الأكاديون والآراميون والبابليون والآشوريون والرومان والبيزنطيون والفرس، هنا فتحت المدينة بخيل خالد بن الوليد، هنا أُحرقت المدينة مرة ومرتين ثم عادت، هولاكو (1260م) ثم تيمور لينك (1400م) ثم الزلزال (1138م) ثم بشار وبوتين (2016)، وفى كل مرة تمر الخيل ليعيد فرسانها المدينة من جديد.

هنا يقف فتية على ناصية حى صلاح الدين الذى انطلق من المدينة لفتح القدس، يحاربون برصاصات هزيلة ولا يذودون عن مدينتهم فقط، بل عن سير المعركة فى سوريا بأكلمها، بل وقوفهم هو الحجر الأخير فى مسلسل إعادة التشكيل الذى تمضى به جميع الأطراف راضية أو مرغمة، أمريكا وروسيا والجميع خلفهما، ولو كانت الهدنة تلين مراس هؤلاء الفتية لشملتهم أيضا، فهؤلاء الفتية لا ينتظرون هدنة ولا صلحا، ولكن ينتظرون خيلا جديدة تمر بالمدينة.