أينما يحرقون الكتب، سيحرقون أيضًا، في النهاية، البشر.
هاينرش هاينه، شاعر وصحفي ألماني من القرن التاسع عشر.

في مساء يوم 25 أغسطس/آب عام 1992، بدأت القذائف تمطر أحد المباني في مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، المدينة الشهيرة التي حدث بها اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند مما أدى لاندلاع الحرب العالمية الأولى. تلك القذائف لم تكن قذائف عادية، والمبنى لم يكن مجرد هيكل من الخرسانة.

كانت القنابل حارقة، مصممة لإشعال النيران سريعًا بمجرد الاصطدام، بخاصة عندما تسقط على مواد قابلة للاشتعال. بينما كان المبنى الذي أصابته: المكتبة الوطنية والجامعية للبوسنة والهرسك. كانت الميليشيات الصربية، التي حاصرت المدينة، هي من أطلقت تلك القذائف على المكتبة، كجزء من استراتيجية الرئيس الصربي حينها سلوبودان ميلوشيفيتش لتدمير البوسنة.

لماذا يستهدف الجيش مكتبةً جامعيةً بقذائف حارقة، تاركًا المباني الأخرى حولها سليمة؟ لماذا تقف صفوفًا من الجماهير النازية، مؤديةً التحية لأدولف هتلر، في استمتاع عند مشاهدة حرق الآلاف من الكتب؟

حسنًا، ربما كان الجواب بسيطًا، لكنه يحتاج إلى حديثٍ طويل.

ما نحرقه لن يُفتقد!

مع نهاية الإمبراطورية البريطانية في منتصف القرن العشرين، تبعها إعادة ترتيب واسعة للسجلات الاستعمارية الحساسة حول العالم، إذ دُمر عدد كبير من تلك السجلات، وأُرسل الجزء الآخر إلى بريطانيا ليبقى طي الكتمان. ذات مرة، أشار مسؤول في الإمبراطورية البريطانية، حينما كان يشرف على تطهير ذلك الأرشيف الاستعماري، أن «ما نحرقه لن يُفتقد».

ريتشارد أوفيندن، مدير مكتبة بودلي بجامعة أكسفورد، يدرك جيدًا مختلف الطرق التي تندثر بها الكتب، ليس بتدميرها المتعمّد فحسب، عبر الانتقام مثلًا أو حتى الجهود المضنية لمحو التاريخ حرفيًا، ولكن بمجرد الإهمال أيضًا، النسيان والسقوط من ذاكرة البشر، وهو ربما تهديد أكثر شرًّا وخبثًا، لأنه غالبًا ما يمر دون أن يلاحظه أحد!

لحسن الحظ، كرّس أوفيندن كثير من وقته للتفكير في مثل تلك الكوارث وكيفية منعها، وجمع أفكاره داخل كتابٍ أطلق عليه «حرق الكتب: تاريخ التدمير المتعمّد للمعرفة». وداخل صفحات كتابه، يذكّرنا السيد أوفيندن أنه «بالرغم من أن تقنيات صنع المعرفة وحفظها قد تغيرت جذريًا، فإن جوهرها لم يتغير كثيرًا».

يرى أوفيندن أن ما تداولناه عبر الزمن، من داخل مكتبة الإسكندرية إلى مكتبة بودلي، هو قيمًا روحانية، قيم تذكرك بأن المعرفة تحظى بقوة عُظمى، وأن السعي لجمعها والحفاظ عليها مهمةً مقدسة، وأن خسارتها قد تصبح علامة تحذير مبكر على انتهاء الحضارة!

والبداية كانت بمكتبة آشور بانيبال القديمة.

ألواح من طين تحت التلال!

صديقي، الذي أحببته، قد تحول إلى طين. ألن أصبح مثله، وأستلقي أيضًا، لن أنهض أبدًا من جديد، عبر الأبدية؟
من ملحمة جِلجَامِش.
الألواح الطينية في مكتبة آشور بانيبال
الألواح الطينية في مكتبة آشور بانيبال

زينوفون، الجنرال والفيلسوف والمؤرخ اليوناني القديم، روى قصةً دراميةً حول قيادته لجيش من 10 آلاف جندي مرتزق من بلاد ما بين النهرين حتى عودته إلى اليونان. وصف زينوفون مرور جيشه عبر مكان على ضفاف نهر دجلة، وَسْط ما نعرفه الآن بالعراق، مدينةً مهجورةً تحيط بها جدرانًا شاهقة، ومن هناك أكمل الجيش مسيرته إلى مدينة أخرى.

في هذا المشهد القديم، ما مر عليه جيش زينوفون كان أطلال مدينتي نمرود ونينوى. كانت المدينتان في قلب الإمبراطورية الآشورية العظيمة، وازدهرتا تحت حكم الملك الأشهر آشور بانيبال خلال القرن السابع قبل الميلاد. وبعد وفاته، دُمرت مدينة نينوى في عام 612 قبل الميلاد بسبب الحروب مع الجيوش البابلية.

تلك المدينة كانت تملك واحدةً من أقدم مكتبات العالم: مكتبة آشور بانيبال، وأثناء تدمير المدينة دُمرت المكتبة ودُفنت تحت أنقاض المدينة الأثرية. وفي القرن التاسع عشر، اكتشف علماء الآثار، من بريطانيا وفرنسا، عشرات الآلاف من الألواح الطينية في هذا الموقع الأثري.

كانت تلك الألواح تحتوي على نقوش نصية، توثق كل شيء تقريبًا في الدولة الآشورية، من الدين والطب والسحر إلى التاريخ والأساطير، كانت نصوصًا منظمةً للغاية ومرتبة حسب الموضوع، مع علامات يمكن أن نعتبرها اليوم كالفهرس أو حتى كالبيانات الوصفية. لكن ربما الألواح الطينية الأكثر شهرة كانت سلسلة تحتوي على واحد من أقدم الأعمال الأدبية التي وصلتنا عبر التاريخ: ملحمة جِلجَامِش.

الحضارة الآشورية كانت تعي جيدًا أن الحفاظ على المعرفة يملك قيمةً عظيمة، ليس لحاضرهم فحسب، ولكن للمستقبل أيضًا. ولولا اكتشاف تلك الألواح الطينية لما كنّا عرفنا بوجود الحضارة بعد انهيارها.

التدمير المتعمّد للمعرفة!

كان من دواعي سروره إحراق الأشياء.. كانت متعته الخاصة أن يرى الأشياء تتحلل، يتحول لونها للأسود وتتبدل.. مثبتًا الفوهة النحاسية بقبضتيه وكأنها أفعى هائلة تبث سمومها على العالم من حوله، حينها كان الدم ينبض في رأسه، ويملك يدي مايسترو جبار يعزف كل سيمفونيات اللهيب والحريق جالبًا رماد التاريخ.
افتتاحية رواية راي برادبري الكلاسيكية الخالدة «فهرنهايت 451».
المكتبة الوطنية والجامعية في سراييفو بالبوسنة
مكتبة سراييفو عام 1992

في مساء يوم 25 أغسطس/آب عام 1992، بدأت قذائف القنابل الحارقة تمطر مبنى المكتبة الوطنية والجامعية في مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك. كانت الميليشيات الصربية، التي حاصرت المدينة، هي من أطلقت تلك القذائف على المكتبة، كجزء من استراتيجية الرئيس الصربي حينها سلوبودان ميلوشيفيتش لتدمير البوسنة. كما وضعت القوات الصربية قناصة يقتلون رجال الإطفاء ممن يحاولون إخماد حريق المكتبة، حتى الأسلحة المضادة للطائرات لم تنظر إلى السماء ولكنها حولت وجهتها أفقيًا.

حاول العاملون بالمكتبة إنقاذ ما يمكنهم من المبنى المحترق، لكن دون جدوى. ذكّرنا كاتب الخيال العلمي راي برادبري، في عام 1953، أن درجة حرارة احتراق الورق هي 451 فهرنهايت، ولكن مكتبةً كاملةً تستغرق وقتًا طويلًا لتدميرها. وفي حالة مكتبة سراييفو، استغرق الأمر ثلاثة أيام. وكما ذكر أحد شعراء البوسنة أنه:

في أعقاب ذلك تساقط الرماد من الكتب المحترقة على المدينة مثل الطيور السوداء.

لم تستهدف القوات الصربية أي مبانٍ أخرى بجانب المكتبة، ولم يكن غرضها مبهمًا من هذا التدمير المتعمد، فلم يكن تطهير البوسنة من المسلمين كافيًا، لكنهم سعوا أيضًا إلى محو أدلة وجود أي مسلم سابق في البلاد، ربما محو أي ذكرى للمشاركة الإسلامية في التاريخ والثقافة البوسنية.

وقبل ذلك بأكثر من نصف قرن، في العاشر من مايو/أيار عام 1933، في جادة أونتر دير ليندن بقلب العاصمة الألمانية برلين، ردد حشد بأكثر من 40 ألف شخص هتافات عنصرية، وألقوا التحية لزعيمهم أدولف هتلر، بينما تُلقى كتب اليهود والشيوعيين إلى المحرقة. اضطهاد اليهود في أوروبا تحت حكم النظام النازي لم يهدد حياتهم فحسب، لكنه امتد أيضًا إلى كتبهم، وقد أنشأ النازيون فريق مهمته الوحيدة هو الاستيلاء على النصوص اليهودية وتدميرها، وتشير التقديرات إلى تدمير أكثر من 100 مليون كتاب خلال الاثني عشر عامًا للهيمنة النازية في ألمانيا، منذ عام 1933 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

النازيون يحرقون الكتب في برلين
حرق الكتب في برلين عام 1933

كتاب «حرق الكتب» يعجّ باللون الأسود من رماد المكتبات وتدمير المعرفة المتعمّد عبر التاريخ. فمثلًا، في القرن الثالث عشر، مكتبات الخلافة العباسية في بغداد كانت تملك كتبًا لا يمكن حصرها، وبقيمة لا تقدر بأثمان، ولكنها عانت أضرارًا هائلةً في أثناء غزو المغول. وفي أوائل القرن التاسع، كان الفايكنج يحرقون ويدمرون نصوص الرهبان في جزيرة إيونا على سواحل إسكتلندا.

وتحت حكم هنري الثامن لإنجلترا، في القرن السادس عشر، جاء حل الأديرة، وحينها أُحرقت عشرات الآلاف من الكتب أو أُلقيت في القمامة وبيعت كخردة. أدى هذا التدمير بالسير توماس بودلي إلى إنشاء مكتبته في جامعة أكسفورد، وهي تحمل اسمه حتى يومنا هذا، التي أشاد بها فرانسيس بيكون، منظر المنهج العلمي في القرن السابع عشر، بأنها «سفينة نوح لإنقاذ العلم من الطوفان».

كما احترقت مكتبة الكونجرس بالولايات المتحدة مرتين، مرة على أيدي الجيش البريطاني في عام 1814، ومرة ​​أخرى عن طريق المصادفة في عشية عيد ميلاد عام 1851.

يرى أوفيندن أن الرغبة الأيديولوجية في محو الرؤية المخالفة للأعداء هو مصدر الخطر المعتاد على الكتب، ولكنها ليست المصدر الوحيد!

محرقة مكتبة الإسكندرية!

ذكر عديد من مؤرخي العصر القديم أن مكتبة الإسكندرية القديمة كانت تحتوي على مئات الآلاف من المخطوطات، بعض التقديرات تشير إلى 500 ألف مخطوطة، والبعض يشير إلى 700 ألف. في حين أن هذه التقديرات تحتاج إلى مزيد من البحث والتحقق، وربما لا تعبر عن الرَّقْم الصحيح، إلا أنها توضح شيئًا مهمًا: أن المكتبة كانت هائلة الحجم، واحتوت على مجموعة ضخمة من المعارف أكبر بكثير من أي مجموعة أخرى كانت معروفة في ذلك العصر.

وعندما يأتي ذكر مكتبة الإسكندرية، فإننا نتذكر غالبًا القصص التي تروي تدميرها، تلك المكتبة الضخمة، التي احتوت بين جنباتها محيط شاسع من المعرفة، سُويت بالأرض بواسطة حريق هائل. وفي بعض النواحي، أصبح تدمير المكتبة مهمًا، إن لم يكن أكثر أهمية، لإرثها التاريخي.

إحدى الروايات، وربما الأكثر شهرة، هي القصة التي تذكر أن السجلات القديمة، التي وصلت إلى 700 ألف كتاب جمعها البطالمة، حُرقت في حصار الإسكندرية، عندما وقعت المدينة تحت يد يوليوس قيصر بين عامي 48 و47 قبل الميلاد.

بينما تخبرنا رواية قديمة أخرى المزيد من التفاصيل حول احتراق المكتبة، فبعد أن انقلبت الجماهير في الإسكندرية ضد الرومان، اضطر القيصر إلى الاختباء داخل القصر بالقرب من حوض السفن، وأثناء المعارك اشتعلت النيران من حوض السفن، ودمرت معها المكتبة العظيمة.

ما يتفق جميع المؤرخين القدامى عليه أن المكتبة قد دُمرت فعلًا. وما تشترك فيه أساطير تدميرها أنها تنعي المكتبة كضحية لانتصار الهمجية على المعرفة. وربما شجعت تلك القصص رمزية مكتبة الإسكندرية؛ تداول تلك الأساطير أدى إلى تحول اسمها كاستعارة، سواءً على الرغبة في جمع المعرفة العالمية في مكان واحد، أو أن تنقل الإحساس بفقدان مجموعة هائلة من المعارف!

وكما يرى المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد جيبون، في كتابه «انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية»، كانت مكتبة الإسكندرية واحدة من الإنجازات الكبرى للعالم القديم، وتدميرها جاء بسبب عملية طويلة وتدريجية من الإهمال والجهل المتزايد، وربما كان رمزًا للصراعات التي طغت على الإمبراطورية الرومانية. تلك الحرائق، سواءً كانت متعمدة أو دون قصد، تعدّ حوادث ضخمة فُقدت فيها العديد من الكتب، لكن مؤسسية وتنظيم المكتبة أشياء اختفت تدريجيًا من خلال الإهمال المتعمد والتقادم التدريجي للمخطوطات نفسها.

ما يراه أوفيندن أن مكتبة الإسكندرية العظيمة لم تُدمرها النيران، بل الإهمال والنسيان، ويصفها بأنها «قصة تحذيرية لخطر زحف الاضمحلال، عبر التجاهل العام للمؤسسات التي تحافظ على المعرفة».

ولكن هناك تهديداً معاصراً أكبر حتى من الإهمال!

الطوفان الرقمي!

ما يخشاه أوفيندن هو ما يطلق عليه «الطوفان الرقمي»، أو الوفرة الهائلة للمعلومات على الإنترنت. من بين أكبر المخاطر التي تواجهها المكتبات الآن هي الكميات الساحقة من المعلومات الناتجة من جرّاءِ العصر الرقمي. إذ يحتفظ سكان العالم الآن بمعلوماتهم الخاصة لدى الشركات التي يصفها البعض بأنها «قُوَى خارقة خاصة»، إذ ينظر معظم البشر الآن إلى مالكي تلك الشركات العملاقة بشعور متوجس، وهي شركات تقودها دوافع مختلفة تمامًا عن المؤسسات التقليدية التي أتاحت المعرفة للمجتمع على مر العصور.

الدوافع الرئيسية للشركات العالمية اقتصادية، عبر السعي المحموم وراء المكاسب المالية في المقام الأول، بعكس المكتبات والمؤسسات التي كانت تسعى إلى نشر المعرفة للمصلحة العامة للمجتمع. لذا قد يبدو من المنطقي ألا نضع ثقتنا في تلك الشركات العملاقة لكي تحتفظ بالمعرفة البشرية.

في النهاية، كما يرى السيد أوفيندن، فإن «الحفاظ على المعرفة لا يتعلق بالماضي ولكن بالمستقبل».