بداية لا بد وأن تعرف أن «أفلاطون» (Plato) هو لقب وليس اسمًا. فالرجل يدعى «أرسطوقليس» (Aristokles)، ولد في أثينا في سنة 427 ق.م. لعائلة أرستقراطية كانت لها مكانة مؤثرة في المجتمع اليوناني القديم.

وعادة ما تقسم حياة أفلاطون لأربع مراحل، تشمل الأولى فترة حياته قبل سقراط، والتي درس فيها الموسيقى والأدب والنحو والجمباز. وتوجد نقول تشير إلى ذكاء أفلاطون الشاب وسرعة تفكيره، وبنيته القوية التي جعلته يتصارع في الألعاب الكورنثية ويفوز بها مرتين. وهذا ما جعل أحد معلميه يطلق عليه لقب «أفلاطون» الذي يعني «العريض»، إما لأنه كان «عريض المنكبين» دلالة على قوة بنيانه، وربما لأنه «عريض الجبهة» كناية عن ذكائه. وفي هذه المرحلة تخلى أفلاطون عن طموحاته السياسية وأظهر ميلاً لدراسة الفلسفة على يد أحد أتباع هيرقليطس، كما درس نتاج المدرستين الإيلية والفيثاغورسية.

أما المرحلة الثانية فتشمل فترة تلمذته على سقراط التي استمرت لثماني سنوات وطبعت حياته ومؤلفاته حتى النهاية. وقد بدأت هذه التلمذة سنة 408 ق. م. أي عندما كان أفلاطون في العشرين من عمره تقريبًا. وآنذاك كانت أثينا قد هُزمت، أو أوشكت، على يد أسبرطة في حروب «البيلوبونيز». وقد فقدت أثينا حريتها وفرضت أسبرطة عليها حكومة الثلاثين المكونة من ثلاثين طاغية كان بعضهم أقرباء لأفلاطون ومعارف سقراط. وبعد أن انهارت حكومة الثلاثين قامت الحكومة التالية، وكانت تزعم أنها ديمقراطية، بمحاكمة سقراط بتهمة التجديف وإفساد الشباب، وقد تم إعدامه سنة 399 ق.م.

أما المرحلة الثالثة التي استمرت قرابة 12 سنة، فقد بدأت بعد إعدام سقراط، الذي كان له وقع الصدمة على أفلاطون، وقد دفعه هذا إلى الرحيل عن أثينا، فذهب بداية إلى (ميجارا) واتصل بإقليدس، أقدم تلاميذ سقراط. وقد مكث أفلاطون إلى جواره لمدة ثلاث سنوات. وبعدها قام أفلاطون بعدة رحلات علمية، فانتقل بداية إلى (قورينا) حيث زار العالم الرياضي تيودوروس ومدرسته، وهناك كتب أفلاطون على الأرجح أول محاوراته. ومن قورينا انتقل أفلاطون إلى مصر، حيث تتلمذ لفترة على رهبان جامعة منف (أون) درس خلالها علم الفلك والعلوم القديمة.

وفي سنة 391 ق.م، زار أفلاطون جنوب إيطاليا وتقابل مع بيتاجوراس. وبعدها بعام أصبح معلمًا لابن ديونسيوس الأول ملك صقلية. ويبدو أن موافقة أفلاطون كانت بهدف تحويل الابن لملك فيلسوف يطبق أفكاره. وقد يكون هذا سبب غضب الملك على أفلاطون سنة 388 ق م حيث قبض عليه وسلمه لمبعوث إسبرطة عدوة أثينا، الذي عامل أفلاطون كأسير وعرضه للبيع في سوق الرقيق بمدينة آجينا فافتداه رجل يعرفه من قورينا اسمه «أنيقاريس» وأعاده إلى أثينا، وكان أفلاطون في الأربعين من عمره.

وفي أثينا تبدأ المرحلة الأخيرة في حياة أفلاطون، فعندما أرسل بثمن نفسه إلى «أنيقاريس» رفض أخذه، فاشترى أفلاطون بالمبلغ قطعة أرض غرب أثينا من رجل يدعى «آكاديميوس» وبنى عليها مدرسة عرفت باسم «الأكاديمية» نسبة إلى صاحب الأرض، وهي أقدم المدارس الفلسفية اليونانية وأطولها عمرًا. وقيل إن أفلاطون كتب على بابها: «من ليس مهندسًا فلا يدخل علينا»، وذلك لأنه كان يرى أن دراسة الرياضيات مقدمة ضرورية للتفلسف.

وفي هذه المرحلة تفرغ أفلاطون للتدريس والكتابة إلا قليلاً. فآنذاك بدأ أفلاطون كتابة مؤلفه الشهير «الجمهورية»، الذي يعرف أيضًا باسم «السياسة»، والذي يدور حول مفهوم العدالة والدولة المثالية، والتي يكون الحكم فيها لمحبي الحكمة. وبعد انتهائه من الكتاب قام برحلتين إلى صقلية للمشاركة في محاولة إقناع ملكها الجديد (ديونسيوس الثاني) بتطبيق أفكاره حول الدولة المثالية، ولكنه فشل في المرتين وعاد إلى أثينا خائب الرجاء.

وعندما تمكن تلميذه (ديون الصقلي) من الانقلاب على طاغية صقلية، بهدف الانتقام وتطبيق أفكار أستاذه أفلاطون، سرعان ما تحول إلى طاغية دموي أقسى ممن ثار عليه، ومن ثم كانت نهايته الاغتيال على يد واحد من أصدقائه. ومن المآخذ على أفلاطون أنه رثى (ديون) هذا في خطابه السابع ودافع عنه وعن فلسفته ومدرسته التي واظب على التدريس فيها حتى وفاته في أثينا سنة 347 ق.م إبان عكوفه على تأليف كتابه الأخير «القوانين».


تراث أفلاطون

يوجد اليوم شبه إجماع على أن سكرتير أفلاطون (فيليبوس الأوبوسي) جمع مؤلفات أفلاطون خلال حياته، وربما لهذا حُفظت كتبه ولم تفن كما حدث لكتب غيره. وفي عام 36م قام اللغوي الروماني (تراسيلوس المنديسي) بجمع كتابات أفلاطون، وقسمها رباعيًا إلى تسعة أقسام تضم 36 مؤلفًا اختلط فيها الصحيح بالمدسوس.

وقد عملت الدراسات المتتالية لتراث أفلاطون على التمييز بين مؤلفاته الصحيحة وتلك المدسوسة عليه، واستخدمت في ذلك عدة مناهج أهمها المنهج التاريخي الفيلولوجي الذي يهتم بالخصائص اللغوية لأسلوب أفلاطون. أما المؤلفات التي يعتقد بصحة نسبتها إليه فيقدرها البعض بـ 26 محاورة، ما زال من الصعب وضع ترتيب زمني دقيق لها، وكذلك الحال مع الرسالة الوحيدة التي صحت نسبتها إليه. ولكن تطور الأسلوب الكتابي لأفلاطون، جعل من الممكن للمتخصصين تقسيم كتاباته إلى ثلاث مراحل أساسية، ورغم التباين في ترتيب المحاورات في المراجع التي طالعتها إلا أن هذا التقسيم الثلاثي قد تساعد في تنظيم قراءة أفلاطون واستيعابه لغير المتخصصين. وتحت كل مرحلة رتبت المؤلفات ألفبائيًا لا زمنيًا، باستثناء المحاورة الأخيرة (القوانين) حيث مات قبل أن يتمها.

ورغم أن أفلاطون هو أهم فيلسوف في العصور القديمة إلا أن العرب لم يترجموا له إلا القليل الذي ضاع أغلبه لعدم عنايتهم به، ربما بسبب الطبيعة المسرحية لمؤلفاته، ورغم ذلك فقد كانوا يعرفون أفكاره بشكل ما بفضل ترجمتهم لبعض كتابات جالينيوس التي تناولت محاورات أفلاطون. وقد نشر عبد الرحمن بدوي بعضها في كتابه «أفلاطون في الإسلام» (1973). ورغم ذلك فمن الغريب أن أفلاطون كان له تأثير – وإن كان غير مباشر – على الفكر الإسلامي عامة وعلى التصوف خاصة. وكان بعض الكتاب المسلمين يبجله ويطلق عليه لقب «الشيخ اليوناني» وينسب إليه ما لم يكتبه! ولأنه لا توجد بين أيدينا ترجمات عربية قديمة لمحاورات أفلاطون فإنني سأذكر هنا الترجمات العربية الحديثة فقط مع ذكر ما يشير إلى ترجمتها قديمًا.


محاورات مبكرة

كتبها أفلاطون في الفترة ما بين سنتي (399 – 385 ق. م.)، وتدور على الإجمال حول الفضائل والدفاع عن سقراط، ولذا تسمى أحيانًا بالمحاورات السقراطية. وفيها هيمنت شخصية سقراط، الذي يسأل الناس عن أشياء يدَّعون معرفتها ويدَّعي هو الجهل بها. ومن خلال الحوار يوضح سقراط أن هؤلاء الناس حقًا لا يعلمون ما يدَّعون معرفته. لا يعطي سقراط إجابات عن الأسئلة، لكنه يكشف أن الإجابات التي تقدمها الشخصيات الأخرى ليست كافية؛ أي أنها لا تنتهي بحلول قاطعة. ومن هذه المحاورات:

1. دفاع سقراط (Apología Sōkrátous)

محاورة «دفاع سقراط» هي التي يسميها الفارابي «احتجاج سقراط»، وهي عدة مرافعات ألقاها سقراط أثناء محاكمته للدفاع عن نفسه. ويتخذ أفلاطون من إدانة سقراط قرينة لا تدحض على جور النظام الديمقراطي. وقد اشار ابن أبي أصيبعة لوجود ترجمة عربية قديمة لكنه لم يذكر اسم مترجمها. وتوجد لها عدة ترجمات عربية حديثة منها ترجمة زكي نجيب محمود عن الإنجليزية بعنوان «الدفاع» (1937)، وترجمة عزت قرني عن اليونانية (1973).

2. خارميدس (Charmídēs)

حوار حول ماهية الاعتدال والتبصر والتدبر مع خارميدس خال أفلاطون وأحد أعضاء حكومة الثلاثين، وكان أفلاطون ساخطًا على حكمهم. ترجمها شوقي تمراز بعنوان «كارمايديس».

3. أوطيفرون (Euthýphrōn)

وهي محاورة دارت بين سقراط قبل محاكمته ورجل دين يدعى أوطيفرون حول معنى التقوى والقداسة والفرق بين الأخلاق الدينية والأخلاق الفلسفية، وفيها يضج رجل الدين من الفيلسوف ويهرب منه! وتوجد لهذه المحاورة عدة ترجمات عربية حديثة منها ترجمة زكي نجيب محمود عن الإنجليزية (1937)، وعزت قرني عن اليونانية (1973).

4. أيون (Íōn)

محاورة قصيرة بين سقراط وراوي الملاحم (أيون)، وهي تهدف إلى وضع تفريق حاسم بين الشعر والعلم. وقد ترجمها محمد صقر خفاجة وسهير القلماوي بعنوان «أيون أو عن الإلياذة» (1956).

5. أقريطون (Krítōn)

«أقريطون» أو «قرايطون» كما عند القفطي، وهو حوار جرى في سجن سقراط قبل إعدامه بينه وبين تلميذه وصديقه أقريطون الذي عرض على سقراط الفرار وأنه سيتكفل بذلك وبتزويده بالمال اللازم للحياة في منفاه، ولكن سقراط رفض عرضه وقال إن الظلم لا ينبغي أن يجابه بالظلم وأن قوانين المدينة لابد وأن تحترم. فهي إذن محاورة عن الواجب وكأنها نوع من العقد الاجتماعي. ترجمها زكي نجيب محمود بعنوان «أقريطون أو واجب المواطن» (1937)، وترجمها عزت قرني عن اليونانية (1973).

6. لاخيس (Láchēs)

حوار حول تحديد مفهوم الشجاعة بين سقراط وعدد من الأتينيين أبرزهم الجنرال لاخس الذي عنون الحوار باسمه. وقد ترجمها شوقي تمراز في المجلد الثاني من «محاورات أفلاطون الكاملة»، وهي الترجمة التي سنخصص لها فقرة فيما بعد.

7. ليسيس (Lýsis)

حوار حول الصداقة ومن هو الصديق، وهو يدور بين سقراط وبعض الصبية أبرزهم ليسيس الذي حملت المحاورة اسمه. ترجمها شوقي تمراز بالعنوان نفسه.

8. بروتاجوراس (Prōtagóras)

حوار حول المعرفة والتربية وإمكانية تعلم الفضائل، يدور بين سقراط وشخصيات عديدة أبرزها السوفسطائي الشهير (بروتاجوراس) الذي جعل أفلاطون اسمه عنوانًا للمحاورة ربما لأنها تهتم بنقد النسبية الثقافية والأخلاقية لدى السفسطائيين. وقد ترجمها محمد كمال الدين عن الإنجليزية (1967)، كما ترجمها عزت قرني عن اليونانية بعنوان «في السفسطائيين والتربية، محاورة بروتاجوراس» (1982).