تمثل محاولة اختزال الأخلاق في العمليات العصبية إحدى الصيحات الرائجة في العقود الأخيرة علميا وفلسفيا، وبخاصة، بعد الطفرة التي شهدتها الدراسات العصبية المعرفية Cognitive Neuroscience منذ الربع الثالث من القرن العشرين. يعني هذا الاختزال غالبا نفي الأبعاد الدينية أو الإنسانية في تكوين الأخلاق بحيث يتحول الشعور الأخلاقي لدى الإنسان إلى ما هو أقرب بالعمليات الرياضية أو الاستجابات العصبية المبرمجة التي تتم في المخ. كما أنه يلقي بظلاله على مسائل عملية تتعلق بعلاج الاضطرابات النفسية والعصبية، بل وعلى وضع القوانين في المجال العام.

وتسبب ندرة المصادر الأصلية المتوفرة عن ذلك الاتجاه بالعربية غياب القدرة على اتخاذ موقف موضوعي أو دراسة ذلك الاتجاه بمعزل عن الحساسيات الفكرية القبلية، بما يسمح ببروز مواقف أيديولوجية أو انفعالية قليلة الحظ من الرصانة العلمية أو الفلسفية: إما بالقبول والاحتفاء الساذج، النابع من الرهبة التي يلقيها التذرع بالعلم على تلك الاتجاهات، أو بالرفض المتعصب والتشهير دون التفات إلى الإنجازات والتساؤلات الحقيقية التي يضعها برنامج العلوم العصبية على الطاولة.

هذه ترجمة لمقالة “الأخلاق في المخ” نشرها أستاذ الفلسفة المتفرغ بجامعة سادبري بكندا، فنسنت دي نورشيا، في مجلة الفلسفة الآن، العدد 87. وفنسنت دي نورشيا مختص بفلسفة الأخلاق، وهو فيلسوف طبيعاني (الطبيعانية تيار فلسفي يؤكد أن القوانين الطبيعية تحكم العالم كله بعيدا عن أية عوامل روحية) اهتم مبكرا ببرنامج العلوم العصبية المعرفية. أي أن تلك الورقة ليست تستهدف نقد ذلك الاتجاه بل هي في الحقيقة إحدى منتجاته.

هذه النسخة من المقالة مختصرة لما هو أقل من نصف حجم المقالة الأصلية، لأنني آثرت ألا أزعج القارئ بمسائل قد لا تهمه، وأضيعه بين تفاصيل تلهيه عن الأفكار المحورية بالمقالة. كما حاولت أن أنقل مرامي الكاتب بلغة يسيرة وإن لم تطابق حرفيا النص الأصلي. على أن تنشر النسخة الأصلية كاملة في وقت لاحق إن شاء الله.


الأخلاق في المخ

فنسنت دي نورشيا

لقد آن الأوان لتنتقل الأخلاق من أيدي الفلاسفة إلى البيولوجيا

إدوارد ويلسون: السوسيوبيولوجي، أطروحة جديدة.

لماذا كانت للحيوانات أمخاخا؟ أليس لكي تحيا في بيئات مريبة محفوفة غالبا بالمخاطر. فالحس الواعي هو ما يساعدهم على التعاطي مع المواقف التي تتطلب استجابة بديعة غير تقليدية في التخطيط والخيار من بين مسارات متعددة للفعل. فلا شك مطلقا في أن تطور قوى المخ، الذكاء، كان العامل الحاسم في مسيرة التطور، لأن قوى المخ تضفي ميزات تكيفية هائلة.

يتفق عالم الأخلاق العصبية Neuroethicist أنطونيو داماسيو مع ذلك. ففي كتابه التأسيسي في الأخلاق العصبية “خطأ ديكارت” (2006) يبني داماسيو على زعم سبينوزا[1] الشهير بأن مبدأ الأخلاق عند الإنسان هو “مسعاه للحفاظ على وجوده“، أن ثمة بالإضافة إلى الدافع البيولوجي للبقاء: الرغبة في الرفاه، والتكاثر (سوف أطلق على ثلاثتهم: الرفاه wellbeing). لكن الأمر لا ينتهي هنا. لا يوضح داماسيو ما الذي يفعله المخ بالضبط ليجعل البدائيات والآدميين أكثر قدرة على التكيف مع البيئة المتغيرة. ثمة اقتراح واحد أبقت عليه سارة سولّا (PLoS Biology, April 2006)، وهو أن “وظيفة أمخاخنا المحورية هي أن تكون وسيطا بيننا وبين العالم الخارجي. ولهذا الوسيط وجهان أساسيان: معالجة مدخلاتنا الحسية، والتحكم بحركتنا“.

يحمل المخ حقيقة مركبا من الروابط الحس-حركية، تربط إحساساتنا بحركتنا. لكننا ينبغي أن ننظر في ما تتضمنه عملية “معالجة المدخلات الحسية”. ما يدعى عادة “معالجة المعلومات” هو بالنسبة للمخ مسألة خلايا عصبية تستلم وتسلم رسائل. تنشأ الخبرة الواعية وتنمو عبر ائتلافات متبادلة بين الشبكات العصبية (أعني: خلايا عصبية متصلة فيما بينها)، مع ما يقوم به نظام التفعيل الشبكي من تحفيز للانتباه المتيقظ. كيفية معالجة المخ لذلك الكم الهائل من الرسائل المتسلمة من، والمرسلة إلى، الجسد، هو، في رأيي، مفتاح فهم الكيفية التي يمكن بها المخ الإنسان من تكوين حس أخلاقي.

يمكن الكم الهائل من المشابك [2] الكهروكيميائية فائقة السرعة، المخ من معالجة وفرز كم الرسائل الذي ينساب من مستقبلات الجسد الحسية، ثم يطلق سريعا الاستجابات الحركية المطلوبة التي تحافظ على رفاهية الكائن. لم تكن تلك الاتصالات العصبية الهائلة لتكون ممكنة لولا الروابط عالية السرعة نسبيا بين الخلايا العصبية.

نقل المعلومات إذن هو ما يفعله المخ do، لا ما يعمله work، بينما الجسد هو ما يقوم بالعمل. لذلك، فإنه لمن الخطأ والتضليل الخطير، الحديث عن المخ كآلة كما يفعل البعض. المخ هو وسط اتصال كهروكيميائي[3] لا آلة أو جهاز ميكانيكي. ما هو أكثر من ذلك، هو أن النظام المنطقي والرياضي أكثر تحديدا وصلابة وميكانيكية من أن يناسب تكيف الجسد مع البيئة. لذا لم يكن من الممكن القول أنه يعمل، ولا أن المخ الموصل هو كومبيوتر رقمي يعتمد المنطق الثنائي. بدلا من ذلك، فإن منطقا أكثر غموضا قائم على الاحتمالية، هو ما سيكون انعكاسا أصدق للقوى والاستغراقات والمواقع والأحجام المتنوعة للروابط المشبكية. علاوة على ذلك، يعاد توصيل المسارات والعمليات العصبية وتركيبها باستمرار. تلك هي المرونة العصبية الملحوظة للمخ الموصل.

كل الوظائف السيكولوجية ممكنة، في الحقيقة، بسبب إمكانات المخ لأن كل الإمكانات السيكولوجية تمرر عصبيا.

يلعب التفكير الواعي والقرارات الإرادية دورا في السلوك اللا أخلاقي أو الذي لا يتعلق به حكم أخلاقي؛ كدوره في السلوك الأخلاقي. وليس التوجيه العقلاني للسلوك أخلاقي بطبيعته. فعندما اعتبر أفلاطون العقل “فاضلا” فقد كان ذلك لأنه جعله مخولا بكبح شهوات الجسد وعواطفه ورغباته المريبة. على النقيض، منذ ثلاث مائة عام مضت، أكد باروخ سبينوزا أن المشاعر العاطفية emotions إنما هي مشاعر جسدية ذكية قيّمة تسهم في أن رفاه الفاعل، ومثل ذلك أخلاقي في أساسه. لقد دعمت الأخلاق العصبية حديثا رؤية سبينوزا.

تزود المشاعر السلبية المخ بنظامه الدفاعي، إذ تستدعي حالة “الكرار أو الفرار Fight or Flight”[4] في مواجهة الأخطار المحتملة. يمكن أن يقرأ الشعور بالواجب الأخلاقي، كما أعتقد، على نحو شبيه بذلك، باعتباره صورة من التحفيز نابعة من الخوف من عقاب أو ضرر أو ضياع مستقبلي. لكن على الرغم من أن القوى السيكولوجية كالإحساس الواعي وصناعة القرار والمشاعر، تضع الأساس للذكاء الاجتماعي، إلا أنها تبقى شخصية. إنها تعجز لذلك عن تأسيس ذكاء اجتماعي بين-شخصي أو إمكانات أخلاقية ذات صلة بذلك.

المخ الاجتماعي الأخلاقي..

هنا، سوف أستكشف الروابط بين المخ الاجتماعي والأخلاقي. ما أقوله يمثل فيما يبدو نظرية تجريبية عقلانية للذكاء الأخلاقي.

قولنا الذكاء الأخلاقي ليس مسألة تحكم منطقي في الاستعمال اللغوي. بل هو، بحسب نظرية هوارد جاردنر عن الذكاءات العديدة، صورة من الذكاء الاجتماعي ذي الأساس الحيوي العصبي، يتعلق بالاهتمام برفاه الآخرين ويتعلق كذلك بكيفية تعاملنا مع الآخرين. فالذكاء الاجتماعي ربما يكون هو العامل العقلي الأهم في تأسيس الذكاء الأخلاقي. (قبل المتابعة، أود أن أنبه على بعض أنواع الإصابات الدماغية تدهم فرضية كون المخ هو مستقر الذكاء الاجتماعي: فعلى سبيل المثال، تلف القشرة الجبهية الأمامية prefrontal cortex من الجهة البطنية الأنسية ventromedial والقشرة الجبهية الحجاجية orbitofrontal cortex كان وراء سلوك فينياز جاج المنفلت المعادي للمجتمع واللاأخلاقي).

(فينياز جاج هو عامل سكك حديدية تعرض لضربة على رأسه بتلك العصا التي يمسكها في الصورة، أصابت الفص الجبهوي الأيسر من المخ، مما أدى إلى تغير جذري في سلوكه الأخلاقي، وقد كانت حالته تلك من الحالات المبكرة التي وجهت العلماء والفلاسفة إلى فكرة تموقع كل وظيفة من وظائف المخ في إحدى مناطقه)

يتمتع المخ بمجموعة من إمكانات التواصل الاجتماعي: اللغة الشفهية، لغة الجسد، التطابق العصبي Neural mirroring، المشاعر الاجتماعية. فقد أظهر البحث البديع لـ جاليز وجولدمان وآخرين في جريدة “اتجاهات في العلوم المعرفية” (1998) أنه في حالة التطابق العصبي: عندما يرى الإنسان أو القرد فعلا حركيا يؤديه نظير له، تُفعل نفس الخلايا العصبية التي تفعل عند ممارسة الكائن نفسه لنفس الفعل؛ أي أن ملاحظة فعل هو في الحقيقة أن تحفزه لديك عصبيا باستخدام نفس البنية العصبية كأنك تفعله. لذا ففي النمط التطوري الكلاسيكي، يبني التطابق العصبي الذكاء الاجتماعي على منصة الذكاء الحس-حركي للمخ المطورة مسبقا.

الذكاء الأخلاقي..

على إثر ذلك الارتباط الوثيق بين الذكاءين الاجتماعي والأخلاقي، أقترح أننا نتصور الذكاء الأخلاقي كصورة تفاعلية اجتماعية من الذكاء؛ تحديدا، الذكاء الأخلاقي هو ذكاء يتيح السلوكيات الاجتماعية التفاعلية التي تفيد المرء نفسه والآخرين. وتتضمن صور المنفعة المشتركة: رد الفعل الإيجابي، والميل لزيادة وتنمية الفوائد التي يستمتع بها المتضمنون؛ الأمر الذي يشجع بالتالي الفواعل الأخلاقية على تكرار سلوكياتهم الاجتماعية الجيدة. وكنتيجة لذلك الانتفاع المشترك المتولد، تنتشر القيم والتقاليد والفضائل الأخلاقية على نطاق واسع وبسرعة بين المجموعات الاجتماعية. علاوة على ذلك، يمكن الذكاء الأخلاقي الفواعل، ليس فقط من الالتزام بالعيش بسلام وتعاون مع الآخرين، بل أيضا، من التمييز بين النافع والضار من التفاعلات الاجتماعية.

وجد ذلك التصور للذكاء الأخلاقي كـ “تفاعل اجتماعي قائم على المنفعة المشتركة” تأييدا في: دراسات بيتر كروبوتكين عن المنفعة المتبادلة في الحيوانات والإنسان (“المنفعة المتبادلة Mutual aid” 1968) وفي نظرية كينيث بولدينج الجذابة عن أن التبادل الاقتصادي هو القيمة الاجتماعية الجامعة والأقوى أكثر من الخطر المهدد من الأجانب على سبيل المثال، أو خطر الغزو (“ما وراء الاقتصاد” 1970). في نفس السياق، نشر روبرت تريفرز عددا من الدراسات الرائدة التي أظهرت أن الإيثار متبادل بين الحشرات، والأسماك، والطيور، والحيوانات، والبشر، كما بين الأنواع المختلفة أيضا (انظر: “الانتخاب الطبيعي والنظرية الاجتماعية: أوراق مختارة” 2002). يأتي الإيثار على وجهه الأمثل، كما يعلق تريفرز، عندما يكون متبادلا، بحيث يستفيد الطرفان.

الشعور بواجب الاهتمام برفاه الآخرين ليس مجرد أمر فردي ، بل هو ممارسة اجتماعية، تحديدا هو تطبيق للإلزام المتبادل، وهو الوجه الآخر للنفع المتبادل. يحضر الإلزام المتبادل في كل صور العلاقات الاجتماعية: التفاعل بين الإدارة والموظفين، الرجل والزوجة. على كل حال، “الواجب” يعني أن يكون المرء مساءلا ومحاسبا أمام الآخرين عن سلوكه. تقدم الأخلاق العصبية لذلك دعما للديونطولوجيا الاجتماعية [5] (مفهوم الواجب) كما للنفعية الاجتماعية [6] (النفع المتبادل) كذلك.

الخلاصة..

فينياز جاج
فينياز جاج

لقد طرحت أن الذكاء الأخلاقي لا يتكون عبر الضبط الحيوي العصبي، والذكاء الحس-حركي، والإمكانيات الشخصية للانتباه الواعي، المشاعر العاطفية، وصناعة القرار؛ ولا هو مسألة واجب أو فضائل أو نوايا أو تعليل منطقي رياضي.على الضد من ذلك، يتطلب الذكاء الأخلاقي إمكانات بين شخصية فاعلة، والتي تجد دعما لها في قوى المخ الاجتماعية المؤثرة. لكن الذكاء الاجتماعي والأخلاقي ليسا متطابقين. بل الذكاء الأخلاقي إضافة إلى ذلك يلزمنا بالاهتمام برفاه الآخرين، ومن ثم أن نتبادل الأمتعة، كما نفعل في التواصل والتجارة والتعاون. أخيرا، كان إدوارد ويلسون مصيبا كما كان دارون: المخ الاجتماعي والذكاء الأخلاقي هو نتاج التطور البيولوجي والانتخاب الطبيعي. الأخلاق هي بالفعل استراتيجية تطورية ناجحة.


[1] يجد القارئ استدعاء مستمرا لسبينوزا. وهو الفيلسوف الذي حاول أن يعقلن الأخلاق بشكل كامل.

[2] المشبك العصبي synapse هو ملتقى عصبين حيث يحصل انتقال الإشارة العصبية.

[3] تحولت النزعة المادية المحدثة عن الآلية الكلاسيكية إلى رؤية كهروكيميائية أكثر رحابة. وعلى الرغم من أنها تتنافى مع المادية الصارمة إذ أنها تنتقل من المادة إلى الطاقة، إلا أن الماديين الجدد يتبنونها دون حساسية واضحة.

[4] “الكرار أو الفرار” تعبير يستخدم لحالة من التحفيز العصبي السيمبثاوي لإمكانات الجسد كله في حالات الخطر بما يساعده على مواجهة الخطر أو الهرب.

[5] الديونطولوجيا هو مذهب أخلاقي يقوم على شعور الفرد بالواجب الأخلاقي.

[6] النفعية هي النظرية المناوئة التي ترى أنه ليس ثمة معايير أخلاقية مبدئية وإنما الأخلاقي هو ما يجلب المنفعة.


اقرأ المزيد:

الإلحاد الجديد.. كيف واجهه الغرب المسيحي وكيف واجهناه نحن؟

بول كروجمان (نوبل الاقتصاد 2008) يكتب: صراع نخب الاقتصاديين في الولايات المتحدة