«كل تاريخ هو تاريخ مُعاصِر»، قدَّم كروتشه هذه الفرضية بانيًا إياها على فرضية أن المؤرخ متى أراد التوجه نحو واقعة، أو حدث، ما في «الماضي» فهو يقوم بذلك ونظره على حاضره ومشكلاته. وبالتالي، فكل محاولة لإعادة قراءة، أو تأويل، وقائع/أحداث سالفة هي في القلب منها محاولة لفهم الحاضر نفسه [1]. من هذه الخلفية، يأتي كارل شميت في مقالٍ له تحت عُنوان «عصر التحيـيد واللاتسيـيس»، نُشر في عام 1929م لكي يؤكد أن «أوروبا الوسطى أصبحت تحيا تحت أعين الروس»، ويُكمل ليؤكد أنه حتى تُـفهم هذه اللحظة الحاضرة، يجب أن ينشأ وعي تاريخي بها، على ضوء فرضية كروتشه [2].


سُلطة الوضع الراهن

يفتتح شميت هذا المسعى بتشخيص للحالة التي سادت أوروبا منذ عام 1815م على أنها حالة «ترضى بشرعية الوضع الراهن» وترفض كل محاولة لإعادة تأصيل المعاني الإنسانية باعتبارها محاولة غير ذات جدوى إذا ما قُرِنَـت بالسياسات الداخلية والخارجية [3]. فكلما أنهى مفكر ما، أو مجموعة مفكرين، محاولة جادة لإعادة تأصيل فكرة أو مشروع ما، تكون في تلك الأثناء معطيات الوضع الراهن قد تغيرت بالكلية؛ مما يعني انفصالاً تامًا بين المحاولة ومتطلبات الوضع الراهن.

لفهم الوضع الراهن الذي عايشه شميت وألمانيا ككل، توجب عليه رسم صورة تاريخية «معاصرة» له فنجده يقول: «يمكن فقط فهم وضعنا الراهن إذا ما فُهِمت التطورات التي مر بها العقل الأوروبي في قرونه الأخيرة»[4]. وقدَّم شميت رؤية لحركة العقل الأوروبي في القرون الأربعة السابقة عليه: فقد انتقل العقل الأوروبي من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الميتافيزيقية في القرن السادس عشر، ثم انتقل منها إلى المرحلة الهيومانية الأخلاقية في القرن الثامن عشر، ثم انتقل منها إلى المرحلة الاقتصادية في القرن التاسع عشر.

ولتحليل هذه المراحل، قدم شميت فكرة «النطاق المركزي». تتلخص هذه الفكرة في وجود نطاق فكري مركزي تُفسَّـر بناءً عليه الأحداث والوقائع في مرحلة ما، وإذا ما حُلَّت مشاكله حُلَّ معها سائر المشاكل الثانوية.

كما يرى شميت أن المفاهيم والكلمات مفتوحة وتقبل دومًا معانيَ عدة، وبما أن النطاق المركزي هو الممول الأساسي لهذه المفاهيم، فإن المفهوم الواحد، كذا الكلمة الواحدة، يمكنه أن يأخذ معنى جديدًا مع كل إطار مركزي جديد. فمثلاً: في إطار النطاق اللاهوتي، نجد الزلزال يُفسَّر على أنه إشارة لتدخلِ إلهي يحمل رسالة معينة. أما في الإطار الاقتصادي، فالزلزال لا معنى كبير له، بخلاف الأزمة الاقتصادية التي تتطلب تفسيرات ومحاولات جادة للجواب عنها [5].

ويرى شميت أنه متى وجد أي فاعل نفسه غير قادر على فهم النطاق المركزي وكيفياته فهو يُعلن حياده التام؛ أي عدم القدرة على اتخاذ أي قرار فيما يخص السياسي؛ مما يعني أن الحياد دليل على عدم فهم النطاق. ولكن الغريب هو أن الدولة الليبرالية الناشئة في القرن العشرين أصبحت تتخذ من هذا الحياد رمزًا وسببًا لشرعية حكمها [6]. هنا، يرى شيمت أن هذا الوضع الغريب قد نتج مما أسماه بـ«عصر التقنية»[7]. فما عصر التقنية؟، ولماذا شاع فيه الحياد؟، وما تبعات هذا الحياد؟


عصر التقنية هو عصرٌ للحياد

مع كل انتقال من مرحلة إلى أخرى، كان يُحيَّـد النطاق السابق على المرحلة الجديدة. فمع تبلور العلوم الطبيعية في القرن السابع عشر، حُيّـد النطاق اللاهوتي الذي ساد القرن السادس عشر. وإذا عكست هذه النقلات شيئًا، فإنها تعكس بحثًا مضنيًا عن نطاق محايد تختفي معه كل الصراعات الدامية، ويمكن فيه التوصل لتوافق من خلال الحوار لا الاقتتال.

فالسبب وراء تحول أوروبا من النطاق اللاهوتي، في رأي شميت، هو الصراع الديني الدموي السائد في القرن السادس عشر؛ إذ دفع هذا الصراع العقل الأوروبي نحو البحث عن نطاق آخر يمكنه حل تلك المشاكل كي تتوقف الصراعات. وبهذا، فقد تحرك العقل الأوروبي نحو التحييد بُغية الوصول إلى الأمن. لكن، كل نطاق جديد كان يأتي هو الآخر بصراعاته وحروبه [8].

وقد ظُـنَّ في التقنية، التي انبثقت من رحم النطاق الاقتصادي، أنها «محايدة تمامًا نظرًا لأنها تخدم الجميع دون الحكم على أحد، كما أنها مؤسسة على «وقائع» لا تقبل خلافًا داميًا مما يضمن أن حلها مسألة بسيطة»[9]. هنا، يتدخل شميت لتوضيح أن التقنية وسيلة في حد ذاتها لا غاية؛ مما يجعل كونها تخدم الجميع سلاحًا في يد هذا الجميع. بالإضافة إلى أنها لا يمكن أن ينبثق عنها قرار واحد؛ لأن القرار تأخذه الأمم والشعوب؛ مما يعني أن التقنية ممكن استخدامها في السلم، كما الحرب [10].

وفي ظل هذا النطاق منزوع الغاية [11]، يُفسِّـر شميت الاهتمام بالوضع الراهن حصرًا وتهميش كل محاولات إعادة التأصيل اللذين سادا عصره: فأي محاولة للبحث عن «معنى» للأشياء هي بدورها محاولة للبحث عن «غاية» لتلك الأشياء، وبما أن سؤال الغاية قد حُـيِّـد، فلا معنى لأي محاولة تبحث عن معنى إذن.

وبما أن النطاق المركزي أصبح التقنية، فإن كل المفاهيم «الروحية» والوجودية ستصبح مفاهيم عدمية [12]. فقد ظهر عن التقنية بوصفها نطاقًا مركزيًا إيمان بأن هناك ثنائية جدلية بين «الموت» و«الحياة»، وبين «العضوي» و«الآلي»[13]. وهاتان الثنائيتان تنعكسان على تصوّر الإنسان لعدوه، فكما يقول شميت: «وحده من يعتبر الموت عدوه، ومن لا يرى في عدوه إلا آلة، هو الأقرب للموت من الحياة»[14]؛ أي: لأن نطاق التقنية نطاق محايد، فقد تحوَّل إلى نطاق جامد يُحيل كل التصورات، بما فيها تصور العدو، إلى حالة موات بدورها.


ويمكن أخيرًا جمع أجزاء ما أورده شميت. فقد بدأ شميت مسعاه بُغية التوصل لمعنى للوضع الراهن الذي ساد لحظته الحاضرة، فهل وصل بهذا التحليل إلى معنى لهذا الوضع، الذي عايشته ألمانيا عام 1929م، حقًا؟.

الجواب بالإيجاب. ففي إحدى الفقرات نجد شميت يقول إن: «التقنية قد وُضِعَت على الأرض الروسية بالفعل»[15]. وبالعودة لتأويله عن التقنية، وباستحضار المقولة الافتتاحية لمقاله التي تفيد بأن «أوروبا أصبحت تحيا تحت أعين الروس»، بالإضافة لمقولة أوردها تفيد بأن النطاق الاقتصادي -الذي هو مهاد التقنية- قد تبلور في روسيا السوفييتية بالفعل [16]، نستطيع القول بأن شميت أصبح يرى ألمانيا مهددة تهديدًا وجوديًا لأن عدوها، روسيا، أصبح أقرب إلى الموت منه إلى الحياة. وهذا الوصف بدوره يفتح الباب أمام شميت لتدشين مفهومه عن السياسي والذي يُعد لُب مشروعه النظري، لكن التعرض لهذا المفهوم وعلاقته الكلية بالتحييد واللاتسييس له موضع آخر.

فما يُهم هنا هو كيفية استحضار شميت للماضي حتى يفهم وضعه الراهن؛ فهو لم يتنصل من الماضي ليغرق في تفاصيل وضغوط الحاضر، كما أنه لم يرَ الماضي على أنه حالة من الثبات والانتهاء بحيث لا تملك شيئًا تقدمه للحاضر. بل على العكس، فقد استخلص من «الماضي»، لا بوصفه وقائع، وإنما أفكارًا تستطيع فك شيفرة الحاضر. ذلك الحاضر الذي استحال في قبضة التقنية إلى وضع خُـفِّـضَ فيه معنى الإنسانية إلى محض إجراءات لا تسأل عن الغايات؛ لا تسأل عن العادل والخيِّـر.


[1] Bendetto Croce, “Theory and History of Historiography”, Trans. Douglas Ainslie, (London: Ballantyne Press, 1921) p. 11 [2] Carl Schmitt, “Age of Neutralization and Depoliticization”, trans. Matthias Konzen and John McCormick, in “The Concept of the Political” Trans. George Schwab, (USA: University of Chicago Press, 2007), p. 80 [3] Ibid., p. 81 [4] Ibid.[5] Ibid., pp. 81-89 [6] Ibid, p. 88 [7] Ibid., p. 89: “The age of technology”.[8] Ibid., pp. 89,90 [9] Ibid., p. 90,91 [10] Ibid.[11] يرى ليو شتراوس أن أي حرب أو مناقشة جادة تدور حول العادل والخيِّـر، وحتى تُمنع الحروب والمناقشات الجادة يلزم منع سؤال الغاية، والتركيز مع الوسيلة فقط؛ مما يعني نزع إنسانية الإنسان عنه. Leo Strauss, “Notes on Carl Schmitt, the Concept of the political”, trans. Harvey Lomax, in The Concept of the Political” Trans. George Schwab, pp. 117,118 [12] Schmitt, “the age of neutralization”, pp. 92,93 [13] Ibid., p. 95 [14] Ibid.[15] Ibid., 81 [16] Ibid., 88