في الخمسينيات كانت العاصمة الفرنسية باريس ترزح تحت الضغط السكاني المتزايد الذي كادت مرافقها تعجز عن استيعابه؛ الأمر الذي ظهرت إرهاصاته في زيادة كثافة المرور في الشوارع والطرقات، مع زيادة استهلاك المياه والصرف الصحي والكهرباء. في هذه الأجواء نشأ ما صار يعرف بـ «نظرية المدن الجديدة».

بالنسبة لفرنسا، تم اختيار عدد من المواقع الصالحة لإنشاء مدن جديدة، مع الأخذ بتوفر وسائل النقل السريع بينها وبين باريس في الاعتبار، ومع وجود تجمعات عمرانية صغيرة في الموقع تكون بمثابة النواة التي تتبلور حولها المدن الجديدة. هذا بالإضافة إلى توفر المشروعات التنموية للقاعدة الاقتصادية الخدمية في الموقع الجديد، خاصة في المواقع الأقل تنميةً من غيرها في الأقاليم الأخرى.

أما في مصر، فقد انتقلت نظريات المدن الجديدة دون تطويعها للواقع المحلي بيئيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، حيث كان اختيار مواقع المدن الجديدة في مصر اجتهاديًا أكثر منه علميًا، فلم يتم في إطار تخطيط إقليمي واسع النطاق، لتحديد نمط توزيع التجمعات البشرية الجديدة خارج الوادي الضيق، واختيار أنسب المواقع لهذه التجمعات، سواء من حيث طبيعة الأرض والتربة أو مصادر التغذية بالمرافق العامة من المياه والكهرباء والغاز والصرف الصحي ووسائل النقل والمواصلات القائمة، ناهيك عن التخطيط الدقيق لمستقبل هذه المدن.

ركزت الدولة سياساتها بشكل أساسي على فكرة توجيه الاستثمارات إلى دعم تنمية الأراضي وفرص الإسكان في المدن الجديدة، دون النظر إلى دعم هذه الوحدات بالخدمات والبنية التحتية المصاحبة، بحسب دراسة نُشرت على موقع «مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية»، بعنوان «التطوير في المجتمعات العمرانية الجديدة في مصر: نحو مدخل تنموي متدرج للخدمات والبنية التحتية».

أي انصب تركيز الدول على فكرة «الإنجاز» وليس الفاعلية، من حيث بناء عدة مدن جديدة في نطاق زمني مُحدد، ونقل أكبر قدر ممكن من الكثافة السكانية القاهرية إلى هذه المدن، دون تخطيط واعٍ لحاضر هذه المدن أو مستقبلها.


هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة: هل من فائدة؟

في كل من فرنسا وبريطانيا، ونظرًا للحركة المستمرة للتنمية العمرانية للمدن الجديدة، فقد تم استحداث هيئات خاصة بالإدارة المركزية للتنمية العمرانية لهذه المدن، لوضع السياسات العامة للتطوير، ويساعدها في ذلك أجهزة قائمة على إدارة التنمية العمرانية في كل مدينة، وقد وُضعت لها الهياكل التنظيمية والإدارية والصلاحيات المالية والفنية التي تساعدها على دفع أعمال التنمية العمرانية بصفة مستمرة.

وعندما وصلت المدن الجديدة إلى مرحلة النمو الذاتي كغيرها من المدن أُلغيت الهيئات المركزية للتجمعات العمرانية الجديدة، وانخرطت هذه المدن بعد ذلك في الإطار التنظيمي والإداري للحكم المحلي المطبق في البلاد.

وفي مصر، تدير منظومة المدن الجديدة جهة مركزية غير مُنتخَبة تتبع وزارة الإسكان، هي «هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة» التي تأسست عام 1979، أي في عصر الانفتاح واقتصاديات السوق، ورغم ذلك فإن تخطيطها واختيار مواقعها ووظائفها العمرانية قد أُقرت جميعًا في إطار أساليب تخطيط تعود إلى عصر التخطيط المركزي.

وبذلك فإن المدن الجديدة لا تخضع للنظام الإداري المحلي المصري، الذي على الرغم من عيوبه الواضحة فإنه يتيح قدرًا من المشاركة من جانب السكان المحليين -من خلال ممثليهم المنتخبين- في إقرار ومراقبة السياسات العمرانية والتنموية المحلية. ولكن هيئة المجتمعات العمرانية قد جعلت من المدن الجديدة مجالًا غير ديمقراطي.

ويمكن أن نرى بوضوح شديد أن مركزية التخطيط والإدارة في استراتيجية المدن الجديدة تعارض الفلسفة العمرانية الديمقراطية. فلكي يكون التخطيط صائبًا ومبنيًا على الاحتياجات الفعلية للمواطنين، يجب أن تكون هناك مساحة ملائمة لمشاركة المجتمع في عملية التخطيط، وهذا غير متوفر.

كذلك فإن التخطيط الفعّال، خاصة في المجال العمراني، لا بد أن يكون غير مركزي، بحيث تتاح لكل إقليم الفرصة أن يُوزِع الموارد المخصصة له بشكل يتناسب مع تركيبته وخصائصه، وهو الأمر غير المتحقق أيضًا في المدن الجديدة في مصر.


ميزانيات مُهدرة

في تصريحاته عقب غمر المياه لشوارع القاهرة الجديدة، ذكر اللواء أبو بكر الجندي، وزير التنمية المحلية، أن ما حدث كان مفاجئًا، لأن هذه التجمعات السكنية لم تشهد تلك الموجة من الطقس السيئ من قبل، من حيث الأمطار والسيول. وأشار أيضًا إلى أن إمكانيات البنية التحتية هناك غير مجهزة لمثل هذه الظروف، مضيفًا:

ويمكن أن نلمس مدى ضخامة الكارثة، عندما نعلم أنه بسبب مياه الأمطار والسيول لم تغرق المنازل والشوارع فقط، ولكنها تسببت في انقطاع خدمات المياه والكهرباء والاتصالات عن معظم مناطق القاهرة الجديدة.

المفارقة الحقيقية هي أن المدن الجديدة منذ إنشائها قد استهلكت ما بين 10% و22% من إجمالي مخصصات البنية التحتية سنويًا. ومن المثير أيضًا أن وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية قد أعلن أن موازنة هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة للعام المالي 2018-2019 ستكون الأضخم في تاريخها، بحيث تبلغ 85 مليار جنيه.


ترميم أم تحديث البنية التحتية

كان ممكنًا أن يتم عمل أفضل صرف مياه للأمطار، ولكنها كانت تحتاج مليارات حتى تكون على أكمل وجه لتفادي ما حدث.

يقول الدكتور عباس الزعفراني، أستاذ التخطيط العمراني بجامعة القاهرة، إن ما حدث يشير فعلًا إلى عيب في البنية التحتية في منطقة القاهرة الجديدة، بسبب عدم تزويدها بشبكة لصرف الأمطار سطحيًا، مثل معظم دول العالم التي تسقط عليها الأمطار كثيرًا.

النقطة المحورية في حديث الزعفراني هي رفضه لمحاولة تدارك هذا الخطأ بتصميم شبكات صرف أمطار جديدة، لأن تكلفتها ستكون كبيرة جدًا أكبر من تكلفة المشكلة نفسها، وفقًا لرؤيته. والحل الأفضل –من وجهة نظره- هو فتح بيارات صرف في أكثر المناطق انخفاضًا في الطريق، وجعل الماء ينزل تحت الأرض، مع استخدام مواسير تشبه مواسير المياه الجوفية، تسحب الماء من الشوارع وتحقنها في باطن الأرض، مؤكدًا أن هذا الحل ليس له أي خطورة ولن يسبب انهيارًا أرضيًا.

ولكن في تقرير نُشر من جمعية المهندسين الأمريكيين المدنيين عام 2005 تمت الإشارة إلى أن عملية ترميم البنية التحتية للمدن غير مجدية من نواحٍ تشغيلية ومن جوانب اقتصادية، وأن التحديث يجب أن يكون وفق نظام «الاستبدال الكامل». وذلك لأن الاعتماد على البنية التحتية القديمة سيدفعها لتحمل ما هو فوق طاقتها التشغيلية، مما يزيد من الخسائر الاقتصادية وحتى الصحية والبيئية، وهو ما قد يتضاعف على المدى الطويل.

إضافة إلى ذلك فإن أنظمة تشغيل البنية التحتية تتطور كل يوم بشكل كبير، وبالتالي فإنها لن تستطيع التعامل مع البنية التحتية وفق أنظمتها القديمة. الأمر الذي قد يفاقم مشكلات البنية التحتية ويبدد التكاليف المرصودة لها دون تحقيق فائدة حقيقية من أعمال هذه الترميمات.