الاّن أصبح بإمكانك التخلص من كل الاّلام. مع هذا الجهاز الجديد ستذهب كل أوجاعك وستسري الدماء في جسمك بشكل أفضل. ليس هناك من مرض لا تستطيع علاجه. فقط جرب إلكتريت ولن تندم أبدا.

هكذا جمع شارلز كينت ثروته. في عام 1918 أعلن كينت عن جهاز إلكتريت Electreat الذي يستخدم الصدمات الكهربائية –الموجهة لأي عضو يرغب فيه المريض أو ذووه- في علاج كل الأمراض وتنشيط الدورة الدموية وتنشيط العضلات.

لم قد يرفض أحد ما تصديق أن الكهرباء تستطيع تنشيط سريان الدم في الجسم؟ ألا تقوم الكهرباء بتشغيل الأجهزة؟ ألا يشبه ذلك التنشيط؟ بالطبع سيقوم الجهاز بتنشيط الدم أيضا فيجري في أجسادنا. الأمر كله معقول للغاية. المشكلة الوحيدة هي أنه خاطئ.

بعد بيع ربع مليون جهاز كهربائي قامت الحكومة الأمريكية متمثلة في منظمة FDA بمقاضاة كينت ومنعه من بيع جهازه وتدمير ما بحوزته من منتجات. لم يكن الجهاز غير فعال، بل كانت فعالية عالية جدا، ولكن في إيقاف سريان الدم في العضلة البائسة محل العلاج. كانت الكهرباء توقف سريان الدم.

لم يدرك هؤلاء ربع مليون المستخدم لماذا لم يشعروا بأي تحسن رغم أن الفكرة بديهية تماما1.

Electreat, old science, bad science, mechanical heart
Electreat, old science, bad science, mechanical heart

تصميم العقل

كانت تلك حادثة متفائلة نوعا ما. في النهاية أقلع الناس –ولو كان إقلاعهم اضطراريا بسبب عدم وجود الجهاز في الأسواق- عن استخدام صدمات كهربائية لتنشيط دوراتهم الدموية وعلاج أي ألم. في حالات أخرى –وهي الأكثرية للأسف- لا يقبل الناس بتصحيح معلوماتهم. لا يستطيع البشر معظم الوقت تخيل سيناريوهات تناقض إحساسهم الداخلي حتى وإن زعموا.

إذا خير معظم البشر بين حدسهم وبين أي سيناريو علمي أو إحصائي، فإنهم سيميلون لحدسهم في معظم الأحيان.

لهذا الموقف تبعات كثيرة منها ما نتسبب فيه عمدا كإنكار العلم Science Denial، ومنها ما نمارسه دون قصد أو وعي منا كمواقف حياتنا اليومية المعارضة للعلم والإحصاء. كم منا يعتقد أثناء لعب ألعاب النرد كالطاولة أنه إذا رمى النرد بقوة أكبر فسيأتي رقم أكبر وإذا رماه بلطف فسيأتي رقم أصغر؟

إذا خير معظم البشر بين حدسهم وبين أي سيناريو علمي أو إحصائي، فإنهم سيميلون لحدسهم في معظم الأحيان.

هل تذكر منظورك وتفسيرك لما يحدث في العالم عندما كنت طفلا؟ لم تكن المدرسة قد علمتك أيا من النظريات العلمية التي تفسر العالم وكان لديك نظرياتك الخاصة. كنت تعتمد على «الحدس» النقي. ستعتقد أنه مع تقدمك في السن ستتغير الأمور، وهذا حقيقي، لكن الحدس سيظل هو المسيطر حسبما كانت خبراتك في الحياة. هكذا لا يتخلص الكثيرون منا من الميل الطفولي للنظريات غير الموثقة التي كونتها بديهتنا بشكل ما. عندما يصطدم العقل البشري بالواقع فإنه يميل لتصديق الأكثر اتفاقا مع حدسه وخبراته الشخصية المحدودة، لا الأكثر اتفاقا مع الأدلة.

لهذا هكذا كان من الصعب إقناع البشر بوجود الجراثيم أو أن الذرات حقيقية وليست مجرد تشبيهات. لا تتسق هذه النظريات مع حدسنا لأننا لم نرها. يصعب علينا كثيرا نحن البشر تخيل أن كائنات صغيرة للغاية تسكن طعامنا الذي يبدو نظيفا، وتقوم بإمراضنا نحن الكائنات الضخمة بالنسبة إليها.

ذكر جاليليو أن كل الحقائق يسهل فهمها إذا ما تم اكتشافها، وأن المهم هو أن يتم اكتشافها. جانب جاليليو الصواب في رأيه. كثيرة هي الحقائق العلمية التي تكتشف ويدلل عليها بالدليل الدامغ ويرفضها عامة الناس لمجرد أنها تتعارض مع حدسهم. هكذا أصبح لدينا جماعات ضخمة من ناكري العلم رغم دراستهم له في مراحل حياتهم. هؤلاء الذين ينكرون العلم تحت غطاء التشكيكية الشهير.

كيف يحدث هذا؟ ألسنا نعيش في عالم متقدم، حديث وعلمي؟ ألا يجب أن يتوارى الحدس ويبدأ البشر في الاعتماد على المنطق والعلوم؟


الطفل بداخلك

ها هو أيضا حدس خاطئ يظهر. إذا كانت البيئة تشجع على التطور فإننا نتطور بطبيعة الحال. حقيقة أن البيئة المشجعة لديها أثرها في تكوين عقل الإنسان إلا أن هذا التأثير يبدأ من طبقة في العقل لا يمكنه الوصول لأعمق منها، طبقة الحدس. كيف ذلك؟

تتكون انحيازاتنا ويتبلور حدسنا في سن مبكرة للغاية تبدأ منذ الميلاد. كأطفال، لا تتأثر معرفتنا بأي اختلاف في الهيكل المعرفي الذي يعيشه زماننا. إن أطفال القرون الوسطى وأطفال القرن الحادي والعشرين يعتقدون بثبات الأرض على حد سواء.

لا يمتلك الأطفال أيا من المعايير التي تتطور وتتغير تبعا لتطور وتغير العلم. في عالمهم لا يوجد أكثر مما هو أمامهم. لا توجد خبايا وراء ما يلمسونه ويسمعونه ويتذوقونه. بالتالي فإن تصورهم للعالم بشكل عام واحد. لا يبدأ الأمر في الاختلاف إلا عندما يبدأ الطفل بالتعلم عن طريق التلقين. حينها يكون حدسه قد تكون بالفعل ولم يبق إلا تحويره.

قد تحتج على الأمر بعلاقة الأطفال الحديثين بالأجهزة الإلكترونية. إذا نظرنا في الأمر نجد أن الأطفال باستطاعتهم تحريك كرة على شاشة جهاز لوحي Tablet لكنهم لا يملكون أي تفسير أو معنى لهذه الحركة. إذا توافر نفس الجهاز اللوحي لطفل القرون الوسطى في نفس السن لاستطاع أيضا تحريك الكرة بواسطة نفس المحاولات العابثة للطفل الحداثي.

في الحالتين لا يتعلم الطفلان أكثر من أن الكرة تتحرك. لا يفهم أي منهما شيئا ولو يسيرا من التقنية. ما إن يصل الطفل إلى مرحلة تعلم التقنية حتى يكون حدسه قد تم تكوينه بالفعل. لهذا نقول إن عقول البشر مبرمجة إلى حد كبير بما فيها من تحيزات وتصورات. ليست مستحيلة التغيير، لكنها تتطلب جهدا واعيا في تغييرها وقناعة حقيقية عميقة بوجود خطأ ما فيما يسمى «بالبديهة والحدس».

لا يتعلق الأمر بالأطفال فقط، تبدأ المعرفة كلها حدسية. نعم يمكننا أن نطلق على هذه الأمور غير الحقيقية كلمة معرفة. ألم تمثل منظورنا ورؤيتنا المبكرة لما يحيطنا من عالم ووجود؟ كانت إذن «بالنسبة إلينا» معرفة وقتها. عندما بدأ البشر في التساؤل حول تفسيرات لحوادث عالمهم وقاموا بوضع نظرياتهم الخاصة وحصلوا على إجابات تروقهم، أسموها معرفة.

كان سبب الخسوف هو أن ذئبا أو شيطانا في السماء يأكل القمر، وكانت الشمس تدور حول الأرض لأننا نرى الأرض ثابتة والشمس متحركة. كانت هذه دائما معرفة حدسية تكونت على حسب ما نرى بأعيننا وما نفهم دون تلقين من اّخرين أو دراسة أو نقد. كانت نابعة من كل فرد في ذاته وما عاشه. سارت هذه النظريات مع مبدأ السببية الكامن في عقولنا بانسجام أيضا.

كان لتلك النظريات عواقب ونتائج لابد أن تحدث، ولم تحدث. هل أثر ذلك في اقتناعنا؟ لم يفعل. كانت قناعاتنا قد تجذرت فينا بالفعل حتى أصبحنا عميانا عن تناقضها مع الواقع. هذا ما واجهه العلم دائما مع تطوره. كان العلم ينقد نفسه ويتطور في حين بقي الحدس في محله لا يريد أن يغير هندسة منطقته المريحة حتى وإن كانت على خطأ ظاهر لمن أراد أن يتفكر.


العلم يدفع الثمن

يأتي العلم ليكون الضحية الأكبر لهذه الانحيازات العقلية. قائمة طويلة من النظريات العلمية عانت من تشكيك الناس بها وعدم قبولها إياها حتى بعد تصديق المجتمع العلمي والتجربة عليها. يمكن أيضا وضع قائمة طويلة أخرى بكل ما يعتقد به الناس دون أن يكون له أي أساس من الصحة.

من ضمن هذه الأنساق صعبة الدحض في عقول الناس هي علاقة حياتنا وصحتنا بالطبيعة والصناعة. تسود قناعة عامة لدى الناس أن كل تعديل أو إضافة كيميائية لغذاء ما هي بالضرورة مضرة، وأن كل ما هو طبيعي مفيد. كذلك فإن العمليات الصناعية كالبسترة تقلل من فائدة الغذاء.

بالطبع يمكن النظر إلى أعداد الأطفال الذين فقدوا حيواتهم قبل البسترة وكيف انخفضت أعداد الأطفال ضحايا التسمم والعدوى البكتيرية المتلفة بعد تعميم معالجة الأطعمة والألبان بالبسترة. إلا أن هذا لا يهم الكثيرين، إن لديهم قناعات خاصة لا تصدق في الجراثيم عمليا، وتؤمن أن البسترة تعدٍ على الطبيعة.

لا يثق البشر ببساطة في العلم إذا تعارض مع حدسهم الداخلي. مع تطور إدراكنا لتعقيد العالم يظل الكثيرون يعيشون في كهف ما يسمونه «حياتهم البسيطة». في الواقع، كثير من ناكري العلوم قد تعرضوا للعلم ودرسوه بحيث تسقط فرضية ان ناكري العلم هم غير المتعلمين فقط.

بالطبع تتأثر عملية تكوين الحدس لاحقا في عمر الإنسان بثقافته. إلا أن التأثير يكون في معظم الأحيان –عدا الصادمة منها- تأثيرا تأكيديا. هكذا يصبح المتدين المقتنع بميكانيكية معينة للخلق أصعب في إقناعه بالتطور الطبيعي من غيره. ليس الدين فقط بل المواقف السياسية والظروف الثقافية تلعب دورا حرجا أيضا في إرساء المزيد من التأكيد على القناعات المكونة بالفعل لدى الكثيرين.


هل نيأس؟

قائمة طويلة من النظريات العلمية عانت من تشكيك الناس بها وعدم قبولها إياها حتى بعد تصديق المجتمع العلمي والتجربة عليها

بفضل التنوع الطبيعي في عقولنا وطبائعنا، يمكن القول بأن المشهد ليس قاتما للدرجة. في النهاية فإن لدينا بعض العقول التي تعتمد على النقد والفحص، والتي تستطيع أن تلاحظ الجديد عند حدوثه أو اكتشافه. لدينا بعض العقول المستعدة Prepared minds لخوض تجارب جديدة حتى مع رفض وتسفيه الاّخرين لهم.

لكن مع إدراك هذه النقاط، هل يصبح بإمكان المرء تمرين عقله على مناهضة الانحياز في ذاته؟

لحسن الحظ، يمكن تحقيق ذلك إلى حد ما. لا يوجد ما يسمى بالتحرر الكامل من الانحيازات العقلية، خاصة أن الحدس هو نفسه الذي يحدو بنا لمحاولة التخلص من الانحياز. كثير من المواقف التي نتخذها قد تنتج عن خطأ في المعلومات الواردة إلينا إلا أن علاج ذلك لا يتطلب مجهودات أكثر من مراجعة معلومات كل حين إذا أردت مخلصا ألا تقع فريسة انحيازاتك. لكن هذا ليس بتحدٍ.

يكمن التحدي الحقيقي في إتاحة السبيل لعقلنا ليمتص مفاهيم Concepts جديدة لم يعهدها. قد نستخدم مفاهيمنا القديمة في تكوين مفاهيم جديدة تستبدل بها مثل استخدام مفهوم القمر والإنسان لتخيل مشي الإنسان على القمر. لكن في أحيان أخرى سيتوجب علينا استخدام مخيلاتنا لتقبل مفاهيم لم نشهدها ولا مكوناتها من قبل. من الصعب تخيل الفيروسات الميتة مفيدة دون رؤية فيروس من قبل وبعد تعمق فكرتنا السلبية عن الفيروسات ككائنات ممرضة. مع هذا، يصبح علينا على الأقل السعي وراء تفهم قضية اللقاحات Vaccines من أدلتها على الأقل. هذا التغير المفاهيمي Conceptual Change هو ما يعد تحديا بالفعل2.

المراجع
  1. Linda Zimmermann-Bad Science: A Brief History of Bizarre Misconceptions, Totally Wrong Conclusions, and Incredibly Stupid Theories. P 10
  2. Andrew Shtulman-Scienceblind: Why Our Intuitive Theories About the World Are So Often Wrong – chapter 1,9,13