أنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم
السادات أمام البرلمان المصري في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1977م

عزم السادات نيته على السلام في حين رأته الدول العربية والجيش المصري بمثابة استسلام، وقدم كل من «إسماعيل فهمي» وزير الخارجية المصري، و«محمد رياض» وزير الدولة للشئون الخارجية استقالتهم احتجاجا على مبادرة السادات.

وفي 17 سبتمبر/أيلول 1978م بالبيت الأبيض بدأت مراسم توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وقال السادات حينها: «جئنا إلى كامب ديفيد بكثير من الإرادة الطيبة والإيمان وغادرنا كامب ديفيد قبل دقائق بإحساس متجدد من الأمل والإلهام».

حاولنا التأكد بنفسنا عن تلك المشاعر الطيبة التي حملها السادات وإحساسه بالأمل وقتذاك، وقابلنا عددًا ممن خاضوا حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973م وعاصروا الجيش المصري من بعد النكسة وانتظروا كثيرا من بعد الانتصار، إلا أن معاهدة كامب ديفيد قضت على انتصاراتهم.


من أين تبدأ الرواية؟

في وجدان المواطن المصري عموما إسرائيل هي العدو وستبقى عدو ولن يغير ذلك أي معاهدات أو اتفاقيات وبرغم ألم النكسة إلا أن الفترة التي تلتها هي الأكثر إشراقا في التاريخ المصري بسبب حالة الإجماع على المقاومة.

محمد بدر، قائد للسرية الثانية بالكتيبة 403 «فرقة 21 مدرعة» في حرب 1973م

البداية كانت عام 1967م حين كانت الضربة القاتلة لمصر وجيشها، حسبما عبر العميد المتقاعد «أسامة الصادق»، فيقول عندما حلت حرب 1967م وهزيمة الجيش المصري هزيمة لا ينكرها أحد، حدث شيء غريب بالجيش -وهو ما يدل على المعدن المصري في الأزمات- وهو أنه استطاع أن يستعيد قواه مرة أخرى في عامين ونصف العام واستطاع أن يوجه لإسرائيل ضربات موجعة، ووجود روسيا كان مساعد قوي في الدعم بالسلاح، وإن لم يشرفوا على التدريبات بشكل مباشر إلا أن شدتهم وعنفهم كانت عامل ضيق لنا ومحفز في ذات الوقت.

أشعل الشعب المصري شعلة المقاومة ليلة تنحي الرئيس «جمال عبد الناصر»، حيث خرجت الناس إلى الشوارع معلنة عن رغبتها في المقاومة والحرب، حسبما يعبر «محمد بدر»، قائد للسرية الثانية بالكتيبة 403 «فرقة 21 مدرعة» في حرب 1973م. ويضيف: «حرب الاستنزاف ظُلمت من أجل إضعاف الروح المعنوية للشعب المصري، فقد كانت فتيل حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973م».

وبالمرور على لحظة وقف إطلاق النار في عام 1970م نجد أنها كانت لحظة فارقة في الصراع، كما يوضح الصادق، حيث كان للجيش المصري فرصة كبيرة في هزيمة إسرائيل إذا كان قد بدأ الحرب قبل تلك اللحظة بدلا من حالة الركود التي استمرت من بعد وقف إطلاق النار حتى الحرب في عام 1973م، حيث أنه في حالة الاستنزاف كان القتال مستمرا والجنود المصريين في حالة استعداد كامل آملين في استرداد سيناء. إلا أن السادات رفع في تلك الفترة شعار 99.5% من أوراق القضية في يد أمريكا، فصدَّر السادات صورة تنم على عدم امتلاك مصر أو جيشها أي قدرة على التأثير الحقيقي في مسار الحرب، وهو أمر غير صحيح.

كما أنه لا يمكن إنكار أن في تلك الأوقات كان لزعامة عبد الناصر تأثير واضح، فقوة الزعيم شعبيا خلقت حالة كبيرة من التعاطف معه ومع مقاومته للثلاثي إسرائيل وبريطانيا وأمريكا، وامتد التعاطف ليشمل جميع طوائف الشعب بمن فيه من شباب وجيش. بينما على الدفة الأخرى فكان رحيل الجندي الإسرائيلي إلى الجبهة الجنوبية بمثابة الكارثة بالنسبة له، حسبما يوضح الصادق.


قرارات السادات الخاطئة

أنور السادات سلَّم مصر كلها للأمريكان واليهود والصهاينة

محمد بدر، قائد للسرية الثانية بالكتيبة 403 «فرقة 21 مدرعة» في حرب 1973م

لم يكن للسادات شخصية قوية على الجيش المصري، رغم محاولاته الكثيرة إلا أن الأمر كان أشبه بموت «عبد الحليم حافظ» وظهور «شعبان عبد الرحيم» على الساحة بدلا منه، كما يعبر الصادق، فكان للسادات أخطاء كثيرة إلا أنه كان شديد الذكاء وكان داهية في التعامل.

ومن ضمن أخطاء السادات طرد الخبراء الروس، بالرغم من أن روسيا كانت الوحيدة التي تمد مصر بالسلاح. بالإضافة إلى خطئه الأكبر في حرب أكتوبر باتخاذه قرار تطوير الهجوم، مما أتى لنا بالهزيمة وزيادة في عدد الشهداء والضحايا من جانب الصفوف المصرية -على حد قول الصادق- إلى جانب خطئه في زيارته للقدس. وبالنظر إلى هذه النقاط الثلاث السلبية بتاريخ السادات يمكن أن نُدرك أساس المشكلة بالجيش المصري، حيث كان الجيش على أتم الاستعداد لإلحاق الخسائر الجسيمة بإسرائيل، ولكن لم يدرك السادات هذا الوضع جيدًا.

فرحت صفوف الجيش بطرد الخبراء الروس بسبب ضيقهم منهم، إلا أن هذا القرار أثار بنفوسهم العديد من المخاوف والتساؤلات عن من سيمد الجيش بالأسلحة والذخيرة.

أما بالنسبة لقرار تطوير الهجوم الكارثي فقد نبه المجلس الأعلى للقوات المسلحة قبل الحرب في إبريل/ نيسان 1973م السادات بخصوص هذه النقطة، وقال له: «تطوير الهجوم والدفع بالفرقة 21 والفرقة الرابعة خط أحمر»، وقال «عبد المنعم واصل» حينها: «أي فرقة من دول هتتحرك أنا هضرب نفسي بالنار وهنتحر ومش هستنى محاكمة عسكرية»، حسبما يشير الصادق.

ولا يوجد أي سلطة مصرية قادرة على فتح ملفات حرب 1973م، وكان قرار التطوير نقطة فارقة في مسار القضية، حيث قال الفريق سعد الدين الشاذلي: «كان علينا التحول للدفاع؛ أولا لقدرتنا على هزيمة الهجمات المضادة وثانيا لنطول أمد الحرب حيث أن إسرائيل لا تحتمل حرب طويلة المدى، فكانت الرؤية الاستراتيجية هي الدفاع والصد وجر إسرائيل لمعركة طويلة لن تستحملها»، حسبما يوضح بدر.


أجواء اتفاقية كامب ديفيد للاستسلام

أشار «محمد الفقي»، جندي مجند سابق شارك في حرب 1973م، أن المجتمع المصري تم تأهيله لمعاهدة كامب ديفيد من خلال سياسات السادات الانفتاحية، حيث أصبح الاستهلاك ولقمة العيش للمواطن المصري هي الأهم، فلم تعد الحرب أو هزيمة إسرائيل مؤرقة للشعب كما كانت من قبل. وأضاف أن موضوع السلام مع إسرائيل لم يكن مطروحا للنقاش على مستوى العساكر ولم يعيروه اهتماما، فكل ما كان يهمهم حين ذاك العلاوات وزيادة المرتبات.

مقابلة كيسينجر ومفاوضات فض الاشتباك كانت أولى الخطوات خطوة التي أضاعت على مصر فرصة التمتع بالانتصار الكامل، وتلاها زيارة السادات القدس، ويقول الصادق: «فوجئت بزيارة القدس وكنت حين ذاك مقدم، ولم يكن قائد الجيش -مثالا عبد المنعم خليل- يعلم حينها بالزيارة».

تلك الزيارة كانت بمثابة تخلي مصر عن حقها في النصر، حتى جائزة نوبل للسلام حصل عليها السادات مع بيجن، ولم يكن لمصر أي ميزة أو حسبان لتفوقه على الجيش الإسرائيلي، كما يشير الصادق.

ويضيف بدر أن همُّ السادات كان التمتع بالسلطة وليس تحقيق آمال الشعب الواسعة، وهو ما أوصلنا إلى «الاستسلام» وليس السلام.

لم تكن اتفاقية كامب ديفيد مؤيدة من الجيش أو الشعب المصري، ودليلا على ذلك استمرار كره المصريين لإسرائيل،إلا أن السادات وضع إسرائيل في صورة الرجل الخارق الذي لا يُهزم. وكانت الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية تقر أن قوتها أقوى من الدول العربية مجتمعة، ولكن جاءت حرب 1973م لتفيق إسرائيل وأمريكا من الوهم وإذاقتهم هزيمة مروعه.


ما حل بالجيش بعد المعاهدة

وفي زيارة للصادق على رأس وفد عسكري مصري في «المرحلة ج» بالعريش بشهر أكتوبر/ تشرين الأول من 1980م، وجد الوفد عربات الجيش الإسرائيلي داخل إسرائيل بهدف تنظيف ملابسهم بمغسلة إسرائيلية بالعريش، ويذكر أن في مفاوضات السلام عُرض على السادات شراء تلك المغسلة ولكنه رفض فأصبحت ملكا للإسرائيليين حسب المعاهدة. كما يذكر الصادق أن الأهالي المصرية استقبلت الوفد العسكري المصري بوابل من السباب، حيث أنه عند استلام الجيش للعريش بعثت القيادات بأمناء الشرطة إلى هناك مما تسبب في فرض القيود والتضييق على أهالي العريش، وأكد أهالي العريش أن حالتهم وقت تواجد الإسرائيليين كانت أفضل بكثير.

رفض البعض من العساكر والضباط المجندين أن يستكملوا حياتهم بالجيش المصري بعد الانتهاء من الحرب وكان من بينهم، محمد الفقي،حيث رفض أن يستكمل طريقه في الجيش المصري واختار المدنية، فلم يكن يتحمل أن يستمر في تلك الحياة العسكرية الصعبة واكتفى بانتصاره في حرب أكتوبر/تشرين الأول، ولم يعر اهتماما للأمان الوظيفي والمميزات التي كان من الممكن الحصول عليها، حيث واجه الكثير من الصعوبات ولم يرغب في أن يضحي بما بقى من عمره في هذه الحياة الشاقة. إلا أن هؤلاء الذين حاربوا يجدون إلى الآن صعوبة واضحة للحصول على أي دليل أو شهادة تقدير من الجيش المصري أو الدولة. تقر بمشاركتهم في الحرب، ولم يحصلوا على أي من الامتيازات أو المكافآت.

في عام 1981م قام المشير أبو غزالة، القائد العام بالقوات المسلحة وقتذاك- بإجراء استطلاع رأي لضباط الجيش لمعرفة من يريد الخدمة بالشرطة المصرية، حيث نصت معاهدة كامب ديفيد على عدد محدد للملتحقين بالجيش المصري. إلا أن القوات المقاتلة رفضت الانضمام لصفوف الشرطة، فقد كان هناك حالة من العداء بين الطرفين، كما يوضح الصادق. حيث كانت قوات الجيش تبذل قصارى جهدها وقتذاك للحفاظ على أرض مصر وحدودها، في حين كانت رجال الشرطة تمارس قمعًا على الشعب داخل البلاد، ولم يكن لديهم أي مانع للاحتكاك بقوات الجيش أيضا، كما أشار الصادق.

إلا أن هذا الرفض كان مأزق بالنسبة للسادات، فلم يكن يريد التخلي عن قواته المدربة عمليا باشتراكها في حرب الاستنزاف وحرب 1973م، خاصة أن اتفاقية كامب ديفيد تخفض من قوة الجيش المسموح بها، وتخفف من التسليح والتدريب تجهيزا لحالة السلام. وقامت بعثات الأمم المتحدة بزيارة الوحدات العسكرية المصرية المختلفة للتفتيش من خلال عدد الأسلحة والعساكر المتواجدة، مما يضطر ضباط الجيش لتخبئة العساكر، حتى لا تعتبر مصر خارقة لبنود المعاهدة. فبالرغم من انتصارك على العدو الإسرائيلي، تفرض عليك القيود كأنك مهزوم، ولا يتواجد على الحدود من جانبك سوى عساكر «غلبانه» -على حد تعبير الصادق- ثم البوليس، ولكن من الجهة الأخرى يمكنك رؤية الدبابة الإسرائيلية.

بالإضافة إلى معارضة اتفاقية كامب ديفيد من داخل الجيش المصري، مما أدى إلى إزاحة السادات لبعض القيادات العسكرية -وهم العمود الفقري للجيش- وهو ما أثر على الجيش المصري. ولم يتبق بالجيش سوى المؤيدين للسادات، وأصبحت قيادات إدارات التجنيد والمعاهد والكليات العسكرية قيادات للجيش والقوات المقاتلة بدلا من القيادات التي أطاح بها السادات من أصحاب الإنجازات العسكرية بالحرب، لتصبح القيادات الجديدة ذات وضع أعلى بالجيش ممن كانوا جزءا من حرب الاستنزاف وحرب 1973م.


عمود الوطن العربي سقط

يتبع السيسي خطى حسني مبارك في اتخاذ القرارات بشكل منفصل عن الشعب، مثل قرار التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير.
العميد المتقاعد أسامة الصادق

كانت مصر عمود الخيمة بالمنطقة العربية فعندما انكسر بالموافقة على المشروع السياسي لكامب ديفيد – المصاغ من أجهزة الأمن القومي الإسرائيلية- لتصبح مصر كومبارس يؤدي دوره لتبقى إسرائيل هي القوة الوحيدة بالشرق الأوسط، مما أضاع دورها من المنطقة العربية، ونتج عن ذلك خروج مصر من معادلة المنطقة العربية والإفريقية مما نتج عنه ما يحدث اليوم بالدول العربية، حسبما يوضح بدر.

فكانت مشكلة مصر في البداية أن الجبهة الشرقية إسرائيل، إلا أن ما يشهده العالم العربي حاليا أصبح شديد الخطورة، فالجبهة الغربية – ليبيا والجنوبية – السودان واستراتيجيا إثيوبيا واحتمال قبرص، حسبما أشار الصادق. وليس هناك تركيزا على المشاة مثلما يتم التركيز مع القوات الخاصة تدريبيا، بالإضافة إلى وقف روسيا وبريطانيا السياحة والتضييق على مصر بعد سقوط الطائرة الروسية، فمصر لديها قوات سريعة الانتشار وقوة نيرانية ضخمة قادرة على التمسك بالأرض في أي مكان، ولكنها غير قادرة على المعارك الهجومية.

القادة والضباط ممن حضروا الحروب هم المتميزون دائما بالجيش المصري، بسبب رؤيتهم المستمرة للحدث والقتال وتجربتهم، ويتم الآن تعويض تلك الخبرة بالتدريب المشترك والمناورات. كما أن مستوى وراتب وإمكانيات الضباط الحاليين أعلى مما كان عليه سابقا، إلى جانب توفير الموارد المختلفة المهمة، كما يوضح الصادق.

ويعتبر الصادق أن الحروب أصبحت «موضة قديمة»، إلا أن معاهدة السلام لن تكون أبدية بطبيعة الحال، ولكن الأمن الداخلي وتوفير المأكل والأمن والتعليم للناس هو الأساس قبل مواجهة العدو.

ويقول محمد بدر أن المشاريع الاقتصادية لا تؤثر على صلب وهيكل القوات المقاتلة، إلا أن التوغل في المجتمع المدني يجب مراجعته لأنه خطر على المجتمع المدني والقوات المسلحة وعلاقة الشعب بالجيش المصري.

تأتي الشهادات والواقع المصري خير دليل على ما عاشه الجيش ومصر من كوارث وفترات عصيبة بسبب اتفاقية كامب ديفيد، وتظل الوثائق والحقائق في علم الغيب، فلا تسمح لنا الدولة أن نلقي عليها نظرة او أنها نقيم التجربة بما لها وما عليها، فهل كانت حقا اتفاقية كامب ديفيد اتفاقية سلام أو استسلام؟