لطالما كان البحث في صورة الآخر هو في حقيقته بحثٌ عن الذات، بهذه الفكرة افتتح الفيلسوف السويسري تيير هنتش كتابه «الشرق المتخيل»، عندما قال: «لا يُحدّث هذا الكتاب عن الشرق، إنما يحدث عنّا»، والأمر سيان في هذا الكتاب الذي بين أيدينا، «بيزنطة المتخيلة». ولأن الذات لا تتحدد ابتداءً إلا إذا ما وضعت نفسها في مواجهة ذوات أخرى، قدم الدكتور ياسين اليحياوي هذه الدراسة الفكرية الموجزة والدقيقة، التي بالكاد تصل إلى 100 صفحة، إذا ما استثنينا الحواشي والتقدمة.

أخذت الدراسة على عاتقها مهمة محددة، وهي تقديم مقاربة تاريخية، للوقوف على أبرز المراحل التي تشكلت فيها صورة الآخر في المخيلة العربية المبكرة. ولما سقطت الإمبراطورية الفارسية في القرن السابع، تمحورت النظرة العربية/ الإسلامية للآخر حول الإمبراطورية البيزنطية، باعتبارها العدو القادر حقيقةً على تهديد الإسلام، مجتمعًا ودولة.

معدّها الدكتور ياسين اليحياوي، باحث وأكاديمي مغربي،حاصل على الدكتوراه في تاريخ الأديان والفكر الإسلامي من جامعة سيدي محمد بن عبد الله. مهتم بتاريخ الأديان والمتخيل وتاريخ الإسلام المُبكر. صدر له كتاب «في البدء كانت الخطيئة» (2018)، و«صورة المسيح في إنجيل الأقوال: من نبي يهودي إلى ابن الله» (2017)، إضافة إلى مجموعة من الدراسات منها «العقل الأخلاقي العربي والنزعة الإنسية خلال العصر الوسيط» (2018)، «الذاكرة الجمعيَّة موضوعًا للبحث التاريخي» (2018) و «الفضاء العام الديني في المجتمعات الإسلامية المبكرة – ترجمة» (2018)، وهذه الدراسة التي بين أيدينا، «بيزنطة المتخيلة.. أنثروبولوجيا تاريخية للآخرية في الإسلام المبكر»، الصادرة عن مركز نماء للبحوث والدراسات، أوائل العام الحالي 2019.


لماذا هذا الكتاب؟

يقدم الكاتب للدراسات السابقة على بحثه، كـ «الشرق المتخيل» لتيير هنتش (1988)، و«نحن والآخرون» لتزفيتان تودوروف (1989)، «العرب والبرابر» لعزيز العظمة (1991)، «تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا» لخالد زيادة (1983). وفي تقديم الكاتب لهذه الدراسات اعتراف بالفضل أولًا، وإبراز للتمايز تاليًا، لاسيما عن المؤلفات العربية، التي اعتمدت في رسمها لصورة بيزنطة المتخيلة في أذهان العرب على ما كُتب ودُون بدايةً من القرن الـتاسع الميلادي، المرحلة التي شهدت طفرة في التدوين وظهور مصنفات جديدة لم يكن للعرب سابق معرفة بها.

اعتمد الكاتب إذن على ما قبل هذا التاريخ، من كتب المغازي والسير، التي تحمل مجمل الأخبار المرتبطة بسيرة النبي محمد، منذ مولده وحتى وفاته، وقد أطلق المؤلفون الأوائل على كتاباتهم اسم المغازي للدلالة على الحروب التي خاضها النبي في المرحلة المدينية، والرجوع لهذه المرحلة الزمنية في دراسة الآخر شديد الأهمية – على الرغم من شح المعلومات الواردة بشأنها – باعتبارها مرحلة التأسيس للذات العربية الإسلامية، لاسيما وأنها شهدت نجاح التجربة النبوية.

هذا النجاح الذي تكللت به التجربة النبوية، جعل العرب لأول مرة يرون أنفسهم جديرين بمطالعة الإمبراطوريات المحيطة وتكوين وجهة نظر تجاهها، لدى تشكل المرحلة الأولى من وعيهم بذاتهم، فما قام به النبي محمد كان أمرًا جديدًا وغير مسبوق على الإطلاق في التاريخ العربي المديد؛ فلأول مرة في تاريخ الأديان استطاع دينٌ توحيديٌ أن يقيم لنفسه نظامًا سياسيًا زمن حياة مؤسسه، وأن يبسط سلطته بعد وفاة المؤسس – في مدة زمنية وجيزة – على مساحة جغرافية شاسعة، مزاحمًا ومناكفًا أعتى الإمبراطوريات المسيطرة في ذلك الوقت.

اعتمد الكاتب على المصادر العربية كما أسلفنا، لكنه لجبر الثغور التاريخية، وكي لا يبدو البحث انتقائيًا، عمد إلى المصدرين الأساسيين لأحداث القرن السابع الميلادي في الإمبراطورية الرومانية؛ حوليات ثيوفان المُعرف، وحوليات البطريرك نقفوز الأول القسطنطيني.


القسطنيطينية: المدينة المشتهاة

ينقسم الكتاب إلى فصلين متمايزين في الفكرة والمضمون. في الفصل الأول يبرز الآخر شيئًا فشيئًا، جنبًا إلى جنب مع بروز الأنا العربية، كثنائية لا تنفك، ويبدأ الكاتب بعد توضيح الفكرة العامة في بحث كل وشائج الصلة بين النقيضين. ففي الأول كانت التجارة، كون القبائل العربية رضيت بدور الوسيط والحامي لطرق التجارة بين الإمبراطوريات، وكانت قبل الإسلام لا تذكر الآخر إلى في أتون احتقارها للأنا/ للذات، ثم ما لبثت العرب أن طورت نظامًا سياسيًا، احتاج إلى العسكرية شأنه شأن أي نظام سياسي يعتبر حماية نفسه وتمدده من مقومات البقاء.

يطغى على القسم الأول من الكتاب مفاهيم العسكرية، كالندية والملحمية، والأخطار، والحلفاء. بينما الفصل الثاني من الكتاب يركز على اللغة، باعتبارها لسانًا واصفًا للأنا والآخر، وشاهدًا على التحولات التي تعرضت لها النظرة العربية للآخر البيزنطي إزاء المتغيرات التي طرأت على البنيات الذهنية والاجتماعية العربية، ويدلل الكاتب من خلال هذه المتابعة المتأنية للمتغيرات على الطبيعة المتغيرة للآخر المتخيل، وفقًا للمستجدات التي تطرأ على العلاقة بين الأنا والآخر، وهو بذلك يقوض النظرة الجامدة للآخر، والتي يلبسها البعض الثوب اللاهوتي، لتكون جامدة إزاء أي متغير.

لقد توصلت هذه الدراسة إلى أن فترة التفوق العربي لم تمنع من وجود تصنيفات إيجابية عن الآخر البيزنطي، قد يكون للدين دور في إنشائها إذ لم تذكر بيزنطة في النص القرآني بشكل سلبي، كما أن الإسلام باعتباره امتدادًا لدعوة الأنبياء السابقين طرح تصورات إيجابية عن بيزنطة المسيحية، ولطالما نظر العرب نظرة إعجاب للتنظيمات السياسية البيزنطية وكذلك للنمط العمراني فيها، وهي الفكرة التي استفاض الكاتب في شرحها والتدليل عليها، ضاربًا في عمق التاريخ الإسلامي.