لم تدرك «مارثا» أنها ستفقد «آش» بهذه السهولة في حادث سيارة وخاصة في هذا الوقت الذي انتقلا فيه إلى منزل جديد ليبدآ حياة جديدة سويا. نال الحزن منها تماما فأصبحت في عزلة وحالة إحباط تامة، لم تذق طعما للحياة بعد وفاة «آش». استمر الأمر حتى اتصلت بها إحدى صديقاتها التي شعرت بمدى حزنها وألمها، ومدى حاجتها لاسترجاع حياتها مع زوجها حتى تتحسن حالتها وتمضي قدما.

لهذا، لم ينته اتصال صديقتها بها إلا بإخبارها بتواجد خدمة يمكنها استخدام بيانات جميع فيديوهات وصور ومنشورات «آش» على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة لتبرمج نسخة رقمية بتقنيات الذكاء الاصطناعي لـ «آش» يمكنها أن تتكلم معه، وسيكون مطابقا لآش الحقيقي في كل شيء؛ أسلوبه ونكاته وطريقته في الكلام، كأنه لم يمت على الإطلاق!

ترددت «مارثا» في البداية، إلى أن أتى وقت ضعف منها شعرت فيه بحاجتها لزوجها مما جعلها تقوم بتفعيل الخدمة، وبدأت بالفعل بالدردشة مع «آش الافتراضي»! شعرت «مارثا» بسعادة مطلقة عندما لمست تطابق هذه النسخة من زوجها مع زوجها الحقيقي المتوفى، صارت تحكي عن مدى اشتياقها له ومدى حاجتها لوجوده معها مرة أخرى.

لم يتوقف الأمر عند ذلك، حيث تملكتها الرغبة والحاجة لسماع صوته وهو الأمر الذي وجدته من الممكن أن يحدث. خلال دقائق تلقت مكالمة منه وبدأت تتحدث هاتفيا معه، بنفس صوته، بنفس ضحكاته، ونفس التعبيرات التي كان يستخدمها، إنه هو بالفعل!

هذا ما ناقشه مسلسل black mirror في حلقته الأولى من موسمه الثاني في إطار تراجيدي رائع، يعرض فيه تساؤلات عن قدرة التقنية على تحقيق أحلام ناس عديدة في استعادة حياتهم مع من فقدوهم، وهل يمكن للتقنية أن تكون صورة طبق الأصل من المتوفين واسترجاع حياتهم بصورة افتراضية، وكيف يمكن لذلك أن يؤثر على حياة الأشخاص، وهل يمكن أن يصبح ذلك حقيقة يوما ما؟!


شركات ناشئة في مجال تقنية ما بعد الموت

رغم أن القصة السابقة ليست حقيقية، إلا أننا اعتدنا في عصر السيطرة الرقمية على أن الواقع ينافس الخيال ويسبقه أحيانا، ولهذا فهناك قصص حقيقية تكاد تكون شبيهة، بعضها تحول لشركات ناشئة تقدم خدماتها للناس بالفعل.

Luka

في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، فقدت يوجينيا أعز أصدقائها رامون، فقررت خوض تجربة استعادة حديثها مرة أخرى معه وأطلقت شركة ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي. بدأت بجمع بيانات كاملة من منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي تويتر وفيسبوك، واستخدمت نبرة صوته، وكلماته التي كان يتحدث بها وتعبيراته، ومن خلال ذلك استطاعت أن تحصل على روبوت دردشة ذكي يمثل شخصية صديقها.

بدأت بالفعل في الحديث معه، وبعد عدة أسابيع أدركت أنها تتحدث لصديقها الميت بعض الأيام لمدة تقارب 30 دقيقة، عندما عرضت مارثا ما أنتجته على أصدقاء رامون أُعجبوا بذلك وأحبوه، وصاروا يتحدثون معه ليشكروه ويعبروا عن مدى اشتياقهم له.

تقول يوجينيا إنها قبل أن تنفذ الفكرة كانت خائفة من عدم قدرتها على الحصول على نفس نبرة صوت رامون، وكانت قلقة من قدرتها على عمل شيء يساعد الناس على تذكر صديقهم دون أي مشاعر جارحة لهم، وتصف شعورها بأنها كانت خائفة مما تفعله وأنها كانت قلقة أن يكون المنتج النهائي سيئا والذي من الممكن أن يجعل ذكرى صديقها شيئا مخيفا وسيئا.

Dead Socail

كذلك جيمس نوريس كان يفكر كثيرا في فكرة الموت ذاتها، حتى أطلق هو الآخر شركة ناشئة تُسمى Dead Social، وعند استخدامك لخدمة هذه الشركة فإنها تمكنك من نشر فيديو لك بعد موتك على الفيسبوك، وإعداد وتجهيز منشورات ورسائل يتم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي كتويتر بعد موتك. هذا يعني أنه بإمكانك أن تنشر شيئا ما بعد خمس سنوات من وفاتك لتهنيء زوجتك أو أحد أولادك بعيد ميلاده.

Flybits

يقول حسين رحناما البروفسور بـمدرسة الإعلام «RTA School of Media» بجامعة رييرسون الكندية والذي يملك شركة Flybits إنه بعد خمسين أو ستين سنة من الآن، سيملك كل شخص في جيل الألفية ما يقارب من 1 تريليون جيجابايت من الداتا الخاصة به التي ستمكّنه من عمل نسخة رقمية طبق الأصل منه.

تعتمد فكرة حسين على جمع البيانات الخاصة بشخص بعد موته مثل رسائل البريد الإلكتروني، والرسائل الشخصية، ومنشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي تويتر وكذلك سناب شات، ويقوم بتغذية مجموعة من الشبكات الرقمية العصبونية digital neural network بها، والتي تشبه المخ في طريقة فهم أنماط اللغة، وتعمل على معالجة وإنتاج معلومات جديدة. تقوم هذه التقنية بالتعرف على الفروق الدقيقة في أسلوب الكلام وإدراك الأنماط المعقدة من التفكير حتى تستطيع تقليد التعبيرات الطبيعية للشخص الميت، وبفضل قدرة هذه الشبكات على التفكير؛ يمكن للشخصية الرقمية أن تتطور مع الوقت مما يجعلها على إدراك بالأحداث الجارية والتعبير عن آرائها في الأمور المختلفة، لتصبح كيانا افتراضيا قائما على شخص حقيقي. ما زالت فكرة حسين قيد التطوير، ولكن يتوقع أنها ستكون حاضرة في المستقبل القريب بكل تأكيد.

هناك العديد من الشركات الأخرى التي تعمل في هذا المجال كشركة «Eternime»، فالشركات الناشئة تجد فيه فرصة قوية ومستقبلا مشرقا لما تستشعره من حاجة العامة في استعادة حياتهم وتواصلهم مع من فقدوهم، أو رغبتهم في استمرارهم بعد موتهم مع أقرب الناس لهم. وتمكّن تقنية هذه الشركات من إمكانية تهنئة أب متوفى بابنه في حالة زواجه أو ابنته الصغيرة بعيد ميلادها أو الاحتفال بذكرى زواجه مع زوجته، بعض متطلبات بشرية وعاطفية تضمن لنا التقنية استمرارها بشكل ما.


جدل حول التقنية

يثير هذا المجال الجدل نتيجة ارتباطه بأحد الأمور الشائكة جدا وهي الموت.أندريا ورنيك والتي تعمل كاستشارة نفسية تساعد الناس تخطي أحداث الوفاة القريبة «grief counselor» وتدرس الجوانب العلمية والاجتماعية والنفسية للموت، تقول إن المجتمعات الحديثة تتجنب التحدث عن شخص متوفى خوفا من أن يزعج ذلك المقربين منه فيزدادوا حزنا عليه، لكن ربما تكون ميزة روبوتات الدردشة الذكي المحاكية للمتوفى هي القصص والنصائح التي يمكن أن يشاركها المتوفى كما لو أنه موجود. كما ترى أن الناس يجب عليهم المضي في حياتهم وعدم إيقاف حياتهم على حالة وفاة، لكنها تشعر أن المجتمع الغربي قد يتقبل مثل هذه التقنيات التي ستذكّرهم بأحبابهم الذين فقدوهم، فوفاة أحدهم لا تعني أنه قد ذهب من حياتنا تماما.

وأظن أنه قريبا ستظهر آراء مناهضة لهذه الشركات توضح عدم أخلاقية وإنسانية ما تفعله، منها من سيؤكد أن مثل هذه التقنيات ستجعل الناس يعيشون في ماضيهم ويتقوقعون في عالم غير حقيقي يؤثر بشكل سلبي على حياتهم، وأنه بدلا من ذلك يجب عليهم المضي قدما في حياتهم، ذلك أفضل لهم. وعلى عكس المراد من هذه التقنية من التخفيف عن الناس، فمن الممكن أن تجعلهم أكثر حزنا، عندما يكونون في حاجة إلى ما هو أكثر من دردشة أو مكالمة هاتفية أو حتى روبوت نسخة طبق الأصل ممن فقدوا، إنما هم بحاجة إلى مشاعر حقيقية متبادلة بينهم وبين من فقدوه تتخطى حدود الكلام، بحاجة إلى حياة حقيقية كاملة كسابق حياتهم خارج حدود الشاشة أو الهاتف، مما يجعلهم أكثر حزنا لعدم قدرتهم على تحقيق ذلك. وحتى إن استطاعت التقنية في توفير شخص آلي ذكي مطابقا لمن يحبون، سيكون مفتقرا لأحاسيس عديدة مثل الخوف والحب، مفتقرا لأفعال إنسانية بسيطة كقدرتهم على النوم والحلم مثل البشر، مما يجعلهم يدركون مع الوقت أنهم لا يتعاملون مع شخص عزيز، بل نسخة سيئة منه.

أما على الجانب الآخر، أظن أن البعض سيقول إن تطوير مثل هذه التقنيات ميزة قوية في دفع بعض الناس في الخروج من دائرة الحزن والعزلة بعد فقدانهم أشخاصا أحبوهم، فأشخاص ممن دخلوا في حالة صدمة سيساعدهم ذلك ولو مؤقتا على الخروج منها عند شعورهم بإمكانية تواجدهم مع من فقدوهم والعودة مرة أخرى إلى دائرة الحياة. كذلك سيُمكْن للبعض التذكر الدائم لذويهم المتوفين، وقدرتهم على التحدث لهم في أي وقت يرغبون فيه عند حاجتهم لذلك مما يخفف من كم الحزن الذي سيشعرون به.

خلال السنوات المقبلة سنشهد تطورا واضحا في هذه التقنيات وربما استحداث تقنيات جديدة توفر حلولا لتحديات كثيرة تواجه هذا المجال، وكذلك سنشهد بصورة واضحة مناظرات قوية جدا بين علماء ورواد أعمال هذا المجال ورجال الدين وكذلك الفلاسفة نتيجة للجدل الذي سيثيره بيع هذه التقنيات للعامة في العالم الذي يتمتع بتنوع شديد في الأديان والعادات. برأيك ما التأثير الذي يمكن أن يحدث عند استخدام البعض لهذه التقنية؟ وهل سيكون تأثيرا سلبيا أم إيجابيا؟