العالم أغنى من أن نعبر عنه بلغة.

إيليا بريجوچين

حسناً، لطالما كان ذلك هو السؤال الأشهر في تاريخنا، كيف يمكن للوردة أن تتخذ هذا الشكل المنتظم للغاية؟، الحبّات في قرص عباد الشمس؟، جسم الإنسان ونمط التفاعلات الكيمائية المعقد بداخله؟، الخطوط السوداء في الحمار الوحشي؟، السدم في أعماق الفضاء السحيق؟، المجرات الحلزونية؟. نحن نعيش في كون يُظهر انتظامًا وتعقدًا Complexity في كل مكان وعلى كل مستوى. ما الذي يحدث هنا؟.

sunflower
sunflower

قوانين الديناميكا الحرارية

على مدى آلاف السنين خضعت تلك الظواهر لتفسيرات ميتافيزيقية، لها علاقة بتدخل فوقي في قوانين الطبيعة لتنظيم الكون بهذا الشكل، بالطبع يتعارض ذلك مع فكرة المشروع العلمي عن كَون تحكمه مجموعة من القوانين أولها هنا هو قانون بقاء الطاقة: لا يمكن للطاقة أن تفنى أو تستحدث من عدم بل يمكن فقط تحويلها من صورة لأخرى. ثم جاء ألبرت أينشتين بـمعادلته الشهيرة «E=MC2» ليجعل من المادة والطاقة وجهين لعملة واحدة. فحينما يتحدث أحدهم أثناء أزمة انقطاع الكهرباء عن جهاز ما يستخدم كمية «أقل» من الطاقة لصنع كمية «أكبر» فقد خرج من باب العلم؛ لأنه هنا يخرق القانون الأساسي السابق الذي يقوم عليه التفسير العلمي، إنه هو القانون الأول للديناميكا الحرارية: كمية الطاقة الموجودة في نظام مغلق لا يشع أو يكتسب طاقة هي قيمة ثابتة.

أما القانون الثاني للديناميكا الحرارية فهو ينص أن الإنتروبي Entropy دائمًا في ازدياد ضمن نظام مغلق. دعنا هنا نعرّف الإنتروبي بأنها «عدم الانتظام»، يمكنك ملاحظة ذلك بسهولة، حينما تدير سيارتك لا تنتشر كامل الطاقة الناتجة من البنزين لتحريك السيارة فقط، بعضها يُفقد في صوت الموتور، والبعض في ارتفاع درجة حرارة السيارة، والبعض في الاحتكاك ما بين التروس. لكن هل يمكنك جمع كل تلك الطاقة المفقودة مرة أخرى لإعادتها؟. تتخذ الإنتروبي اتجاهًا واحدًا دائمًا وهو الازدياد، هنا يرتبط ازدياد الإنتروبي بسهم الزمن. حينما نرى مشهدين لنظام ما أحدهما في درجة أعلى في الانتظام من الآخر فيمكن تحديد أيهما كان الماضي و أيهما هو مستقبله.

الانتظام الذاتي (3)
الانتظام الذاتي (3)

لنفترض أني أعرض عليك الآن مقطعي فيديو أحدهما لجزيئات نقطة حبر تنتشر في الماء و الآخر للجزيئات المنتشرة و هي تتجمع معًا لصنع نقطة حبر، هل تستطيع تحديد أي منهما يمشي بشكل طبيعي و أيهما يمشي بشكل معكوس؟، بالطبع نعم. نقطة الحبر تميل للانتشار في كوب الماء وليس العكس. الإنتروبي الأقل هو الماضي.

يمكن كذلك فهم الإنتروبيا على أنها مقياس لدرجة الحرية Degree Of Freedom التي تمتلكها أجزاء نظام ما، ليكن الماء مثلاً. في الحالة الصلبة – التجمد – يمكن تحديد أماكن ذرات الماء بدقة في شبكة صلبة «إنتروبيا قليلة»، بينما في الحالة السائلة تمتلك درجة من الحرية «إنتروبيا أعلى»، و في الحالة الغازية تمتلك جزيئات الماء درجة أكبر بكثير من الحرية، إنتروبيا أكبر بكثير. هذا يعني أنه في الحالة الأولى يمكن بعدد قليل من المعلومات تحديد مكان أجزاء النظام، بينما تزداد الحاجة لعدد أكبر من المعلومات مع كل رفع لدرجة الحرية التي يمتلكها جزيء الماء؛ أي مع كل زيادة في الإنتروبيا.

إن تركت غرفتك لعدة أيام بدون أي محاولة لترتيبها سوف يزداد عدم الانتظام فيها شيئًا فشيئًا. لكن، ماذا لو دخلت لغرفتك بعد أن كانت منذ عدة ساعات غير منظمة بالمرة لتجدها منظمة؟، سوف تتوقع فورًا بأن هناك من تدخل لتنظيمها، هذا الشخص فقد هو الآخر جزءًا من الطاقة لتنظيم غرفتك، هو بفقده لجزء من الطاقة يعمل على ضبط إنتروبيا الكون كله بحيث لا يكسر القانون الثاني. لا يمكن للانتظام أن يظهر فجأة في نظام ما من دون حدوث تدخل خارجي لنظام، القانون الثاني إذن يتحدث دائمًا عن خط سير واحد تمتلكه حالة من التبدل الدائم في الأحوال والنزوع للعشوائية. لا زلنا لم نجب عن سؤالنا الأول!.


تاريخ الفكرة

ظهر مفهوم التنظيم الذاتي سنة 1947 على يد المهندس الإنجليزي ويليام روس آشبي، ثم وجد مكانًا جيدًا في النظرية العامة للأنظمة خلال الستينات. و صاغ السيبرنطيقي الشهير هانز فون فورستر مصطلح «نظام من الفوضى» سنة 1960، لكنه لم يتخذ مكانًا صلبًا في الكيان العلمي إلا حينما تبناه الفيزيائي الكيميائي physical chemist بلجيكي الجنسية الحاصل على نوبل سنة 1977 إيليا بريجوچين حينما قام بدراسة الديناميكا الحرارية للأنظمة البعيدة عن الاتزان Systems far from equilibrium، وقدم لنا رؤية جديدة تمامًا للقانون الثاني لها علاقة بتكون «البنى التبددية Dissipative Structures»، والتي سوف تكون مركز اهتمامنا في هذا المقال، حيث يمكن لأي اضطراب لحظي طفيف في كيان نظام فيزيائي ما أن يتم تكبير أثره في نظام لاخطّي1 خلال حلقات من التغذية الرجعية Feedback Loops لخلق نمط جديد، لا تقلق من تعقد المصطلحات هنا سوف نشرحها جميعًا.

لنحاول كبداية فهم ما يقصده بريجوچين من خلال تجربة شهيرة. دعنا نسخن إناء به طبقة رقيقة من الماء من الأسفل و نقوم بتبريده من الأعلى في نفس الوقت، كما بالصورة، ما الذي سوف يحدث؟.

الانتظام الذاتي (2)
الانتظام الذاتي (2)

نعرف أن الماء الساخن أخف من الماء البارد؛ لذلك بعد فترة قصيرة من التسخين سيرغب الماء الساخن في الارتفاع لأعلى، في نفس الوقت سيرغب البارد بالأعلى في النزول لأسفل. لكن هذه العملية لا يمكن أن تتم في نفس الوقت، هنا ينظم الماء ذاته Self-Organize عبر تنسيق لحظي بين أجزائه لصنع أشكال سداسية تسمى خلايا الحمل Convection Cells يمكنها أن تدير حركة الطاقة و المادة خلال التجربة. تلك الحالة هي نموذج لما يمكن أن ندعوه بنية تبددية Dissipative Structure. لكن، ما الذي يحدث حينما نغلق مصدر الحرارة والبرودة في التجربة؟.


الاتزان و عدمه

توضح التجربة السابقة الفروق بين حالة الاتزان الثرموديناميكي Equilibrium thermodynamics و عدم الاتزان Non-equilibrium thermodynamics، يعمل كل من مصدر الحرارة و البرودة على إحداث اضطراب في حالة الماء يتحول لانتظام فيما بعد. الماء هنا في حالة من عدم الاتزان الثرموديناميكي، بينما يعود هذا النظام للاتزان مرة أخرى و يفقد تلك البنى السداسية التي كونها حينما نتركه لحاله، بحيث لا يوجد أي نوع من تبادل الطاقة/المادة مع البيئة المحيطة. الأنظمة البعيدة عن الاتزان إذن هي أنظمة أكثر انفتاحًا لتبادل المادة و الطاقة مع الوسط المحيط على عكس الأنظمة المتزنة أو القريبة من الاتزان والتي تعتبر أقل انفتاحًا لتلك العملية. يمكن فهم الفروق بين الاتزان و عدمه من النموذج التالي:

الاتزان هو كرة تقع في قعر حفرة ما ثابتة لا تتحرك، أما عدم الاتزان فهو نفس الكرة بينما تتحرك لأسفل على مستوى مائل. في أثناء ذلك تبدد Dissipates الكرة من طاقة وضعها، تفقد الطاقة أو تكتسبها خلال عملية ما، حالما تصل الكرة للأرض تتزن من جديد. حينما يتصل نظامان حراريان؛ يدك وكوب الشاي الساخن، ينزع كل منهما للوصول لحالة اتزان مع الآخر، تنزع كل الأنظمة للاتزان مع ما حولها من البيئة، تلك أحد قواعد الطبيعة. لكن، حينما نحاول دراسة العالم من حولنا، أيهما يفضل تعميمه لفهم أفضل، الاتزان الثرموديناميكي أم عدمه؟.


تفاعل بيلوسوف

الانتظام الذاتي (1)
الانتظام الذاتي (1)

في أثناء محاولات الكيميائي الروسي بوريس باڤلوڤيتش بيلوسوف لفهم الكيمياء الحيوية في دورة كريبس الشهيرة توصل بالصدفة لنوع عجيب من التفاعلات يغير فيها وسط التفاعل لونه بشكل دوري، كان ذلك مستحيلاً في الكيمياء. الأمر كأن تخلط اللبن بالشاي وفي أثناء تقليبك بالملعقة يعود الشاي واللبن للانفصال ثم الامتزاج ثم الانفصال.. إلخ، كرر بيلوسوف التجربة أكثر من مرة لضمان دقة العملية فإذا به يجد نفس النتيجة، فجمع تلك البيانات و قدم ورقة علمية حاول من خلالها نشر أبحاثه الجديدة لكن كل محاولاته باءت بالفشل حيث رفضت المجلات العلمية تلك الورقة، فهي تناقض بشكل واضح قانونًا أساسيًا في الطبيعة و هو القانون الثاني للديناميكا الحرارية: تنزع الأنظمة للاتزان فقط، ولا تتأرجح حوله.

سنة 1961 حاول عالم الفيزياء الحيوية الروسي أناتول زابوتينسكي من جديد مع تفاعلات بيلوسوف لفهمها، و لعمل توضيح أكبر للتفاعل قام باستبدال حمض السيتريك من تفاعل بيلوسوف بحمض المالويك الذي أظهر تأرجحًا أكثر وضوحًا للتفاعل خاصة حينما وضع مواد التفاعل على شكل طبقة رقيقة بسمك 1 مم تقريبًا. لاحظ أناتولي شيئًا عجيبًا، دوائر متحدة المركز تتكون بانتظام غريب و تتلاقى مع بعضها في نمط منظم وبشكل دوري، و لا تتخذ نفس النمط في كل مرة.

استطاع زابوتينسكي هذه المرة أن ينشر تلك الورقة العلمية عن تفاعلات تتأرجح حول الاتزان، و ظهر بعد ذلك أن تلك التفاعلات تتفق تمامًا مع نتائج مقال علمي مهمل للعبقري آلان تورينج سنة 1952 بعنوان «الأسس الكيميائية للتشكل الحيوي» The chemical basis of morphogenesis يتنبأ من خلاله بإمكانية ظهور بُنى منتظمة و معقدة عند تشكل الأجنة في المراحل الأولى، استغل بريجوجين تلك الدراسة و دمجها مع فكرته حول البنى التبددية و التي تصنع انتظامًا و تعقدًا من خلال ديناميكا الأنظمة البعيدة عن الاتزان.

تفاعل بيلوسوف – زابوتينسكي ، شأنه شأن باقي أنواع التفاعلات المتأرجحة Oscillating Reactions و التي غالبًا ما يتم تسميتها بـ الساعة الكيميائية Chemical clock، شأنه شأن خلايا الحمل، هو واحد من أشهر نماذج التنظيم الذاتي، حيث يظهر أمامنا أنه من خلال تفاعلات محلية Local interactions لأجزاء نظام ما و بدون الحاجة لتدخل خارجي يمكن لنا أن نشهد تكون حالات من الانتظام و التعقد على مستويات عدّة فقط لأن الأنظمة التي تتخذ تلك البُنى بعيدة عن الاتزان.

معظم الأنظمة في الطبيعة هي أنظمة بعيدة عن الاتزان، تتكرر فيها التفاعلات المتأرجحة، و تتغير بانتظام مع الوقت، و تحافظ على حالة من عدم الاتزان من خلال حركة دائمة للمادة و الطاقة مع الزمن. لذلك يكون استخدام قوانين لها علاقة باتزان ثرموديناميكي لمحاولة فهمها هو خطأ أساسي.

تنزع الأنظمة للانتظام فقط حينما تكون بعيدة عن الاتزان، و الحياة كصورة من صور النظام بشكل ما هي الحفاظ على حالة من الابتعاد عن الاتزان. «الكائن الحي هو نظام مفتوح»، يقول بريجوجين، و يضيف حينما يُسأل عن تعريف للفوضى: هي نوع من الانتظام2.


1- لفهم أفضل لمعنى الخطّية و اللاخطية يرجى مراجعة مقالي السابقين،العلم من تروس نيوتن حتى عفريت لابلاس، العلم: من فراشات نيوتن إلى جسور النمل الحية

2- في جزء ثانٍ و أخير قريب عن هذا الموضوع سوف نناقش بشكل أكثر بساطة و وضوح الآليات التي يتم من خلالها التنظيم الذاتي من خلال عمليات لا خطية و حلقات تغذية رجعية و علاقة ذلك بتطور الأنظمة.

المراجع
  1. Order out of chaos: man's new dialogue with nature – Ilya Prigogine
  2. Complexity Theory Course: Complexity academy
  3. Self-organizing universe: erich jantsch