عبر طرق متباينة يتشاطر كل من وائل حلاق «الدولة المستحيلة»[1] ونوح فيلدمان «سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها»[2] فكرة أساسية حول الشريعة ودورها في المجتمع الإسلامي تاريخياً، وهي فكرة تساعد أيضاً في شرح الحيوية الدائمة لدعوة تطبيق الشريعة وكونها مثالاً حياً وملهماً للعديد من المسلمين في العالم.

تمتعت الشريعة بمجال مستقل ومحصن في مواجهة السلطان بفضل مصدرها الإلهي، ووجود طبقة اجتماعية (العلماء) تتولى القيام بأمرها.

الفكرة وبتبسيط شديد هي أن الشريعة تمتعت بمجال مستقل ومحصن في مواجهة السلطان بفضل مصدرها الإلهي ووجود طبقة اجتماعية (العلماء) تتولى القيام بأمر الشريعة، وهي طبقة مستقلة لحد ما عن السلطان في إدارتها لشؤونها، كما أنها تعود إلى قواعدها الخاصة فيما يتعلق بعملها المختص بتأويل الشريعة وتفسيرها. وبفضل هذا الاستقلال للشريعة فإنها قد نجحت في الحد من تغول السلطان والحكم بهواه.

الشريعة فرضت قدرًا من الضوابط على السلطان وعلى ما يمكن أن يقوم به. يمكن للسلطان أن يكون ظالماً أو أن يتدخل في شؤون العلماء عبر تعيين أحدهم قاضياً أو عزله، لكن هذا النفوذ في النهاية محدود بأنه لا يستطيع تغيير الشريعة أو تأويلها على هواه، وحدهم العلماء يملكون هذه الصلاحية وهم محكومون بقواعدهم الخاصة التي تضبط جودة وصلاحية عملهم. هذا الدور ستفقده الشريعة ابتداءً من الإصلاح العثماني وفي الدول الحديثة، كما ستتفكك طبقة العلماء وتفقد دورها ومكانتها الاجتماعية.

قدرة الشريعة على وضع حدود لسلطة السلطان (الدولة أو السلطة التنفيذية) من خلال تمتعها بمصدر إلهي وعبر وجود العلماء جعل منها فكرة ملهمة للمسلمين في مواجهة تغول الدولة من جهة ومثالاً يحتذى للعدل والحق. وانطلاقاً من هذه النقطة يبدأ الافتراق بين فيلدمان وحلاق، فالأخير يفهم الشريعة باعتبارها إطاراً أخلاقياً معارضاً للدولة بشكل لا يمكن تفاديه. التناقض بين الشريعة والدولة منغرس في أن الأخيرة تقوم على احتكار السيادة بينما تحيل الشريعة السيادة إلى الله وتمنعها عن الدولة.

بالنسبة لحلاق، تشكل الشريعة إطاراً أخلاقياً منغرسًا في بنية المجتمع الإسلامي عبر المؤسسات التعليمية والجوامع التي تنقل القيم الأخلاقية الناظمة للشريعة إلى المجتمع الذي يحيا الشريعة بشكل يومي ولا تمثل له شيئاً خارجياً أو مجرداً مثل القانون. بالمقابل يقابل فيلدمان الشريعة تحديداً مع القانون، وبشكل خاص مع الدستور الإنكليزي وهو كالشريعة ليس دستوراً مكتوباً، إنما دستور معاش، عرف قانوني. بالنسبة إليه الدعوة إلى الشريعة هي بجوهرها دعوة إلى سلطة القانون، إلى بناء سلطة تشريعية في مواجهة تغول السلطة التنفيذية للدولة الحديثة.

نقطة الاختلاف في النظر للشريعة بين حلاق وفيلدمان لها أثرها عما يتوقعه كل منهما بصدد إمكانات المشروع السياسي الإسلامي.

نقطة الاختلاف في النظر للشريعة بين حلاق وفيلدمان لها أثرها عما يتوقعه كل منهما بصدد إمكانات المشروع السياسي الإسلامي، الدولة الإسلامية. حلاق لا يعتقد بصلاحيته، وهو ما يعبر عنه عنوان الكتاب «الدولة المستحيلة»، للتعارض المبدئي بين الشريعة والدولة الحديثة بصدد السيادة، وهو ما يمكن رؤيته في تجارب الإسلاميين كما في إيران حيث انتهوا إلى خلق دولة ثيوقراطية، بالمقابل يبدي فيلدمان تفاؤلاً بصدد إمكانية ديمقراطية إسلامية، فبما أن الشريعة هي حكم القانون وتحقق بفضل استقلالها عن السلطان فصلاً للسلطات، فما على الإسلاميين إلا أن يتمثلوا هذا المبدأ وما يؤسسونه من خلال مؤسسات تصون هذا الفصل.

بفضل الأصل الإلهي للشريعة واستقلالها فإنها تنتزع مصدراً من مصادر السيادة العليا من السلطان وبهذا تشكل قيداً واحداً على السلطان مما يجعلها ملهمة للمسلمين الذين يعانون الأمرين من تغول السلطان وطغيانه. غير أنها وبسبب مصادرتها لهذا المصدر من السيادة تبدو لحلاق ممتنعه عن التعايش مع الدولة الحديثة، وبالنسبة لفيلدمان فإنها وتحديداً بفضل هذه المصادرة فإنها تفتح الباب للديمقراطية الإسلامية.

إن الإجابة على كيف سيحل المسلمون هذه الإشكالية رهن بالمستقبل وما يقومون به، غير أن جزءًا من الخلاف بين حلاق وفيلدمان يعود إلى اختلاف منظوريهما للسيادة والأخلاق، وهو ما يلحظه المرء من خلال انتمائهم إلى تقليدين مختلفين. ففيلدمان القانوني منخرط تمامًا في تقليد فصل السلطات، فيما ينخرط حلاق في تقليد النقد الأخلاقي للحداثة.

لجهة التجربة التاريخية للمجتمعات الإسلامية، فإنه من غير الممكن تجاوز البعد الأخلاقي فيما يتعلق بالشريعة باعتباره بعداً مؤسساً، فالشريعة ليست مجموعة قواعد وأحكام نخضع لها، إنما تقدم الإطار الأخلاقي الناظم الذي عاشه المسلم ونشأ عليه من خلال التعليم والجامع والتربية. الشريعة لم تكن غريبة أو خارجية عن مجتمعها، ولم تقم بأمرها مؤسسة مستقلة ومنفصلة عن المجتمع مثلما هو الحال مع الدولة الحديثة فيما يتعلق بإصدار القانون وتنفيذه. السؤال عما علينا أن نفعله في حال التناقض بين القانون الأخلاق (الضمير) سيكون عديم معنى في حالة الشريعة الإسلامية.

تعاني الدعوة إلى تطبيق الشريعة اليوم، تحديدا، من غياب هذا الإطار الأخلاقي الناظم لحياة المسلمين.

غير أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة اليوم تعاني تحديدًا من غياب هذا الإطار الأخلاقي الناظم لحياة المسلمين الذي قدمته الشريعة لقرون. مع هذا الغياب تُختزل الشريعة إلى مجرد أحكام وحدود، بحيث تكون خارجية عن المجتمع وتقوم بأمرها مؤسسة منفصلة عنه وحتى مستقلة عن ضميره الأخلاقي، مؤسسة تفرض هذه الأحكام عنوةً. لا تكون الشريعة هنا مساوية للقانون، بل أسوأ لأنها مرتبطة بمصدر إلهي يجعلها أو يجعل المتحدث باسمها خارج إطار النقد ومطلق الصلاحيات.

الشريعة دون بعدها الأخلاقي تنتهي إلى أسوأ الممكن، هذا ما يراه المرء في إيران وفي الدولة الإسلامية، حيث الشريعة مختزلة في حدود وأحكام يقوم على تنفيذها فقهاء منتظمون في مؤسسة تتبع الدولة لا المجتمع. أحكام تثير الغربة بقدر ما تثير الاستهجان، وهو ما يثيره أيضاً دعاة «تطبيق الشريعة» بدعوتهم لإعادة العمل بالنخاسة أو الرق لأنها موجودة بأحكام شرعية، أو حتى الدخول في تفاصيل طول الثوب وشكل الحجاب في غياب أي نقاش حول فكرة الفضيلة والأخلاق. الإصرار على تطبيق الشريعة دون استعادة الإطار الأخلاقي الذي عملت فيه، أي الإسلام كعالم معاش، سينتهي إلى صورة بائسة وأشد إرهاباً للدولة المعاصرة دون أن يحقق اليوتوبيا الإسلامية.

غير أن استعادة الإطار الأخلاقي للشريعة يستدعي طرح سؤال أساسي حول طبيعة الإلزام الأخلاقي. ما يعني في هذا النقاش تصورين للأخلاق، الأخلاق المتعالية وأخلاق الفضيلة. الأخلاق المتعالية «الحديثة» تفترض أن الأحكام الأخلاقية من طبيعة عقلانية يمكن إدراكها عبر إتباع قواعد مجردة وعقلية من قبل الإنسان، وهو هنا إنسان عام، عقلاني ومجرد عن أي سياق محلي. المبدأ الأخلاقي العام لكانط نموذج مثالي لهذا التصور الأخلاقي، على الإنسان أن يتصرف تبعاً للمبدأ الذي يريد له أن يكون قانوناً عاماً.

في المقابل تنتظم أخلاق الفضيلة[3] (أخلاق القدماء، بدءاً من اليونانيين وانتهاء بالإسلام) حول فضائل أساسية قد يكون مصدرها الطبيعة البشرية أو الله، والسلوك الأخلاقي المثالي هو الذي يحقق هذه الفضائل. تختلف أخلاق الفضيلة مع الأخلاق الحديثة حول إمكانية العقلنة الكلية للأحكام الأخلاقية وتأسيسها التام على العقل.

التباين بين الأخلاق المتعالية الحديثة، وأخلاق الفضيلة، يؤسس لاختلاف حول فهم المجالين الخاص والعام.

هذا التباين يؤسس لاختلاف حول فهم المجالين الخاص والعام، ففي حين أن الأخلاق الحديثة تجعل الفرد العقلاني هو الحكم الأخير على سلوكه، فإنها تمنحه دائرة مستقلة هي مجاله الخاص الذي يخرج عن دائرة الأخلاق. في المقابل فإن تنظيم الأخلاق حول فضائل أساسية، نتحصل عليها بواسطة التنشئة الاجتماعية، سيجعل من الفصل بين المجالين العام والخاص غير ذي معنى. مما يجعل أخلاق الفضيلة، وضمنها الأخلاق الإسلامية، تحكم كامل مجالات الحياة للفرد وتنظمها.

غياب هذا الإطار الأخلاقي في مجتمعاتنا المعاصرة وفهمنا المغاير للذات ومجالاتها مقارنة بالفهم الكلاسيكي للمجتمعات الإسلامية يفرضان تحدياً في مواجهة فكرة استعادة الشريعة. فقد تنتهي محاولة فرض إطار أخلاقي على المجتمع إلى استبداد أخلاقي لا يسنده اقتناع حقيقي، وينتهي المجتمع إلى أن يكون مرائياً في سلوكه الأخلاقي.

تقدم السعودية مثالاً مثيراً، فالشريعة تقوم مقام الدستور كما يتمتع العلماء باستقلال ما تجاه السلطة التنفيذية وخاصة فيما يتعلق بإدارتهم لشؤونهم، لكن أحداً لن يدعي أن السعودية مثال لفصل السلطات أو تقييد السلطان أو حتى تحقيق الحد الأدنى للحريات. في المقابل تقدم هيئة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» صورة عن الاستبداد الأخلاقي عبر فرضها الإلزامي للسلوك الأخلاقي الحميد وتدخلها في كافة مجالات الحياة وغياب أي مجال خاص للفرد.

ما يجعل من الشريعة مصدرًا لا ينضب للإلهام هو أنها تقدم لغة تتوسل الأخلاق وتفرض نظاماً قيمياً مستقلاً عن الدولة والسلطان وقادر على وضع حدود لسلطة السلطان يقيدها ويلجمها. وهذا تحديداً ما يستطيع الإسلاميون القيام به بأكبر قدر من النجاح بالمقارنة مع نظرائهم من التيارات السياسية الأخرى.

ففي مواجهة سلطان متوحش يفتقر بشكل كلي للأخلاق، فإن الشريعة قادرة على استعادة البعد الأخلاقي في مواجهته، شريعة لا يمكن له أن يردها إلى سلطته. استعادة البعد الأخلاقي في نقد السلطة ليس ابتعاداً عن السياسة، إنما توسيع دائرة السياسي وإخراجه من الدولة والمساهمة بإنهاء احتكارها للشأن العام وتقوية المجتمع في مواجهتها، المجتمع الذي هو مجال الشريعة وقيمها.

هل ينجح الإسلاميون في استعادة البعد الأخلاقي للشريعة وتقديم قراءة معاصرة للشريعة انطلاقاً من أسئلتنا الأخلاقية المعاصرة دون استنفاذ الشريعة في القانون، بما يسمح للشريعة في النهاية أن تحقق فصل السلطات وحكم القانون وضمان الحريات الأساسية؟ لا أحد يملك الإجابة، ولن يأتي الجواب على هذا السؤال إلا عبر الممارسة نفسها.


[3] لا أعتقد أن وائل حلاق مُحق باعتباره الأخلاق الإسلامية أخلاقًا متعاليةً لأن قيمها الناظمة ذات مصدر متعالٍ هو الله. الأخلاق الإسلامية مستمدة من فضائل نعرفها بفضل الوحي، وليس العقل أو باعتبارها مشتقة من قاعدة مجردة وعقلانية. وموضوعة العقلنة الكلية للأخلاق نقطة نقد أساسية لأحد أهم منظري أخلاق الفضيلة، ألسدير ماكنتاير، الذي يستدعيه وائل حلاق. فيما عدا موضوعة تصنيف الأخلاق الإسلامية، تبقى مناقشة حلاق للأخلاق الناظمة للشريعة متسقة تمامًا مع فكرة أخلاق الفضيلة، فأخلاق الشريعة تنظم كامل مجال الذات حول فضائل أساسية، وهذا يدعم أطروحته عن استحالة الدولة، التي تملك السيادة حتى في الفصل بين المجالين العام والخاص والذي يخضع تمامًا لتصور الفرد عن ذاته.
المراجع
  1. وائل حلاق: الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة: عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.
  2. نوح فيلدمان: سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها، ترجمة: الطاهر بوساحية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008.