جاء أداء الكاميرون مبهرًا في كأس العالم 1990 الذي استضافته إيطاليا، بداية من الفوز بهدف نظيف على مارادونا وفريقه في المباراة الافتتاحية، وانتهاء بخروجها من دور الثمانية وهو ما لم يصل إليه فريق أفريقي في كأس العالم من قبل. ظهرت الكاميرون في كأس العالم 1994 المقام بالولايات المتحدة بمظهر مؤسف، إذ استبعدت بعد هزيمة مذلة أمام روسيا 6-1.

انتظرت الكاميرون كأس العالم 1998 في فرنسا على أحر من الجمر، مدفوعة بتجاربها السابقة إلى جانب كونه فرصة ذهبية للانتقام من فرنسا مستعمر الماضي والمهيمن الاقتصادي الحالي وداعم النظام السياسي المستبد.

في 23 يونيو/حزيران، لعبت الكاميرون مباراة مصيرية مبكرة ضد تشيلي، تحتاج إلى الفوز فيها للتأهل إلى الدور الثاني في حين كان التعادل كافيًا لتأهل تشيلي، لكن الأمور جرت على غير المتوقع، مثلما تحكي الأنثروبولوجية المجرية «بيا فيداكس» المقيمة في الكاميرون لدراسة العلاقة بين كرة القدم والهوية آنذاك.

في مباراة الكاميرون وتشيلي، بدأت تشيلي التهديف في الدقيقة 30، ثم طرد لاعب كاميروني في الشوط الثاني، رغم ذلك بدأت الكفة تميل لصالح الكاميرون وتمكنت من تحقيق التعادل، لكن حين سجلت الكاميرون هدفًا ثانيًا، ألغاه الحاكم الهنغاري دون سبب واضح. ثم طرد لاعب كاميروني آخر، لتنتهي المباراة بالتعادل وخروج الأسود من كأس العالم.

عزز نظرية المؤامرة لدى الكاميرون والجماهير الأفريقية ما جرى في المباراتين الجاريتين في وقت واحد من الليلة نفسها، واحدة بين المغرب وإسكتلندا والأخرى بين البرازيل والنرويج. كانت البرازيل متأهلة بالفعل، لكن فوز النرويج كان سيكفل لها التأهل بدلاً من المغرب.

تقدمت المغرب على إسكتلندا 3-0، فإذا بحكم مباراة النرويج والبرازيل يحتسب ضربة جزاء للنرويج في اللحظة الأخيرة. ضربة غير مبررة، ترجمها النرويجيون إلى هدف كفل لهم التأهل على حساب المغرب.


دروس في الكراهية والحلم والاستغلال

اندلعت عقب المباراة أعمال شغب في المدن الكبرى، حيث هاجم الجمهور كل من صادفه من البيض، حملوا لافتات من قبيل: «يكفي ذلك» و«ليرجع البيض إلى بلادهم» مرددين شعارات معادية للبيض والفيفا.

كان أغلب مثيري الشغب من الشباب والفقراء، لكن حتى رجال الشرطة بذلوا جهدًا كبيرًا للسيطرة على انفعالاتهم، ولم تُدِن الصحف العنف لاحقًا، إذ كان ينظر إليه من الجميع كرد فعل طبيعي أمام ظلم الحكم المجري غير المبرر.

الجندر والكراهية: أبيض ضد أسود

من أكثر ما لفت انتباه بيا في الكراهية الصافية التي تفجرت ضد البيض هو تعامل الغرباء معها في الشارع، فهم عادة ما ينعتونها عند الإشارة إليها أو مخاطبتها بـ«البيضاء»، لكنها لاحظت في تلك الأزمة أنهم صاروا يطلقون عليها «الأبيض».

لقد اختُزلت بيا في جانب واحد من هويتها هو لون البشرة، ذلك لأنه الجانب الأكثر ظهورًا في الآخر محل الكراهية ساعتها. تقول بيا إن العرق والجنس هما من أكثر جوانب الهوية البيولوجية للشخص وضوحًا، وإن استبعاد واحدة منهما يجعل المعركة أكثر حدة، فتصير أبيض ضد أسود وفقط.

يتيح نزع الهوية الجندرية عن المرأة البيضاء تجاوز كون النساء لَسْن من المعنيات بالكرة وفق العقلية السائدة. عندما خفت حدة الروح العدائية، ترجمت الكراهية إلى نكات، فكانت بيا تتسوق في أحد المتاجر حين سمعت مراهقيْن يتمازحان، سأل أحدهما: «أهذا هو الأبيض الذي قتلنا؟» فأجابه زميله «لا، إنها امرأة».

أنثروبولوجيا الكرة: البحث عن أمل

يرى الأنثروبولوجي الفرنسي كريستيان برومبرجر أن جاذبية كرة القدم كغيرها من الألعاب الرياضية تتركز إلى حد كبير في استحضارها للقيم الأساسية للمجتمعات الديمقراطية، ومنها الجدارة وتكافؤ الفرص والمنافسة العالمية.

ينبه برومبرجر إلى أنه حتى الجدارة قد يطاح بها في كرة القدم عن طريق عامل الصدفة، فالفريق الأفضل لا يفوز دائمًا، وهذا ما يمنح اللعبة حس التوتر ويضفي عليها الطابع الإنساني، كما يمكن للجماهير أن تشارك بقوة في المباراة إلى درجة تغيير نتيجتها.

يظل للعب بالقواعد إغراؤه مهما كانت مساحة الصدفة، خاصة للشعوب الطامحة إلى تحقيق إنجازات حقيقية، بصرف النظر عن الوضع في العالم الخارجي من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية، ما يجعل كرة القدم – بالنسبة للكثيرين – فرصة لعكس علاقات القوة السائدة في العالم وخلق سردياتهم الخاصة.

السياسة: فن التزحلق على الأزمات

أنتجت هزيمة الكاميرون سردية مظلومية شعبية، بدأت أعمال الشغب بعفوية، لكن الصحف والمؤسسات صدرت خطابًا شعبويًا حول العنصرية البيضاء ومؤامرة الفيفا لإخراج فرق العالم الثالث من المنافسة،داعمة النظرية بقصص من مباريات كؤوس العالم السابقة.

وجدت حكومة الكاميرون المفتقرة إلى الشعبية في أزمة كأس العالم 1998 على عدو خارجي يمثل لها أرضية مشتركة مع الجماهير، وقد نجح الأمر. تحدث وزير الشباب والرياضة – مثلاً – عن ظلم وعنصرية البيض في مباراة الكاميرون التالية ضد إيطاليا، بعد طرد أحد اللاعبين، ثم استرجع أحداث كأس العالم 1982 في إسبانيا، حين ألغي لهم هدف ضد بيرو، وأرجعه إلى عنصرية الحكم أيضًا.

تذكرنا بيا بحديث الفيلسوف والناقد الكاميروني الكبير أشيل مبيمبي حول التماهي اللا واعي للجماهير مع تجاوزات الدولة بمرور الوقت. اختزلت مسيرة الكاميرون في كأس العالم في هذه المباراة، وأعيد موضعة المباراة أيضًا في الإطار التاريخي لمظالم سابقة في كأس العالم وفي إطار علاقات القوى العالمية.

نسي الجميع ما يعرفونه عن أوجه القصور العديدة سواء الرياضية والسياسية، ونسوا أن البرازيل وغيرها ليسوا من دول العالم الأول. نجحت الكرة حتى عند الخسارة في خلق السردية التي تحدث عنها برومبرجر، وهي سردية نجحت – رغم شعبويتها – في تكتيل الجموع بمختلف طبقاتهم وتحيزاتهم.