هي أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة، والبلاد الأريضة المتناهية في كثرة العمارة، المتباهية بالحُسن والنضارة، مجمع الوارد والصادر، ومحط رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئتَ من عالم وجاهل، وجادّ وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف. تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم، على سعة مكانها وإمكانها، شبابُها يجدُّ على طول العهد، وكوكب تعديلها لا يبرح منزل السعد، قهرت قاهرتُها الأمم، وتملكت ملوكُها نواصي العرب والعجم، ولها خصوصية النيل التي جلَّ خطرها، وأغناها عن أن يستمدَّ القُطرُ قطرها.

ابن بطوطة في وصفه للقاهرة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)

كيف تشكلت القاهرة عبر الزمن؟

بعد استسلام وهزيمة الإخشيديين على يد الفاطميين في مصر في 17 شعبان 358هـ، استقر الجيش الفاطمي الذي كان قوامه حوالي 100 ألف جندي في منطقة تقع شمال مدينة الفسطاط. في المساء ذاته، شرع القائد الفاطمي جوهر الصقلي في وضع الأساس لقصر المعز في منطقة تدعى «المنصورية»، وهو الاسم الذي تبدل بعد قدوم المعز في موكب النصر ليدخل المدينة بعد ذلك بحوالي أربعة أعوام، حيث أطلق عليها آنذاك اسم «القاهرة»[1].

شكّلت قاهرة المعز الفاطمية امتدادًا عمرانيًا لمدن الفسطاط والعسكر والقطائع التي تم بناؤها تباعًا بعد الفتح الإسلامي لمصر خلال العهود السياسية المتعاقبة منذ ذلك الحين، وشكّلت بدورها امتدادًا عمرانيًا لمدينة بابليون القبطية التي تقع حاليًا في منطقة «مصر القديمة»، وهي المنطقة التي تكتنف حصن بابليون الشهير، وتضم عددًا من أهم الكنائس القبطية التاريخية كالكنيسة المعلقة وكنيسة القديس مار جرجس الروماني.

حول كل تلك الحواضر القديمة التي تم استيعابها بعد ذلك كمجرد أحياء داخل مدينتها العامرة، تمددت القاهرة في كل اتجاه خلال العصور الإسلامية اللاحقة، حيث شهدت القاهرة خلال العهدين الأيوبي والمملوكي بناء كثير من المساجد والأضرحة والسبل والحمامات والأسواق الكبيرة، فضلاً عن الحصون والأسوار والبوابات كباب الشعرية وباب زويلة وباب البحر وباب النصر، والقناطر المائية كسور مجرى العيون.

خلال عهد أسرة محمد علي الذي شهد إنشاء القاهرة الخديوية (منطقة وسط البلد) ذات الطابع الكوزموبوليتاني التي تبدأ من منطقة كوبري قصر النيل وصولاً إلى حي العتبة، بدأت القاهرة التمدد في الصحراء الواقعة في شمالها الشرقي التي تمتد إلى مدينة السويس، وهو الاتجاه الذي استمرت فيه منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، أي منذ أنشأ عباس باشا الأول حي العباسية، مرورًا بالعهد الاستعماري الذي استأنفت خلاله المسيرة شرقًا من خلال حي «مصر الجديدة» الذي أنشأه البارون البلجيكي إمبان.

سارت القاهرة في العهد الناصري في الاتجاه نفسه عبر تأسيس حي «مدينة نصر»، وصولاً ِإلى الوقت الحاضر الذي توسعت فيه القاهرة في الاتجاه ذاته من خلال «القاهرة الجديدة» وتجمعاتها وأحيائها السكنية الجديدة كـ «الرحاب» و«مدينتي»، وأخيرًا «العاصمة الإدارية الجديدة».

تتجه بهذا حركة التمدد العمراني التاريخي للقاهرة التي تتموضع بالقرب من تفرع النيل إلى فرعي دمياط ورشيد حول الدلتا، وبين الوجهين البحري والقبلي أو مصر العليا و مصر السفلى، نحو ملتقى البحرين الأحمر والمتوسط في قناة السويس، عقدة المواصلات البحرية العالمية الرئيسية، طامحة فيما يبدو، لا لأن تكون مجرد فقط عاصمة لمصر، ولكن عاصمة للدنيا كلها.


حكاية مدينتين

الانقسام الاجتماعي الحاصل في القاهرة وضواحيها، لا يبتعد كثيرًا في الحقيقة عن التماس المباشر مع قضية تراكب الهوية البادي في ملامح نسقها العمراني، وفي أنماط حياة سكانها. فمنذ تشييد القاهرة الخديوية التي سكنها البكوات والباشوات والأجانب و شرائح البرجوازية المصرية، بالإضافة إلى الأحياء التي ظهرت بعد الاحتلال الانجليزي كأحياء جاردن سيتي والمعادي والزمالك ومصر الجديدة، انقسمت القاهرة منذ ذلك الحين إلى مدينتين: مدينة حديثة، تتمع ببنية تحتية وخدمات متميزة؛ ومدينة محلية للمصريين في منطقة مصر القديمة وما حولها تتوسع بشكل شبه عشوائي مع مرور الزمن.

ارتبط النمو العشوائي لأطراف القاهرة بعدة عوامل، منها ظهور المنشآت الصناعية بطريقة عشوائية عند أطرافها الشمالية ولاسيما في منطقة شبرا الخيمة [2]، حيث زحفت على الأراضي الزراعية، فاندفعت أعداد هائلة من المهاجرين من الأقاليم الريفية القريبة للعمل في تلك المنشآت الصناعية. ومن أهم تلك العوامل كذلك، فقدان الحكومات المصرية المتعاقبة منذ سبعينيات وثمانينات القرن الماضي للسيطرة على ديناميكية العمران.

أدى هذا النطاق من النمو العشوائي إلى نمو مناطق حضرية متريّفة Urban–Rural، تظهر فيها خصائص من المدينة وأخرى من الريف، وهي مناطق تعاني تدنيًا مزمنًا في الخدمات وغيابًا للتخطيط العمراني، وبالتالي ضيقًا في الشوارع وكثرة في تعرج المسارات وتكسرها، وغيابًا ملموسًا للمرافق التعليمية والصحية [3].

كانت أسوأ نتيجة لهذا النمو التراكمي العشوائي هو ظهور ما يعرف بأحياء عشش الصفيح، ذات الشوارع شديدة الضيق والقمامة المتراكمة، وهي التي بنيت بشكل بائس على أطراف المدينة دون تمتع بأي بنية تحتية كأنابيب المياه النقية أو مجاري الصرف الصحي أو الكهرباء، وأشهر نماذجها في القاهرة الكبرى هي «عزبة الصفيح» بالقرب من حي روض الفرج في شمال القاهرة [4].

اتجه النمو العمراني العشوائي جنوب القاهرة نحو حلوان التي تشكل امتدادًا لحي المعادي على نهر النيل، وهي من أهم المراكز الصناعية في القاهرة حيث تتركز فيها منشآت الصناعة الثقيلة، واتجه أيضًا جنوبًا نحو الجيزة وشمالاً نحو شبرا الخيمة [5]، مطوّقًا القاهرة الكبرى بحزام من العشوائيات ذات الكثافة السكانية العالية، يمكن الإطلال عليها بشكل دوري عند المرور على الطريق الدائري السريع المشيد حول القاهرة، وهو أشبه بحزام ناسف يطوق خاصرة المدينة في حال تفجر انتفاضة أو ثورة شعبية اجتماعية نتيجة للفقر وانعدام المساواة.

مظاهر الحرمان البادي في الشطر الأفقر من القاهرة ترافقت في الوقت نفسه عبر مرور الزمن مع عودة تدريجية للمظاهر الإسلامية الغائبة في المجتمع كالحجاب والنقاب وإعفاء اللحى، بتأثير ديناميات عديدة، كتأثير أنماط التدين السائدة في منطقة الخليج علي العاملين المصريين العائدين من هناك، وتأثير فتح المجال السياسي والاجتماعي أمام الحركات الإسلامية منذ سبعينيات القرن الماضي، وتأثير الهجرة الواسعة من الريف إلى القاهرة.

على خط التدرج الرأسي الطبقي المتعامد على عمران القاهرة الكبرى الممتد أفقيًا، تزيد وتخف مظاهر التدين ثقافيًا واجتماعيًا بين أحياء المدينة المختلفة بشكل يرتبط على نحو لا يخفى، مع المستوى الطبقي بصورة مثيرة للاهتمام، حيث تكاد تستقر نسبة انتشار تلك المظاهر في المنتصف تقريبًا عند الشريحة الوسطى من الطبقة الوسطى التي يتركز ثقلها الاجتماعي في مدينة نصر، بينما تزيد نسبيًا في الأحياء الشعبية كإمبابة وضواحي الجيزة كناهية وكرداسة، وتضعف بصورة ملموسة في المقابل في أحياء مصر الجديدة والمعادي والزمالك والمهندسين.

على عكس القاهرة القديمة التي توسعت عشوائيًا في كل اتجاه، توسعت القاهرة الحديثة بتخطيط عمراني منظم، تداخل فيه الدور الحكومي مع دور القطاع الخاص، بشكل تعكس فروقات عمرانه تحولات النظام السياسي المصري ونهجه الاقتصادي والاجتماعي، بدءًا من مدينة نصر التي تعبر عن وجه القاهرة الناصري، وصولاً إلى «مدينتي» وغيرها من الضواحي الجديدة التي تحمل عددًا من سمات الضواحي الأمريكية.


قصة إنشاء القاهرة الجديدة

علي النحو الذي انتهجته العواصم العالمية الكبرى المكتظة بالسكان كباريس ولندن، وبعد أن أصبحت مرافقها لا تتحمل مزيدًا من الضغط السكاني، اتجهت القاهرة مثل تلك العواصم الأوروبية وغيرها، إلى العمل على بناء مدن ومجتمعات وضواحٍ عمرانية جديدة لخلخلة العاصمة من السكان وإعادة التوازن العمراني [6].

لضمان نجاح مثل هذه التجمعات العمرانية، تحتاج هذه المجتمعات الجديدة لقاعدة من المشروعات الاقتصادية الخدمية لتقديم الخدمات وخلق فرص عمل في الوقت ذاته، وتوفير طرق ووسائل مواصلات سريعة مع العاصمة، كل هذا لتوفير حوافز للانتقال إليها [7].

بتأثير من سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، المؤسستين الدوليتين الأكثر تأثيرًا في صياغة ملامح خطط وجدول أعمال الحكومة المصرية في العقود الأخيرة، تبنت الحكومة المصرية عدة سياسات رئيسية؛ من أبرزها الاعتماد على قطاع العقارات والإنشاءات كمدخل لتحفيز النمو الاقتصادي، والاعتماد على المقابل المالي لمبيعات الأراضي كعنصر أساسي لسد عجز الميزانية، والاعتقاد أن المساكن الجديدة سوف تحل أزمة الإسكان.

مع ذلك، فإن معظم تلك المجتمعات العمرانية في القاهرة الجديدة معدّة للإسكان فوق المتوسط الذي لا يحل بطبيعة الحال مشكلة الإسكان في البلاد. وعلى عكس النمط السوفييتي في البنايات المبنية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من خلال المساكن الشعبية والاجتماعية المختلفة التي تعتمد على التمدد الرأسي وزيادة عدد الوحدات السكنية من خلال زيادة عدد الطوابق، تمتد تلك المجتمعات العمرانية أفقيًا، على هيئة قصور وفيلات وبنايات فاخرة كما نجد في «التجمع الخامس» على سبيل المثال.

ويمثل الفارق في تكلفة البنية التحتية الكبيرة التي تحتاجها تلك المجتمعات السكنية الجديدة، والممتدة على نطاق جغرافي أوسع، في مقابل قدرتها الاستيعابية الأقل، واعتماد ذلك كنمط أساسي في التوسع العمراني، نموذجًا لتحولات الانحياز الطبقي للدولة المصرية من الانحياز للطبقة الوسطى والطبقات الأفقر عقب 23 يوليو/تموز 1952، إلى الانحياز التام والكامل بنهاية المطاف للطبقات فوق المتوسطة والعليا.

دراسة مبادرة «تضامن» المعنية بالحقوق والعدالة العمرانية في مصر

حسب دراسة أعدتها مبادرة «تضامن» المعنية بالحقوق والعدالة العمرانية في مصر، يوضح الجدول أعلاه أن الأسر المصرية يجب أن تدفع أقساطًا شهرية للوحدات السكنية المخصصة للإسكان الاجتماعي المتوسط في المدن الجديدة تزيد عن 3500 جنيه. بينما يشير مسح الدخل والإنفاق والاستهلاك بأن الأسر التي تنفق أكثر من 2387 جنيهًا شهريًا تنتمي في الواقع إلى الشريحة العليا من الدخل؛ أي 20% من السكان الأكثر ثراءً في مصر كما يوضح الجدول التالي.

دراسة مبادرة «تضامن» المعنية بالحقوق والعدالة العمرانية في مصر

ونظرًا لكون تلك المدن الجديدة تقع على أطراف المدن القائمة، واعتماد معظم سكانها تقريبًا في فرص عملهم على العاصمة، وضعف ارتباط مناطقهم بشبكة المواصلات العامة، يحتاج سكان تلك المدن الجديدة بشكل كبير لاقتناء سيارات خاصة، وهو ما لا يقدر عليه محدودو الدخل بطبيعة الحال، و هو ما يحدد أيضًا بوضوح طبيعة الشريحة الطبقية لسكان القاهرة الجديدة المؤسسة على نمط الضواحي الأمريكية، التي لا يوجد فيها مكان للفقراء.

المراجع
  1. ك.ا.س كريزويل، أبحاث الندوة الدولية لتاريخ القاهرة، مارس- أبريل 1969، الجزء الثاني، مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1971، ص861
  2. إيمان شاهين عبد الصمد، النمو العمراني العشوائي شمالي مدينة القاهرة: دراسة حالة مدينة شبرا الخيمة ( 1986 – 2000 )، أبحاث الملتقى الثالث للجغرافيين العرب التاريخ الميلادي، الناشر: الجمعية الجغرافية السعودية 2003،
  3. المصدر السابق
  4. المصدر السابق
  5. المصدر السابق
  6. ، دكتور عبد الباقي إبراهيم رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية أستاذ التخطيط العمراني ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس سابقاً كبير خبراء التخطيط العمراني في الأمم المتحدة سابقا، تجربة المدن الجديدة في مصر تصور النظرية في غياب استراتيجية وطنية للاستيطان.
  7. المصدر السابق