بعد أن اكتسح تيمورلنك الشام وهزم المماليك ودمر مدن الشام تدميرًا يهون معه ما فعله هولاكو بها، خرج من دمشق وأخذ معه صفوة علمائها ونخبة من صناعها وأهل الفن فيها إلى عاصمته (سمرقند)، فبدأت الصناعات الدقيقة والفنون الجميلة تزدهر هناك وانحطت الصناعة في دمشق وندرت الفنون الجميلة، تحرك تيمورلنك باتجاه مدينة بغداد التي كانت ما تزال تقف بعناد أمام حصار قوات تيمورلنك لها.


سقوط بغداد

تحرك تيمورلنك بجيشه من الشام إلى العراق وعبر جيشه نهر الفرات على جسور من القوارب واستمر هذا العبور مدة سبعة أيام كاملة، وهذا يوضح مدى ضخامة جيش تيمورلنك.

وصل تيمورلنك إلى بغداد وقام بنصب المنجنيقات حولها واستمر القصف العنيف على أسوار المدينة لمدة أسبوع، واقتحمت قوات تيمورلنك المدينة بعد مقاومة شديدة من أهلها، وصارت بغداد مستباحة لجنود تيمورلنك فأعملوا القتل في أهلها، وتم تدمير المدينة بالكامل، وتخضب نهر دجلة بالدماء وجثث القتلى، وقبل أن يخرج تيمورلنك من بغداد ترك تذكارًا مكونًا من مئة وعشرين برجًا من جماجم أهلها حول المدينة.

خرج تيمورلنك من بغداد في صيف عام 1401م/803 هـ، وتحرك باتجاه جورجيا حيث أمضى فترة من الراحة استعدادًا لمعركته الضخمة المقبلة مع العثمانيين.


تيمورلنك وبايزيد الصاعقة

لم ينس تيمورلنك رد بايزيد الصاعقة سلطان العثمانيين عليه حين أرسل إليه يطلب تسليم أحمد بن أويس له وكان من ضمن رد بايزيد: “اعلم أنت أيها الكلب العقور المسمى تيمور أن الأتراك لم يتعودوا أن يضنوا بالملجأ على أصدقائهم”.

وكان بايزيد الصاعقة قد أصابه الغرور والكبر بعد انتصاراته العظيمة على جيوش أوروبا في أكثر من معركة، وأصاب هذا الغرور بايزيد في مقتل عند مواجهته مع تيمورلنك، فلم يقدر بايزيد حجم وقدرة تيمورلنك.

استولى تيمورلنك على مدن سيواس وملطية والابلستين وكلها مدن خاضعة للعثمانيين وقتل ابن بايزيد الأمير آرطغرل في سيواس. اضطر بايزيد إلى فك حصاره لمدينة القسطنطينية وتحرك بقواته لمواجهة تيمورلنك الذي كان قد صرف انتباهه إلى المماليك ولم يقم بايزيد بأي إجراء ضد جيش تيمورلنك في هذه الفترة، ولعله كان يعول على استطاعة المماليك دحر وهزيمة تيمورلنك وهذا ما لم يحدث. ظل بايزيد حتى عام 1401م /803 هـ، يتحرك ببطء وعدم اهتمام لما يفعله تيمورلنك من تغيير في الخريطة السياسية والجغرافية للمنطقة.


موقعة أنقرة

دخل تيمورلنك الأناضول انطلاقًا من جورجيا وقام بالتوغل في أراضي العثمانيين، وتحرك بجيشه على طول نهر هاليس جاعلًا النهر بينه وبين الجيش العثماني. اتبع تيمورلنك تكتيكًا عسكريًّا ناجحًا ضد بايزيد فقد قرر عدم التوقف واختار التوغل في عمق الأراضي العثمانية لينهك جيش بايزيد في تتبعه، وقام بإخفاء قواته عبر التحرك خلال سلسلة من الجبال وقام بحرق كل المزارع والحقول التي مر بها وقام بتلويث مياه الآبار والينابيع في كل المناطق التي مر بها، ثم اختار موضع المعركة الملائم له عند مدينة أنقرة.

عانى بايزيد الصاعقة من إجراءات تيمورلنك العسكرية، ولم يستطع معرفة اتجاه قواته، وظل أيامًا يرسل فرق الكشافة لاستطلاع جيش تيمورلنك. وبينما يتحرك جيش بايزيد باستمرار وتعاني قواته من العطش والتعب وكلّت الخيول، كان تيمورلنك يريح قواته ويستعد للمعركة الحاسمة.

قام تيمورلنك بإرسال جواسيسه للاتصال ببعض أمراء الأناضول لكي ينضموا له، وكذلك أرسل إلى أمراء التتار الذين كانوا يشكلون جزءًا كبيرًا من جيش بايزيد، وقام بإغرائهم بالمناصب، وكان من ضمن رسائلهم إليهم:

كونوا بظاهركم مع ابن عثمان وبباطنكم معنا؛ حتى إذا التقينا امتازوا، وإلى عسكرنا انحازوا.

ولعبت سياسة بايزيد السيئة في معاملته لأمراء جيشه وغروره وبخله الشديد دورًا هامًّا في تغيير ولاء أمراء التتار والأناضول ليتحول باتجاه عدوه تيمورلنك.


سير المعركة وانكسار الجيش العثماني

تمركز الجيش العثمانى فى تشكيل كالآتى: فى الميسرة فرق الأناضول بقيادة الأمير «سليمان بن بايزيد»، وفى الميمنة قوات مسيحية يقودها الملك الصربى «لازار»، وفى قلب الجيش فرق الانكشارية بقيادة «بايزيد»، وتمركز الجيش المغولى فى تشكيل كالآتى: فى مقدمة الجيش «الأفيال المدرعة»، وفى الميمنة قوات «ميران شاه» ابن «تيمورلنك»، وفى الميسرة قوات «شاه رخ» ابنه الآخر، وفى قلب الجيش قوة كبيرة من المشاة والرماة بقيادة أحد أحفاد تيمورلنك، فى حين بقى تيمورلنك فى مؤخرة الجيش وتحت إمرته المباشرة عدد ضخم من الفرسان. نشب القتال فى «وادى جويوق» بالقرب من مدينة أنقرة فى عام 1402م/804، وقاد سليمان بن بايزيد الهجوم الأول للجيش العثمانى على جيش تيمورلنك، لكنه واجه حاجز منيع من رماة السهام ونيران النفط، وقام الجيش المغولى بهجوم مضاد على الجيش العثمانى الذى استطاع صد الهجوم، وبينما تقوم فرقة من الجيش المغولى بمهاجمة ميسرة الجيش العثمانى، انفصلت فرقتين من التركمان بقيادة أمراء الأناضول وانضموا إلى جيش تيمورلنك وانحاز أمراء التتار بقواتهم إلى جيش تيمورلنك، وهاجموا ميسرة وقلب جيش بايزيد، وفى نفس الوقت كانت ميمنة الجيش العثمانى المكونة من قوات مسيحية ومشكلة من فرسان ثقيلى التدريع متقدمة على جيش تيمورلنك، لكنها اضطرت للتراجع خشية تطويقها، ولتنجد باقى الجيش العثمانى وتفتح طريق له للانسحاب.عند هذا اللحظة أمر تيمورلنك جيشه بالقيام بهجوم عام، وكانت قوة الهجوم الضاربة من الفرسان الذين تحت إمرته ويتقدم الهجوم الأفيال المدرعة التى اكتسحت الجيش العثمانى الذى تمزق بالكامل، واستبسلت فرق الانكشارية والسيباهى فى القتال، ونصح الصدر الأعظم «على باشا سليمان» «بن بايزيد» بالانسحاب وقال له: «النجاة فى الهزيمة».


أسر السلطان بايزيد الصاعقة

استمر القتال محتدمًا من الصباح حتى العصر، ومع الغروب أصبح وضع الجيش العثماني سيئًا للغاية، واستولى اليأس على بايزيد، وقتل حصانه ولم يعد بمقدروه الهروب من بين صفوف الجيش المغولي، وبحلول الظلام قبض عليه أسيرًا مع ابنه موسى واستطاع باقي أبنائه الهرب من أرض المعركة.

واستمرت فرق الجيش المغولي في تتبع فلول الجيش العثماني، واستولى تيمورلنك على مدن العثمانيين في الأناضول، ولاحقت قواته سليمان بن بايزيد حتى مدينة بورصة وتركت بها هرمين من جماجم أهلها، وأُسِرت زوجة بايزيد ونساؤه وتم الاستيلاء على كنوزه وأمواله وحواصله.

وسقطت الدولة العثمانية ودخلت فيما يعرف في تاريخها باسم مرحلة الفترة، وغابت عن الساحة الدولية لمدة عقد من الزمان.

كان تيمورلنك يلعب الشطرنج حين جيء ببايزيد أسيرًا. وتختلف الروايات فيما حدث لبايزيد، فيذكر بعض المؤرخين أن تيمورلنك استقبله بلطف وعاتبه على ما بدر منه، في حين يذكر البعض الآخر أن تيمورلنك وضع بايزيد في قفص من حديد حتى مات، وأرغم تيمورلنك نساء بايزيد على الخدمة في مجلسه وهم شبه عراة وكل ذلك تحت نظر بايزيد الصاعقة.

مات السلطان بايزيد الصاعقة في أسره غمًّا وكمدًّا بعد سبعة أشهر 1403م/805هـ.


أخطاء بايزيد الصاعقة في مواجهة تيمورلنك

ارتكب بايزيد الصاعقة عدة أخطاء جعلت نهايته مأساوية:

1. فقد كان استيلاؤه أولًا على ملطية الخاضعة لسلطنة المماليك عشية وفاة السلطان برقوق خطأً فادحًا؛ ما جعله يفقد حلفاءه الأهم والأقوى في مواجهة تيمورلنك.

2. تحركه ببطء شديد وعدم اتخاذه أي رد فعل تجاه غزو تيمورلنك لسيواس وباقي المدن الخاضعة له في الأناضول.

3. كذلك ارتكب خطأً فادحًا في إرهاقه جيشه بالتحرك لملاقاة تيمورلنك، ولم يستجب للنصائح الموجهة له بالتحصن في مدينة أنقرة وانتظار تحرك تيمورلنك باتجاهه واختار إرهاق جيشه والتحرك في حرارة الصيف المرتفعة، كما لم يحسن اختيار المكان والتوقيت المناسب للمعركة.

4- كما ارتكب خطأً تكتيكيًّا رهيبًا بوضعه قوات أمراء الأناضول التركمان في مقدمة الجيش وهو كان يشكّ بولائهم له، واعتماده على أمراء التتار وقواتهم رغم الخلاف معهم وقتله قائدهم قبل المعركة، وكان خطؤه الأكبر في اختياره للمعركة الهجومية رغم أن كل انتصاراته العظيمة كانت بالمعركة الدفاعية حيث يقوم بالدفاع جيدًا وامتصاص هجوم عدوه ثم القيام بهجوم مضاد قوي.

استمر تواجد تيمورلنك في الأناضول مدة ثمانية أشهر قام خلالها بإعادة ترتيب المنطقة، وقام بمهاجمة قلعة أزمير التي يسيطر عليها فرسان القديس يوحنّا والتي استعصت على بايزيد وقام بتسويتها بالأرض، ولم يقم تيمورلنك بمهاجمة أوروبا رغم أنها كانت مفتوحة أمامه، وقبل الجزية من المناطق الخاضعة لجنوة المطلة على سواحل الأناضول.

حقق تيمورلنك نصرًا حاسمًا على العثمانيين ودمر دولتهم، لكن النصر هذا قد تحقق بكلفة عالية؛ فقد خسر تيمورلنك في معركته عددًا كبيرًا من القتلى، كما فقد في أنقرة أحب أحفاده إلى قلبه.

أرسل تيمورلنك إلى السلطان فرج يطلب الخضوع له والإفراج عن الأمير المغولي أطلمش، ووافق السلطان فرج على كل طلبات تيمورلنك وخضع المماليك لفترة مؤقتة له، وتحرك تيمورلنك بجيشه إلى عاصمة إمبراطوريته سمرقند ليستعد لغزوات أخرى.