بمجرد الانتهاء من مسيرتك الدراسة، تجد نفسك تبدأ مسيرة جديدة في البحث عن العمل، وفي دولة كمصر –تصل معدلات البطالة بها إلى 10.6% وتزداد لنحو 24.5% بين الشباب في الفئة العمرية من 15 إلى 29 عامًا – فإنك تجد نفسك أمام ثلاثة خيارات:

  1. إما أن تستمر في البحث عن تلك الوظيفة المثالية التي تتناسب مع مجال تخصصك وتحقق لك الرضاء المعنوي والمادي، وإلى أن يتحقق ذلك ستحصل على لقب عاطل.
  2. أن تقبل بوظيفة في مجال تخصصك ذات أجر ضعيف لا يتناسب بأي حال من الأحوال مع الظروف الاقتصادية الحالية والارتفاع المستمر بالأسعار، وحينها تبدأ معاناتك المادية.
  3. أن تلجأ إلى الخيار الثالث فتقبل بعمل خارج مجال تخصصك لكنه يوفر إلى حد ما راتب يكفي لتلبية متطلباتك الأساسية.

وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية، يتجه الكثير من الشباب وخريجي الجامعات إلى الخيار الثالث، فما يجد أمامه إلا وظائف الكول سنتر التي تزخم بها الإعلانات في الشوارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن هل قبوله لتلك الوظيفة يعني انتهاء المعاناة؟ لنلقي إذن نظرة على واقع العمل بتلك الوظائف.


من واقع شباب الكول سنتر

في حديثها لـ«إضاءات» تروي (م.أ)، خريجة اقتصاد وعلوم سياسية، أنها كمعظم الشباب وجدت أن فرص العمل بمجال تخصصها صعبة، فما كان منها سوى القبول بهذه الوظيفة حتى يمكنها رفع العبء عن أهلها والهروب من لقب عاطل.

بالفعل أجريت مقابلة بشركة تعمل لصالح شركة اتصالات كبرى بمصر، وتم قبولي وتلقيت تدريبًا حتى تسلمت العمل. سمعت كثيرًا عن صعوبة هذه المهنة ووجود مضايقات من بعض العملاء، ولكن لم أتصور أن يصل الأمر إلى رد عميل على سؤالي كيف يمكنني مساعدتك بقوله يمكنك أن تساعديني بأن تحضري إلى منزلي، سأعطيك أضعاف مرتبك، وإلى غير ذلك من حديث مبتذل. وبالرغم من طلبي منه الالتزام بسياق الحديث وتحذيري له إلا أنه استمر على وتيرته هذه فما كان مني إلا إغلاق المكالمة رغم علمي أن ذلك يمكن أن يتسبب بفصلي من العمل، ولكن فليحدث ما يحدث.

على الجانب الآخر، تشير (ف.م)، خريجة تجارة، إلى أنها بدأت رحلتها في البحث عن العمل بالتقديم في العديد من الشركات والبنوك، لكنها اصطدمت بـالواسطة والـكورسات التي يتطلبها أي عمل، وفي ظل افتقادها لمال يكفيها للحصول على تلك الكورسات، اضطرت للعمل بخدمة العملاء لتوفير هذا المال.

وخلال عملها بهذه المهنة تعرضت لحالات تحرش عدة كان أبرزها قيام متصل بإسماعها مقاطع من أفلام جنسية خلال المكالمة وتطاوله بالتحدث بشكل جنسي بحت، كما تؤكد تكرار قيامه بالأمر ذاته مع عدد من زميلاتها بالعمل.

وقالت (ر.ح)، خريجة تجارة أيضًا إلى تعمد عدد من العملاء الاتصال لمجرد المضايقة، وتضرب مثالًا على ذلك بسؤالها لعميل عن استفساره، فكان رده عليها بالغناء والطلب منها معرفة إلى أي إعلان تنتمي هذه الأغنية. استمر الوضع على هذا الحال قرابة النصف ساعة، وهي تحاول أن تنهي معه المكالمة، فما كان منه بالنهاية إلا أن وجه لها السباب، وطلب منها تحويله للمدير ليقدم شكوى بها.

تضيف ر.ح :

وافقت على الفور على تحويله وأبلغته أنني سأضعه على الانتظار ليتم تحويله كما أراد، إلا أنه تعنت ورفض الانتظار واستمر الأمر هكذا نصف ساعة أخرى، إلى أن تم فصل المكالمة.

على المسار ذاته، توضح (أ.ع) لـ«إضاءات»، تعمد بعض العملاء الإطالة بمدة المكالمة لعلمهم أنها لا يمكنها إغلاقها إلا بموافقته، الأمر الذي يسبب لها ضغوطاً نفسية وعصبية ويتسبب بالنهاية بعدم تحقيقها التارجت المطلوب منها والخصم من راتبها.

وتشير في هذا الصدد إلى طلب عميل الحصول على المكالمات التي تجري على خط ما يستفسر عنه، دون أن يكون لديه البيانات المطلوبة عن ذلك الخط، فأجابته أنها لا يمكنها القيام بذلك حفاظًا على سرية العملاء، فما كان منه إلا الإصرار على طلبه وإلا سيستمر معها إلى أن تفصل المكالمة تلقائيًا بعد مرور ساعة. بالفعل استمر في مضايقتها والإطالة بمدة المكالمة عبر التساؤل عن الكثير من الخطوط وهي مجبورة على إجابته، وبالنهاية وجّه لها سيلاً من الشتائم وأنهى الاتصال.

كما تضيف:


ضغوط خارجية داخلية

تشكل مراكز الاتصالات حاليًا واحدًا من أهم مجالات التوظيف في اقتصاد الخدمات العالمي، إلا أن العمل داخلها يُنظم وفقًا لعدد من القواعد والتعليمات الصارمة، فعلى الموظفين التحدث إلى العملاء بأساليب معينة، وخلق أجواء مخاطبة قصيرة تتخللها كلمات تدل على الإنصات، مثل تمام، مع حضرتك، في خدمة حضرتك… إلخ.

ولا تكمن الصعوبة في ذلك، بل في تلك التجاوزات التي تحدث بحق موظفي خدمة العملاء من بعض المتصلين، فهم مجبرون على التعامل مع تلك التجاوزات سواء كانت ناتجة عن غضب العميل وإحباطه من مشكلة تواجهه، أو كان نتيجة تعمد البعض التجاوز وتوجيه الإساءة. وهم في ذلك لا يمتلكون صلاحيات للتعامل مع هذه التجاوزات، فبمجرد الالتحاق بتلك المهنة لا يوجد أي مجال سوى تطبيق سياسة الشركة، وإرضاء العميل بأي طريقة، لدرجة تحمل السب والإهانة، والرد فقط بوعد بحل المشكلة ومحاولة امتصاص غضب العميل وتقديم الشكر له.

وما يزيد الأمر صعوبة ذلك النظام الصارم لقياس الأداء، حيث يتم تحديد راتبهم وبقائهم بالعمل من عدمه وفقاً لعدد من القواعد، أبرزها التالي:

1. حد زمني للتعامل مع استفسارات العملاء:

بصفتك موظف خدمة عملاء عليك تلبية طلبات العميل بشكل صحيح وفي فترة زمنية يجب ألا تتجاوز في المتوسط الثلاث دقائق. بالطبع يشكل هذا ضغطاً كبيراً على موظفي هذه المهنة، إذ إن بعض العملاء يكون لديهم وصف تفصيلي للمشكلة ما يطيل من مدة المكالمة، والبعض الآخر تكون لديه الكثير من الاستفسارات يجب الإجابة عليها بشكل واضح، والبعض الثالث يتعمد إطالة مدة المكالمة كما سبق الإشارة.

وفي جميع الحالات على موظفي خدمة العملاء تحقيق التوازن بين إرضاء العميل وإنهاء المكالمة في أقصر وقت ممكن، وإذا أخفق في ذلك يتم الخصم من راتبه.

2. عدد المكالمات وتسجيلها:

يزداد الأمر صعوبة مع كثرة عدد الاتصالات والتي تصل لمئات المكالمات كل يوم، مع خضوعها للتسجيل والمراقبة الأسبوعية، حيث تخضع هذه المكالمات للمراقبة كل أسبوع، ويتم تقييمها وفقاً لطريقة تعامل الموظف مع العميل ومدة المكالمة وجودتها وأشياء أخرى.

3. الفصل حال الخطأ:

كونك موظف خدمة عملاء عليك أن تتعامل مع الاستفسارات المختلفة بمهنية ودون أي مجال للأخطاء، حتى إذا لم تكن قد حصلت على التدريب الملائم. وإذا حدث وتكرر وجود خطأ ببعض المكالمات لما يزيد على 3 أو 5 مكالمات بالشهر يتم طردك من العمل. وعلى هذا النحو يبقى الموظف في حالة من التوتر والضغط النفسي تزداد بالطبع مع الموظفين الجدد.

https://www.youtube.com/watch?v=eBTeuDV54pY


ماذا عن المعاناة النفسية والصحية؟

الأمر لا يقتصر على تلك المضايقات فهناك الكثير من الصعوبات المتعلقة بفقدان الرصيد وعدم وجود إمكانية لتعويض العميل ببعض الشركات، وهناك خدمات لا يمتلك موظفو خدمة العملاء الصلاحية لإلغائها أو تفعيلها، إلا أن غالبية العملاء لا يقتنعون بالأمر ويصبون جم غضبهم على الموظفين وكأنهم هم من يتحكمون بالشركة وقواعدها، والمطلوب منهم بالنهاية تحمل كل هذا الغضب بما يحمله من ألفاظ نابية في مقابل ضرورة الالتزام بالهدوء!

نتيجة لهذه الأوضاع يعاني الكثير من موظفي خدمة العملاء من مستويات عالية من التوتر والضغط النفسي، الأمر الذي أشارت إليه دراسة بالمجلة الهندية لطب المجتمع Indian Journal of Community Medicine، موضحة أن العمل داخل مراكز الاتصالات هذه يتم تصنيفه كواحد من أكثر الوظائف المُجهدة في العالم، مُبينة أن نحو 58.3% من العاملين في بهذه الشركات أكثر عرضة للتوتر، ونحو 62.9% منهم معرضون للاكتئاب.

كذلك أشار عدد من أساتذة الطب النفسي، إلى أن هذه الوظيفة تصيب الإنسان بمرض يسمى الاحتراق الذاتي، وهو يصيب معظم من يعمل في وظيفة نمطية، كما أنها تزيد من حدة العنف لديه، وتُحدث تغييراً في شخصيته فتجعله إنساناً عصبياً، مستهلكاً، معزولاً عن المجتمع، وأن استمرار العمل بها يصيب الإنسان على المدى البعيد بالوسواس القهري.

فكثرة استقبال المكالمات والكبت حال تطاول العميل يُسبّب احتراقاً داخلي اً، ويدفع الإنسان أن يكون عصبياً في تعاملاته مع الآخرين، ناقماً على المجتمع، يحاول إخراج الغضب على من هو أقل منه. كما أن تغيير مواعيد العمل أسبوعياً يزيد الجسد إرهاقاً ويجعل الإنسان منعزلاً عما حوله، راغباً دائماً في النوم، ولا يرغب في مقابلة أحد أو الخروج من أصدقائه، فوفقاً للعديد من الدراسات؛ نحو 90% من موظفي خدمة العملاء لم يتمكنوا من تحقيق التوازن بين عملهم والحياة الأسرية.

على الجانب الآخر، أظهرت دراسات عدة أن العمل بهذه المهنة عادة ما يكون مصحوباً ببعض المخاطر الصحية، كالتهاب الأذن الوسطى، آلام الظهر والكتف ومشاكل في الجهاز الهضمي والصداع بسبب إجهاد العين، هذا فضلاً عن فقدان الصوت،وارتفاع ضغط الدم. وعلى هذا النحو، أشارت دراسة أجراها معهد السلامة والصحة المهنية (IOSH) إلى أن واحداً من كل أربعة من موظفي خدمة العملاء يُعاني من الإجهاد ومشاكل في الصوت، وضيق التنفس، وارتفاع ضغط الدم.