يمثل مرض السرطان، بأنواعه المختلفة، واحدًا من أكثر الأمراض التي تصيب الإنسان فتكًا. فتبعًا لتقرير منظمة الصحة العالمية، فقد تسبب السرطان في وفاة حوالي 8.2 مليون إنسان في عام 2012م، ووصل عدد الحالات التي تم تشخيصها بالسرطان في نفس العام حوالي 14 مليون حالة، وهو العدد المرشح للزيادة ليصل إلى 22 مليون حالة جديدة سنويًّا خلال العقدين القادمين (1).

كذلك يعتبر السرطان (بأنواعه المختلفة) ثاني أكبر مسبب للوفاة في العالم في عام 2004 تبعًا للتقرير الذي أصدرته جمعية السرطان الأمريكية بالتعاون مع الوكالة الدولية لبحوث السرطان (إحدى الهيئات التابعة لمنظمة الصحة العالمية) (2)، كما يعتبر ثاني أكبر مسبب للوفاة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2014 تبعًا لإحصائية مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) (3). يتسبب مرض السرطان أيضًا في تدهور حياة ملايين البشر المصابين به؛ مما يؤدي إلى نقص إنتاجيتهم ويضر باقتصاديات الدول بشكل مؤثر، حيث تسبب السرطان في فقد 196,3 مليون سنة من سنوات الحياة الصحية عام 2013م باستخدام مؤشر سنوات الحياة الصحية المفقودة (DALYs) (4) والذي يهتم بحساب العبء العام للمرض.

يعتقد البعض أن السرطان مرض مرتبط بالحضارة البشرية في طورها الحالي، ومنظومة العادات المرتبطة بها كنمط الغذاء (من حيث زيادة كميات البروتينات الحيوانية والدهون)، وبعض العادات الشائعة (كالتدخين على سبيل المثال) (5، 6)، ويدعمون نظريتهم بأن ما وصلنا من أخبار عن أمراض مشابهة للسرطان قليل جدًا، ولا يقترب من معدلات انتشار المرض الحالية. في المقابل، فإن العديد من العلماء والدارسين يعتقدون أن مرض السرطان مرض قديم، وأن الاختلاف في نسب الإصابة من الممكن تفسيره بأكثر من سبب يجعل الأمر منطقيًّا.

نحاول في مقالنا هنا أن نلقي الضوء على مزيد من المعلومات عن السرطان مما قد يساعدنا في فهم أفضل للمرض وتاريخه.


ما هو السرطان؟

لكل خلية في جسدنا البشري وظيفة معينة، وتقوم الخلايا الطبيعية بالانقسام بطريقة منظمة، وتموت حينما تتعرض للتلف أو ينقضي عمرها الافتراضي، ويحل محلها خلايا جديدة من نفس النوع. يحدث السرطان حين تبدأ الخلايا في النمو دون تحكم. وبذلك فإن السرطان هو نمو غير منتظم لبعض خلايا جسم الإنسان يتسبب في الورم السرطاني (في معظم أنواع السرطان، حيث أن بعض الأنواع لا يكون بها ورم مثل سرطان الدم). يقوم الورم السرطاني بمزاحمة الخلايا الطبيعية ومنافستها على الغذاء والموارد المتاحة مما يؤثر على وظيفة النسيج الحي. يمكن للسرطان أن يصيب أي نسيج حي، ولذلك فلا يعتبر السرطان مرضًا واحدًا، لكنه تصنيف يضم عددًا من الأمراض التي تتميز ببعض الخصائص المتشابهة. تصاب الخلايا البشرية بذلك الخلل الذي يسبب السرطان نتيجة تلف الحمض النووي، في معظم الأوقات تستطيع الخلايا إصلاح التلف الذي يصيب الحمض النووي الخاص بها من خلال وسائل دفاعية مختلفة، لكن الخلل الذي يؤدي لحدوث السرطان هو خلل غير قابل للإصلاح عن طريق الآليات الدفاعية للخلايا.

تستطيع بعض الخلايا السرطانية أن تنتشر من موضعها الأصلي إلى أماكن أخرى في الجسم لتتابع النمو والانقسام في ذلك المكان الجديد. يتم ذلك عن طريق النقيلات، ويظل السرطان المنتقل محتفظًا بخصائصه الأصلية بعد الانتقال. فعلى سبيل المثال، حين ينتقل سرطان الرئة إلى العظام، فإنه يظلّ محتفظًا بخصائصه الخلوية المميزة لسرطان الرئة، ولذلك تكون النقيلات مشابهة لمصدرها، وليس لوجهتها.

الأماكن الأكثر شيوعا لانتشار النقيلات
الأماكن الأكثر شيوعًا لانتشار النقيلات

كذلك تختلف أنواع السرطان بين بعضها البعض، حيث تنمو بعض أنواع السرطان بسرعة أكبر من غيرها. كما أنها تستجيب للعلاج بطرق مختلفة، حيث يستجيب بعضها بشكل أفضل للجراحة، بينما يستجيب بعضها بشكل أفضل للعلاج الكيميائي (7)، وغير ذلك من الاختلافات التي تميز بين أنواع السرطان المختلفة وتساعدنا على فهم المرض وعلاج المصابين.


ما هو أصل التسمية؟

يعود أصل تسمية المرض بالسرطان إلى الطبيب اليوناني أبُقراط الذي يعتبره كثيرون «أبو الطب الحديث»، حيث استخدم أبقراط الكلمة اليونانية «carcinos» والتي تعني الكائن البحري المسمى بالسرطان في وصف الأورام السرطانية، ومن ثمّ قام الطبيب الروماني سيلزوس بترجمة الكلمة إلى اللاتينية فأصبحت «Cancer». يُعتقد أن سبب التسمية هو أن طبيعة الأورام السرطانية التي تهاجم الأنسجة من حولها عن طريق زوائد تشبه الأصابع يستدعي للذهن شكل ذلك الكائن البحري الذي تحيط أرجله بجسده بشكل شبه دائريّ!. وقد استخدم الطبيب اليوناني جالينوس الكلمة اليونانية «Oncos» والتي تعني «تورم» في وصف تلك الأورام (8)، ولا يزال كلا الاسميْن مستخدمًا في عالم السرطان، حيث يستخدم تشبيه أبقراط في وصف المرض نفسه، بينما يستخدم لفظ جالينوس في الإشارة إلى العلم المختص بدراسة تلك الأورام «Oncology».

http://gty.im/165279303

على الرغم من أن أصل تسمية المرض ينسب إلى أبقراط، إلا أنه لم يكن أول من اكتشف ذلك المرض. حيث وجدت بعض أقدم الأدلة على مرض سرطان العظام في بعض المومياوات المصرية القديمة، وكذلك بعض المخطوطات القديمة التي تعود إلى حوالي 1600 سنة قبل الميلاد. كذلك قد سجلت أقدم حالة إصابة بمرض سرطان الثدي في مصر القديمة في العام 1500 قبل الميلاد تقريبًا، ومن المسجل أنه لم يكن هناك علاج للمرض. وتشير النقوش القديمة إلى أن الأورام السطحية كانت تتم إزالتها جراحيًّا بطرق مقاربة لما يتم في عصرنا الحالي (9).


كيف فسر العلماء المرض عبر التاريخ؟

عبر الزمان، تطور فهم البشر لمرض السرطان عبر عديد من المراحل لمحاولة فهم المرض ومن ثم إيجاد طريقة مناسبة للتعامل معه وعلاجه. ولذلك تم وضع العديد من النظريات لتفسير المرض، منها:

نظرية السوائل الجسدية

اعتقد أبقراط أن الجسم البشري يحتوي على أربعة سوائل أساسية هي: الدم، البلغم/النخامة، العصارة الصفراء، والعصارة السوداء. تبعًا لنظريته، فإن عدم الاتزان بين تلك السوائل الأربعة يؤدي إلى المرض، وبالأخص، فإن زيادة العصارة السوداء في أحد أعضاء الجسم تؤدي إلى الإصابة بالسرطان. كانت هذه هي النظرية الشائعة لتفسير مرض السرطان خلال العصور الوسطى ولأكثر من 1300 عام. كان تشريح الموتى خلال تلك الفترة ممنوعًا لأسباب دينية مما أدى إلى الحدّ من المعرفة المتاحة عن المرض بعدم القدرة على دراسة الأورام بعد وفاة المرضى (9).

نظرية السائل الليمفاوي

بدأت هيمنة نظرية السوائل الجسدية في التراجع مع ظهور عدد من النظريات حلّت محلها، ومنها نظرية السائل الليمفاوي التي نشأت عن ملاحظة رينيه ديكارت وجود ارتباط بين الجهاز الليمفاوي والسرطان، في تطور يعدّ تقدمًا ملحوظًا حيث أن السائل الليمفاوي موجود فعلًا ويمكن ملاحظته بعكس العصارة السوداء. حيث كان من المعتقد أن الحياة الطبيعية للإنسان تنتج عن الحركة المستمرة والمنتظمة للسوائل الجسدية داخل الجسم، وكان أهم تلك السوائل الدم والسائل الليمفاوي. وقد قام ستال و هوفمان بوضع نظريتهما التي تقول بأن السرطان ينتج عن تخمر السائل الليمفاوي، تلك النظرية التي لاقت قبولًا واسعًا وسريعًا، وأضاف الجراح الإسكتلندي جون هنتر أن الأورام تنشأ عن تخمر السائل الليمفاوي وتنتشر من خلال الدم (8).

نظرية البلاستيمة/المأرمة

مع تطور آليات الفحص بزيادة دقة العدسات المستخدمة في الميكروسكوبات المختلفة، استطاع العالم الألماني يوهانس مولر في عام 1838م إثبات أن النسيج السرطاني يتكون من خلايا وليس من السائل الليمفاوي. لكنه لم يعتقد بأن النسيج السرطاني ينتج عن تلف الخلايا العادية، مقترحًا أن النسيج السرطاني ناتج عن سائل بدائي يسمى البلاستيمة/المأرمة والذي يتدفق في جميع أنحاء الجسم. ولاحقًا قال تلميذه رودولف فيرشو أن جميع الخلايا (حتى الخلايا السرطانية) تنشأ عن خلايا سابقة لها (8) انطلاقًا من القول المأثور “Omnis cellula e cellula” والذي يعني أن كل خلية تنشأ من خلايا أخرى.

نظرية الإزعاج/التهييج المزمن

اقترح فيرشو أن الإزعاج/التهييج المستمر للخلايا هو سبب السرطان، لكنه اعتقد خاطئًا أن السرطان ينتقل وينتشر من موقعه الأصلي إلى الأماكن الأخرى عبر سوائل مرضيّة مرتبطة بالسرطان. وفي الستينات من القرن التاسع عشر أثبت الجراح الألماني كارل تيرش أن السرطان ينتشر عن طريق انتقال الخلايا السرطانية نفسها إلى أماكن أخرى، وليس من خلال بعض السوائل المرضية المجهولة المرتبطة بالمرض (8).

نظرية الصدمة/الإصابة

على الرغم من التقدم المستمر في فهم مرض السرطان خلال الفترة ما بين 1800م حتى 1920 م، إلا أن البعض ظل مقتنعًا أن الإصابات/الصدمات قادرة على التسبب بمرض السرطان، على الرغم من فشل التجارب في إحداث مرض السرطان في الحيوانات عن طريق تعريضها للصدمات والإصابات (8).

نظرية المرض المعدي

خلص اثنان من الأطباء في هولندا إلى أن مرض السرطان ينتقل بالعدوى (في بحثين منفصلين)، وكانت تلك الخلاصة ناتجة عن تجربتهما في ملاحظة انتشار سرطان الثدي بين أعضاء الأسرة الواحدة وقاما بنشر أبحاثهما عن كون السرطان مرضًا معديًا عامي 1649م و1652م مقترحين أن يتم عزل مرضى السرطان، ويفضّل أن يكون ذلك في أماكن خارج المدن لمنع انتشار المرض. كان العديد من الناس مقتنعين بأن مرض السرطان مرضٌ مُعدٍ خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، مما اضطر أول مستشفى لعلاج السرطان في فرنسا إلى الانتقال لموقع خارج المدينة عام 1779م حيث كان الناس يخشون انتشار السرطان في مدينتهم (8).

على الرغم من أن مرض السرطان نفسه غير معدٍ، فإننا حاليًا نعلم أن العدوى ببعض أنواع الفيروسات والبكتيريا والطفيليات المعينة قد يؤدي إلى زيادة احتمالية إصابة الفرد بالسرطان (8).

في النهاية فشلت كل تلك النظريات في تقديم أساس علمي حقيقي يمكن الاستناد عليه للتعامل مع المرض، ومن ثمّ استمرت جهود البشرية في بحث وتحليل أسباب المرض مما أدى إلى فهم أفضل للمرض وكيفية التعامل معه، وهو ما سنناقشه في مقالات لاحقة.