هُرع إلى منزله سريعًا بعد انتهاء المباراة، وسط تعجب رفاقه الذين اعتادوا على أن يقضيَ معهم بعض الوقت، ليتباسطوا، ويتندروا على أحداث اللقاء. لم يصرُّوا على منعه من المغادرة المبكَّرة، إذ كان الإرهاق يبدو بجلاءٍ على ملامح وجهه. لعلَّه المجهود الزائد الذي بذله، مع حرارة الجو والرطوبة الزائدة .. هكذا حدَّثوا أنفسهم في محاولةٍ للتفسير. لكن ما لم يخطرْ ببال أحدهم أبدًا أن دقائق قليلة تفصلهم عن وصول نعيْ زميلهم الشاب الذي غادرهم للتوَّ.

لم يكنْ باستطاعته تحديد ما يعاني منه بدقة. شعورٌ غير مريح بالتعب الشديد يجتاحه من قمة رأسه إلى أخمص قدميْه، يصاحبه ثقلٌ واضح في أنف. عصف بزوجته القلق بمجرد أن وقع ناظراها عليه، ثم تسارعت الأحداث بشكل مرعبٍ جعلها تظن أنها ولا بد في كابوس مؤقت تريد أن تفيق منه فورًا. كل ما تتذكره أنه تناول كوبًا من الماء البارد، ثم بدأ يصرخ من ألم شديد في صدره، وأن روحه فاضت بعد بضع دقائق بينما كان في الطريق إلى عيادة قريبة لاستشارة الطبيب.

كان ما سبق هو القصة المأساوية التي تداولتها وسائل الإعلام حول العالم، للوفاة المفاجئة للاعب كرة القدم لودفين نول – 27 عامًا – بعد مباراةٍ محلية خاضها في شمال غربي دولة بيرو بأمريكا اللاتينية في الأول من مايو الفائت. مما ضاعف غرابة الخبر، أنه ورد مقترنًا بأن الوفاة المفاجئة كانت بسبب تناوله جرعةً من الماء شديد البرودة، أدت إلى تعرضِه إلى سكتةٍ قلبية. كان هذا هو التفسير الذي أخبر به الأطباء الزوجة المكلومة.

لكن هل بالفعل يمكن لكوب الماء البارد، الذي يكسوه ذلك البخار المنعش، والذي نعشقه جميعًا في الأجواء الحارة، أن يقتلنا؟


الماء البارد والوفاة المفاجئة بالسكتة القلبية

السكتة القلبية هي توقف مفاجئ لعضلة القلب، مما يعني توقف الدورة الدموية والتنفسية، والتغذية الدموية لكافة أجهزة الجسم الحيوية، وأهمها المخ، مما يعني الوفاة خلال بضع دقائق، ما لم يعد القلب للانقباض ذاتيًا خلال ثوانٍ معدودة، أو يتم بدء الإنعاش القلبي الرئوي من الموجودين بالمكان فورًا، للحفاظ على حدٍ أدنى من التغذية الدموية، لحين طلب الإسعاف العاجل، ونقل المريض إلى الطوارئ الطبية العاجلة للبحث الفوري عن الأسباب المحتملة لهذه السكتة، وبدء العلاج الحاسم.

أشهر أسباب السكتات القلبية هي جلطات الشرايين التاجية للقلب، والتي تعتبر أهم عوامل الخطر لحدوثها، تلف جدران الشرايين المعروف باسم التصلب الشرياني، والذي يحدث نتيجة الإصابة المزمنة بالسكر أو الضغط، أو ارتفاع نسبة الكولسترول بالدم، والتدخين .. الخ. وقد شاعت الإصابة بها في الشباب في السنوات الأخيرة نتيجة شيوع التدخين، وضغوطات الحياة العصبية التي يعاني منها الكثيرون. تؤدي الجلطة إلى انقطاع التغذية الدموية عن بعض أجزاء القلب، مما يسبب اضطراباتٍ كهربية شديدة، قد تؤدي إلى توقف عضلة القلب.

اقرأ أيضًا: مرض العصر: قلوبٌ شابة في مرمى الموت

وأيضًا:قلوبٌ شابة في مرمى الموت .. هل يعودون من البرزخ ؟

لكن قد تحدث السكتة القلبية نتيجة بعض المشكلات الوراثية التي تغير من تركيبة القلب ونشاطه الكهربي، والتي قد يتم تشخيصها مصادفةً أثناء كشفٍ طبيٍّ روتيني من خلال رسم القلب الكهربي أو أشعة الموجات الصوتية على القلب “إيكو” .. الخ، لكن للأسف قد لا يكتشف بعضها إلا بعد حدوث الوفاة المفاجئة للشخص أو أحد أقارب الدرجة الأولى، وتكرّر حدوث هذا في الرياضيين، حيث إن المجهود البدني الشديد، والانفعال الجارف، يزيدان من الضغط العصبي على القلب، فيظهران مضاعفات تلك الأمراض المذكورة.

من أشهر تلك الحالات، التضخم الانسدادي في جدران القلب، حيث يزداد حجم الجدار بين البطيْنيْن بشكل كبير، فيعوق تيار الدم الذي يُضّخُّ من البطين الأيسر إلى الشريان الأورطي لتغذية كافة أجزاء الجسم، وتزداد خطورة تلك الإعاقة ومضاعفاتها مع بذل المجهود البدني الشديد الذي يزيد تسارع وقوة انقباض القلب، مما قد يسبب سكتة قلبية مفاجئة، أو اضطرابات كهربية جسيمة بالقلب. وهناك حالات أخرى مثل متلازمة بروغادا، ومتلازمات تطاول قطعة ك – ت في رسم القلب الكهربي .. الخ.

بوضوح شديد وحاسم، حتى الآن لا يوجد دليل علمي قاطع يؤكد وجود علاقة مباشرة بين شرب الماء البارد وحدوث السكتات القلبية نتيجة أيٍّ من الأسباب التي ذكرناها، أو غيرها، نعم هناك بعض الشكوك أن شرب الماء البارد المثلج قد يسبب تقلُّصًا في الشريان التاجي المغذي للقلب، كما سُجِّلَت حالة لطفل عمره 12 عامًا نشرت في المجلة الأمريكية للطب الشرعي، توفي بسكتةٍ قلبية عام 1999م، بعد تناوله كوبًا من الماء المثلج. أظهر الكشف الطبي الشرعي بعد الوفاة، وجود ورم داخل القلب rhabdomyoma with myocardial scarring لم يتم تشخيصه مسبقًا، يسبب تليفًا بجدار القلب. ورأى الأطباء أن شرب الماء المثلج فجأة، سبب للطفل رد فعل عصبيٍّا زائدًا على الحد، نشط حدوث اضطرابات كهربية خطيرة منبعها المنطقة المتليفة بالقلب، فحدثت السكتة القلبية. لكن تظل تلك حالة نادرة للغاية، وشديدة الخصوصية.

في المقابل، فهناك أدلة عديدة على أن الغمر المفاجئ في الماء البارد (السباحة مثلًا) قد تسبب حدوث ذبحة صدرية نتيجة تقلص الشرايين التاجية، وتسارع النبض، وارتفاع ضغط الدم، كردٍ فعلٍ عصبي للإثارة الزائدة لمستقبلات البرودة، وقد يصل الأمر في بعض الحالات النادرة، إلى حدوث اضطراباتٍ كهربية خطيرة قد تسبب السكتة القلبية. ويمكن أن يحدث هذا في شباب الرياضيين صغار السن. وقد أكدت النتائج السابقة، دراسة طبية من جامعة بورتسموث البريطانية عام 2012م.


شرب الماء البارد في الميزان

في الثقافة الصينية القديمة، كان شرب الماء البارد مع الوجبات الساخنة مرفوضًا، لأنهُ وفق الاعتقاد السائد آنذاك، يسبب اضطرابًا في التوازن داخل الجسم، ولذا فقد كانوا يقدمون المشروبات الساخنة كالشاي الصيني مع الوجبات.

وعلى مستوى علم أمهاتنا، فالقضية لا تحتاج إلى نقاش أو موازين. شرب الماء البارد ضار بالصحة ويسبب الوفاة، ويمثل عقوقًا للوالدين، خاصة إذا ارتكبه الأطفال الصغار. لكن وجهة النظر العلمية والطبية، قد تحمل أخبارًا صادمة وغير سارة لأمهاتنا، فشرب الماء البارد لا يستحق – بالدليل – كل تلك الشيطنة، رغم أضراره، بل إن له بعض الفوائد.

أضرار محتملة لشرب الماء البارد

قد يسبب شرب الماء البارد حدوث الإمساك، لأن البرودة تسبب تقلص وضيق الأوعية الدموية في الجهاز الهضمي، مما يؤخر عملية الهضم والامتصاص. كذلك يفاقم شرب الماء البارد من صعوبة البلع في حالات ضعف وتمدد المريء Achalasia. أيضًا قد يحفز شرب الماء البارد حدوث نوبة من الصداع النصفي migraine لدى المصابين به.

يرى البعض أن المواظبة على شرب الماء المثلج، لها أثر سلبي طفيف على كفاءة الأنظمة الغذائية لإنقاص الوزن، حيث يعتقد أنه يزيد الدهون كثافة، ويقلل من عمليات الحرق. ويرى آخرون أن الإرواء بواسطة الماء شديد البرودة، يؤخر استفادة الجسم منه، إن يضطر أولًا لمعادلة حرارته إلى حرارة الجسم المعتادة، لكن يتمكن من استغلاله. وفي بعض الحالات النادرة، قد يؤدي شرب الماء المثلج إلى تحفيز شديد للعصب الحائر، مما قد يسبب حدوث تباطؤ كبير في ضربات القلب.

أيضًا يزيد شرب الماء البارد من فرص حدوث التهابات الجهاز التنفسي العلوي، مثل التهابات الحلق والشعب الهوائية .. الخ.، والسبب أنه يزيد من كمية إفراز المخاط، لتدفئة الحهاز التنفسي. هذا التراكم من المخاط دون داع، قد يزيد فرص نمو البكتيريا. كما أن البرودة الشديدة للماء، تسبب ضيق الأوعية الدموية في الحلق، مما يقلل وصول الخلايا المناعية عبر الدم إلى الحلق.

فوائد محتملة لشرب الماء البارد

تجنب الجفاف، والحفاظ على إمداد كافٍ بالسوائل، من أهم ما ينصح به الطب الآن، وتفضل أحدث التوصيات أن يحصل الذكر البالغ على حوالي 3.5 لتر من السوائل يوميًا، وأقل قليلًا من 3 لترات بالنسبة للإناث.

على وجهٍ خاص، يُنصَح بشرب كمية كافية من السوائل قبل وأثناء التدريب الرياضي، وذلك لمنع حدوث الجفاف، ولكسر الحرارة الزائدة التي يسببها التمارين، وللماء البارد – لكن ليس شديد البرودة – دور مهم في تلك الفائدة الأخيرة. كما أظهرت بعض الأبحاث أن تناول الماء البارد يقلل تسارع ضربات القلب أثناء التمرين، ويحسن الكفاءة العضلية، مما يساعد اللاعبين على زيادة مدة التمرين بالمقارنة بنظرائهم الذين اكتفوا بالسوائل الدافئة.

كما أظهرت دراسة صدرت عام 2013م أن أفضل حرارة للماء الذي يشربه اللاعبون أثناء التمارين الرياضية، هي 16 درجة مئوية – مائل للبرودة – فمعها يتحسن الأداء نسبيًا، بأقل فقدِ في العرق، وأقل احتياجٍ للماء.

يرى البعض أيضًا أن شرب الماء البارد قد يحسن بشكلٍ طفيف من كفاءة حرق الدهون، وذلك للحصول على الطاقة الحرارية للحفاظ على اتزان الجسم الحراري، مما يساعد في إنقاص الوزن. كما أنه يجبر الجسم على استهلاك بعض الطاقة الزائدة، وذلك للحفاظ على استقرار درجة حرارة الجسم، مما يساهم قليلًا في التخلص من الدهون الزائدة. (من الملحوظ تضارب الأدلة المتوفرة في قصة إنقاص الوزن، ففي الفقرة السابقة ذكرنا العكس).


والماء الدافئ؟

الأدلة القاطعة فيما يتعلق بالمياه كما ذكرنا سابقًا، تعضِّد من أهمية شرب السوائل عمومًا، والحفاظ على الجسم وأجهزته الحيوية من الجفاف، لكن يبدو أن للماء الدافئ بعض القيمة المضافة مقارنةً بالبارد، فهو يساعد في تقليل احتقان الأنف أثناء أدوار البرد والإنفلوانزا، ويسهل عملية الهضم والامتصاص، ويقلل حدوث الإمساك، لأنه يساهم في تفتيت الطعام، ويسبب اتساع الأوعية الدموية بالجهاز الهضمي. كما وجدت إحدى الدراسات أن شرب الماء الدافئ والمشروبات الساخنة، يقلل من الضغط النفسي والتوتر. كما أن الماء الدافئ ي سهل عملية البلع لدى المصابين بضعف واتساع المريء (الأكاليزيا).


الخلاصة

اشرب كمية وافرة من السوائل واستمتع بالماء معتدل البرودة، واستغل فوائد المشروبات الدافئة في الهضم وأثناء أدوار الإنفلوانزا. وتجنب السوائل شديدة البرودة وشديدة السخونة.