قبل القبض عليه لم يكن جوردن بيلفورت، البطل الحقيقي لقصة فيلم «The wolf Of Wall Street»، سوى رمز للطمع والجشع في السوق الأمريكية وبورصة وول ستريت، فكان الأكثر تربحًا من غسل الأموال والتلاعب في أوراق البورصة.

ولكن بعدما قُبض عليه وسُجن، سرعان ما تحول إلى كاتب أمريكي ملهم، وصارت كتبه الأكثر مبيعًا في أمريكا نفسها، فهل يمكننا تخيل تكرار هذه القصة ­­­مع بطل عالم تجارة السيارات اليوم في محنته؟


محاكمة مستر «Fix it»

قبل أيام كان كارلوسغصن، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة نيسان ورينو، أبرز الشخصيات في عالم تجارة السيارات، وشخصية خارقة على صفحات مجلات الرسوم المصورة؛ حتى تم اعتقاله في اليابان بعد اتهامه بالفساد المالي وإساءة التصرف، وبالتالي تم طرده من الشركة التي بناها، وظهرت على الشاشات فيديوهات لعملية اعتقال «المصلح» و«الإمبراطور» والنموذج المثالي الذي تداول العالم أخبار إنجازاته لسنوات.

بدأ غصن عمله بشركة رينو في التسعينيات، وسُمي بـ «قاتل التماسيح» بعد إعادته هيكلة الشركة الفرنسية جذريًا، واستمر ذلك حتى تعاونت شركتا رينو ونيسان عام 1999، في الوقت الذي كانت تتعرض فيه نيسان لأزمة إفلاس قوية، وتولى غصن حلها بأن باع أصول للشركة وسرّح 21 ألف موظف، وحقّق الأرباح، وبدأ في تكوين إمبراطورية على مدى 19 عامًا، جمع فيه مصنع أوتوفاز الروسي لصناعة السيارات، مع ميتسوبيشي؛ حتى أنه بحلول عام 2017 كان تحالف (نيسان، رينو، ميتسوبيشي) ثالث أكبر بائع للسيارات على مستوى العالم، لكن غصن اليوم يُعرِّض مستقبله المهني ومستقبل التحالف للخطر.

قالت شركةنيسان، في بيان لها، إن غصن استخدم أموال الشركة لأغراضه الشخصية، وتهرب من الضرائب وارتكب أفعالًا خطيرة وسلوكيات خاطئة أخرى تضمنت الكذب والغش في تقارير الأوراق المالية للشركة والاحتيال من أجل راتبه الذي لم يقدم عنه بيانات صحيحة.

وقد جاء ذلك في إطار مسعى نيسان لفرض مزيد من النفوذ في تحالفها مع شركة رينو، باعتبار أن الهيكل الحالي للتحالف لا يعكس بشكل كاف حجم ومبيعات نيسان في السوق العالمي. ولكن دفع ما حدث لغصن بمطالبة الحكومتين الفرنسية واليابانية التحالف بضرورة الاستقرار، ليضع بذلك غصن التحالف الذي شكله وحده على شفا حفرة الإفلاس بعد انتشار نبأ اعتقاله.


من أين حل علينا «غصن» المدير؟

يعاني الاقتصاد العالمي من أسوأ تباطؤ في معدلات النمو، وأشار مراقبون كثيرون إلى أن سبب ذلك هو الدور الحاسم الذي يلعبه الجشع المطلق لدى مديري المؤسسات التجارية والمالية العملاقة.

يعود بنا ذلك إلى بداية القرن العشرين، وظهور الحاجة إلى أشخاص كالمحاسب والمُسوِّق والمُستثمِر مع سلع غير نمطية كالخدمات، حتى أصبحت الصناعة الحديثة تسعى خلف خبرات فنية وإدارية لم نعرف بها من قبل، وباتت لا تحتاج إلى نفس العدد من طبقة العمال، في مقابل تشكيل طبقة جديدة مُفكِّرة وأكثر أهمية، وهي طبقةالمديرين والفنيين.

بالفعل، ومع الوقت، أصبح المجتمع الصناعي الحديث خاضعًا لسيطرة فئة «المديرين» بدرجة أكبر مما اعتقد الاقتصاديون، وبدأوا في تجاوز أدوار أصحاب رؤوس الأموال، وانفصلت الإدارة عن الملكية، وتصدّر المديرون المجتمع الصناعي باتخاذهم أهم القرارات الاستثمارية وتوجيههم دفة الصناعة، ومع الوقت أصبح أشخاص مثل غصن أهم من حملة الأسهم؛ حتى وإن كان غص أذكى من غيره؛ فقد اكتسب شهرة ووضع خططًا صارمة لمصلحة الشركة ومصلحته الشخصية.

ظهرت الاختلافات بين رغبات صاحب رأس المال -أو الرأسمالي- والمدير؛ فالرأسمالي يسعى لمضاعفة الأرباح، باعتبارها الباعث الرئيسي على الإنتاج الرأسمالي، أما المدير فيسعى لأكثر من هذا، هو يسعى لتوسعة المشروع وزيادة نموه، فمصلحته الوحيدة تكمن في استمرار المشروع واستمرار الحاجة إليه أكثر من زيادة الأرباح لصالح صاحب رأس المال، ويشبِّه عالم الاقتصاد والفيلسوف آدم سميث هذه الرابطة في كتابه «ثروة الأمم»، فيقول:


الأزمة الاقتصادية العالمية واليد الخفية

وقعت الأزمةالاقتصاديةالعالمية عام 2008، فهددت المؤسسات المالية الكبرى في أكبر اقتصاديات العالم، ما هدد -بشكل مباشر- الاستقرار المالي والاقتصادي العالمي، وغشي شبح الإفلاس المؤسسات المالية.

ولكن في نفس الوقت كشفت هذه الأزمة القاسية عن مصالح فئةالمديرين التي تقع في بقعة خفية وبعيدة تمامًا عن مصلحة الاقتصاد وأصحاب رؤوس الأموال والموظفين أيضًا؛ فقد ظهر حجم الدخل الذي يحققه مديرو البنوك والمؤسسات المالية العملاقة إلى جانب المكافآت والحوافز ومزايا نهاية الخدمة. ولإدراك الأمر، فإن رئيس مجلس إدارة تويوتا -كمثال- تقاضى 181 مليون ين ياباني عن عام 2017، في حين حصل غصن على 735 مليون ين ياباني. وهو الفارق الذي يتسبب الآن في أزمة أكبر من سلوكياته المخادعة، فقد جعل راتب غصن المديرين التنفيذيين اليابانيين أكثر غضبًا للتفرقة الكبيرة بينهم وبين الأمريكيين، دون النظر إلى أن هذا الفارق سبب في مشاكل أخرى أودت بمستقبله ومستقبل «شركته».

تم تقدير ما حصلت عليه فئة المديرين في المؤسسات الأمريكية الكبرى تحت مسميات مختلفة في الخمس السنوات السابقة على حدوث الأزمة الاقتصادية بين 32:38% من مجموع أرباح المؤسسة التي يعملون لديها، أي أكثر من ثلث الأرباح الأمريكية السنوية؛ ليتحمل أصحاب الشركات من حملة الأسهم هذه الأجور المبالغ فيها بجانب تحملهم وحدهم للخسارة بالنهاية؛ فلم يخسر المديرون شيئًا في هذه الموجة بل من كان منهم مديرًا لبنك أو مؤسسة تمويلية كان هو الناجي الوحيد.

كانت أقسى الأمثلة على قلب كل مستثمر متضرر من الأزمة العالمية هو ريتشاردفولد رئيس بنك ليمان برازرز قبل إفلاسه، والذي يعد أكبر إفلاس مصرفي، حيث تبين في جلسة استماع عقدها الكونجرس أن فولد قد حصل على حوافز قدرها 22 مليون دولار في شهر مارس/آذار 2008، أي قبل إعلان إفلاس البنك بستة أشهر فقط، في حين كان مجموع ما حصل عليه من مكافآت في خمس سنوات سبقت إعلان الإفلاس كان 482 مليون دولار.

كان لانهيار ليمانبرازرز دور في الأزمة الاقتصادية العالمية، وتأثر بإفلاسه نحو 50 ألف مستثمر ومودع قاموا بشراء شهادات إيداع من الفرع الهولندي للبنك لتضيع أموالهم ومعهم المستهلكون والمدخرون، وجميعهم مازالوا يدفعون تكلفة شرائه سندات بيعت لهم بصفة آمنة. ولكن هل تعرف من هو الرابح في النهاية؟

الرابح هو الرئيس السابق لبنك ليمان برازرز، ريتشارد فولد، والذي يستكمل مسيرته المهنية بالعمل لدى شركة «ماتريكس برايفات كابيتال» للمشورة المالية.

من الواضح أن الدرس لم يتم هضمه جيدًا، وذلك لأسباب أخرى يفرضها الواقع؛ حيث تُكافئ المؤسسات الخاطئ من أموال دافعي الضرائب، ومثال على ذلك ما قامت به «وول ستريت» حينما قامت بمكافأة المديرين والعاملين بجملة 18 مليار دولار، وذلك رغم حصولها على إعانة حكومية في سبيل خطة للإنقاذ.

وكانت هذه المفاجأة سببًا في فرض الرئيس الأمريكي السابق باراكأوباما لحد أقصى يبلغ نصف مليون دولار كراتب سنوي للمديرين التنفيذيين في البنوك والمؤسسات المالية التي حصلت على دعم حكومي، وذلك خلال خطته السابقة لدعم استقرار النظام المالي الأمريكي، ولكن دون ضمانات كافية لمنع هؤلاء المديرين من اتباع طرق ملتوية واستغلال دعم الحكومة المالي.


متى نرى «غصن» ثانية؟

ليس بفضل كرم الجزار أو صانع الجعة أو الخباز نجد عشاءنا، وإنما يتحقق ذلك نتيجة سعيهم لمصالحهم الشخصية. فنحن في هذا لا نستثير إنسانيتهم بقدر ما نحرك أنانيتهم.

لم يكن غصن يومًا مديرًا سهلًا، غير أنه اهتم ببسط شخصيته في سير ذاتية وروايات مكتوبة ومصورة، غير أنه كان الرجل الذي أعدت كليات إدارة الأعمال مناهجها على أساس منهجه في الإدارة، حيث تمكن من الجمع بين شركتين كبيرتين جدًّا في عالمالسيارات ليقف على الضفة الثانية من عمليات الاندماج الفاشلة، مثل استحواذ شركة بي إم دبليو على شركة روفر، واستحواذ دايملر على كرايسلر، بالإضافة إلى عدم قدرة فورد نفسها على استيعاب عمليات استحواذها على جاكوار وفولفو.

كل ذلك يجعل من احتمالية عودة غصن قوية، سواء إداريًا أو كاتبًا مثل «بيلفورت وول ستريت»، ولكن ليس قبل أن يعطي درسًا المديرين التنفيذيين الآخرين الذين يعملون على تعتيم الخطوط الفاصلة بين أصول الشركة وامتيازات موقعهم وثروتهم الشخصية.

هذه ليست أولى المشكلات التي يتعرض لها غصن، فقد نجح في المرور من بين الكيانات الضخمة المنهارة في الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008، ثم قضية التجسس الصناعي للصين على شركة رينو عام 2010، وتبعه زلزال وتسونامي ياباني عام 2011؛ ولكن الأزمة اليوم أخلاقية تمامًا.

فقد كان راتب غصن المقرر عن عام 2017، وهو آخر مرتب تقاضاه، يبلغ 7.4 مليون يورو، ولكن ما حصل عليه كان 9.2 مليون يورو في سنته النهائية كرئيس تنفيذي لشركة نيسان، في حين تحصل غصن على نحو 89 مليون دولار من منصبه خلال خمس سنوات بالتآمر على أصحاب الأسهم في الشركة، وهو ما كشف عنه المدعونالعاموناليابانيون.