||ومن العجائب أن يغبى بعض المحدثين أحيانا عن الفرق بين “السنة” و”الحديث” في عرف الصحابة الموافق لأصل اللغة. وليس لنا أن نلوم ذلك المستشرق الفرنسي الذي قال لي مرة: الصحابة يقدمون الأحاديث على القرآن. وذكر لي قول علي لابن عباس. فقلت له: إنه لا يعني بالسنة الأحاديث، وإنما السنة الطريقة المتبعة بالعمل||

محمد رشيد رضا (المنار، 10/ 853)

*****

حظيت السنة بمنزلة كبرى عند المسلمين حتى كادت ترتفع إلى مكانة القرآن وتوازيه، خاصة عند السواد الأعظم منهم، أي أهل السنة والجماعة، حتى قال يحيى بن أبي كثير (من علماء اليمامة، ت: 129هـ): السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة. وقال أحمد بن حنبل: لا أجسر على أن أقول هذا، ولكن أقول: السنة تفسر الكتاب وتبينه. وصحيحا البخاري ومسلم هما أجل جوامع السنة؛ إذ اشترطا على نفسيهما على ألا يخرجا إلا الصحيح على قانون علوم الحديث، فجاء كتاباهما في الذروة بين جوامع السنة وتلقتهما الأمة بالقبول.

إلا أن كتابي البخاري ومسلم لم يزالا يتعرضان للنقد على مدى التاريخ، نقدا يتراوح بين الدراسة العلمية والخطاب الفكري الساخط عليهما، ويتراوح كذلك في شدته بين نقد أحرف يسيرة فيهما وبين إسقاط قيمة الكتابين أو المطالبة بسحب تلك القيمة الكبيرة التي منحها الكتابان. نذكر في هذا التقرير أبرز تلك المحاولات النقدية ونصنفها بين ثلاثة أنواع: النقد السلفي، والنقد الشيعي، والنقد التجديدي.

أولا: النقد السلفي

لا يعرف كثيرون أن الصحيحين قد تعرضا لنقد من علماء الحديث الكبار في الأزمنة اللاحقة عليهما مباشرة، فعلى الرغم من أن بعض العلماء (كالإسفرائيني وهو فقيه شافعي ت: 418هـ، والدهلوي وهو عالم هندي ت: 1176هـ) قد تسرع في نقل الإجماع على أن كل ما في الصحيحين من الأحاديث الموصولة (يعني التي اتصلت سلسلة الرواة فيها بين صاحب الكتاب وبين من نسب إليه الحديث) المرفوعة (أي التي نسبت أو رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم تنسب أو تقف عند أحد الصحابة رضي الله عنهم أو التابعين) صحيح ثابت؛ إلا أن المختصين لم يزالوا يقرون بأن في الكتابين ما ينتقد وإن كان قليلا. ولا نعني مع ذلك بالنقد السلفي النقد الذي وجهه الأسلاف وحدهم وإنما نعني كذلك النقد الذي وجهه من سار على دربهم وإن كان من المعاصرين.

لكن النقد السلفي قد اتسم مع ذلك بتحفظ كبير. يقول ابن الصلاح (جامع علوم الحديث وأول من دونها، ت: 643هـ):

||ما تفرّد به البخاريُّ أو مسلمٌ مندرجٌ في قَبيلِ ما يُقْطَعُ بصحته، لتلقّي الأمّةِ كل واحدٍ من كتابيهما بالقبول، على الوجه الذي فصّلناه من حالِهما فيما سبق. سوى أحرفٍ يسيرةٍ تكلّم عليها بعضُ أهلِ النقدِ من الحُفّاظِ كالدارَقَطْني وغيرِه. وهي معروفةٌ عند أهل هذا الشأن||

وسنقف هنا عند أبرز محاولتين لنقد الصحيحين في السياق السلفي كما بينا، الأولى لواحد من أئمة السلف القدامى وهو الحافظ الدارقطني، والآخر لواحد ممن التزم منهجهم وهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.

(1) كتاب “الإلزام والتتبع” للدارقطني:

الدارقطني هو أبو الحسن علي بن عمر، ولد بدار القطن-بغداد سنة 306هـ وبرع في علوم الحديث خاصة، وتوفي سنة 385. صنف في نقد كتابي البخاري ومسلم، كتاب “الإلزام والتتبع” الذي طبعته دار الكتب العلمية ببيروت حديثا بتحقيق الشيخ مقبل بن هادي الوادعي حيث يركز على العلل التي ترد على بعض أحاديث البخاري ومسلم وتصل في كتابه إلى حوالي مائتي حديث.

وقد تكفل الحافظ ابن حجر العسقلاني (إمام علوم الحديث الكبير وشارح البخاري، وهو مصري، ت: 852هـ) بالإجابة التفصيلية عن الاعتراضات التي وردت على أحاديث البخاري في كتابه “هدي الساري” الذي جعله مقدمة لشرحه لصحيح البخاري الذي أسماه “فتح الباري”. فقد عد ابن حجر ما انتقد على البخاري من الأحاديث فوجده 110 من الأحاديث، اشترك مسلم معه في رواية 32 منها. هذا من أصل 2602 حديث في البخاري بعد حذف المكرر (لأن البخاري كان قد يجزئ الحديث أو يكرره تحت الأبواب المختلفة الموضوعية في كتابه) والمعلق (التي لم يروها بسلسلة من الرواة وإنما ذكرها عن قائلها مباشر كأن يقول: قال فلان).

وقد صنف كذلك أبو مسعود الدمشقي (من علماء الحديث، ت: 401هـ) “الإجابة عما أشكل الدارقطني على صحيح مسلم”، وطبعته دار الوراق بتحقيق إبراهيم آل كليب.

(2) نقد الألباني:

الألباني هو الشيخ محمد ناصر الدين بن نوح (1914 – 1999م) هو أشهر المتخصصين المعاصرين في علوم الحديث. ولد بألبانيا واستوطن سوريا ثم انتقل إلى الأردن وقضى فيها باقي حياته بعد هزيمة 1967 م التي تخللتها زيارات لدول كثيرة؛ وله منزلة كبرى عند السلفيين المعاصرين.

وفي إطار مشروعه الضخم في دراسة السنة وتقريبها، تعرض الألباني بالنقد لبعض أحاديث الصحيحين، لكنه لم يفرد لها دراسة حيث يقول:

||الإمام البخاري والإمام مسلم قد قاما بواجب تنقية هذه الأحاديث التي أودعوها في الصحيحين من مئات الألوف من الأحاديث، هذا جهد عظيم جداً جداً. ولذلك فليس من العلم وليس من الحكمة في شيء أن أتوجه أنا إلى نقد الصحيحين وأدع الأحاديث الموجودة في السنن الأربعة وغيرها غير معروف صحيحها من ضعيفها. لكن في أثناء البحث العلمي تمر معي بعض الأحاديث في الصحيحين أو في أحدهما، فينكشف لي أن هناك بعض الأحاديث الضعيفة! لكن من كان في ريب مما أحكم أنا على بعض الأحاديث فليعد إلى (فتح الباري) فسيجد هناك أشياء كثيرة، وكثيرة جداً، ينتقدها الحافظ أحمد ابن حجر العسقلاني|| (فتاوى الشيخ الألباني، ص526، جمع عكاشة الطيبي)

ومع ذلك فقد تعرض الألباني بسبب ذلك إلى هجوم شديد، وإن كانت تلوح منه رائحة المناكفة المذهبية بين علماء الحديث السلفيين وعلماء الحديث الأشاعرة في القرن المنصرم. فقد تصدى محمود سعيد أستاذ علوم الحديث المصري لنقد الألباني لبعض أحاديث مسلم فكتب “تنبيه المسلم إلى تعدي الألباني على صحيح مسلم”، وقد رد عليه كذلك باحث مصري سلفي هو طارق عوض الله بكتابه “ردع الجاني المعتدي على الألباني”.

خصائص النقد السلفي للصحيحين:

اتسم النقد السلفي للصحيحين مع ذلك بمجموعة من السمات تجعل منه نقدا متحفظا لا يمس مكانة الصحيحين ولا يرمي إلى تحقيق خطوات واسعة في التجديد بعيدا عن المسار السلفي لعلوم الحديث والدين، فمن خصائصه:

1- نقد عملي لا نظري: لم يتجاوز النقد السلفي الجانب العملي إلى النقد النظري لقواعد علوم الحديث التقليدية بل التزمها.

2- نقد فني لا فكري: توجه النقد السلفي إلى الجانب الفني في علوم الحديث في الصحيحين دون أن يعني ذلك عند هؤلاء النقاد أثرا كبيرا لما انتقدوه على علوم الدين والفقه الإسلاميين.

3- نقد سندي لا متني: توجه النقد بالأساس إلى علل الأسانيد، وحتى عندما كان يصل النقد إلى المتن فإنه كان غالبا لترجيح لفظ على لفظ لا لرد المتن بسبب معارضته للقرآن أو للعقل أو للفطرة السليمة، اللهم إلا في أحاديث معدودة كحديث عمرو بن ميمون في أنه رأى حد الرجم عند القردة، وقد روى البخاري ذلك، وأنكر القصة ابن عبد البر والألباني من المعاصرين، وحديث تميم الداري في أنه التقى الدجال والمعروف بحديث الجساسة (انظر: منهج نقد المتون عند علماء الحديث النبوي، د. صلاح الأدلبي).

ثانيا: النقد الشيعي

توجه بعض علماء الشيعة إلى البخاري بالنقد باعتباره أهم مراجع الحديث عند السنة، وهو [أي الحديث] المجال الذي يقع فيه خاصة النزاع بين السنة والشيعة. فقد صنف الميرزا فتح الله بن محمد جواد الإصبهاني (ت: 1339هـ) كتابا سمي “القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع” نشرته مؤسسة الإمام الصادق بقم-إيران، وقدم له: الشيخ جعفر السبحاني. ويركز النقد الشيعي للبخاري على أمرين:

1- الأثر السياسي والأيديولوجي لسنية البخاري على روايته لمناقب أهل البيت، وبذلك يكون النقد الشيعي سابقا للنقد التجديدي في إثارة تلك النقطة.

2- نقد ما في بعض أحاديث البخاري مما يخالف عقائد الشيعة بخصوص الذات الإلهية وما يجوز أن تتصف به وما لا يجوز.

ولجعفر السبحاني المرجع الشيعي الإيراني المعاصر، كتاب “الحديث النبوي بين الرواية والدراية” وهو دراسة لحديث أربعين من الصحابة رضي الله عنهم. يقترب الكتاب كثيرا من النقد التجديدي حيث يركز على نقد المتون في ضوء القرآن والعقل، لكن الأثر المذهبي يظهر في تركيز المؤلف على المراجع السنية دون نظيراتها الشيعية دون أي مبرر علمي.

ثالثا: النقد التجديدي

نعني بالنقد التجديدي النقد الذي يوجهه بعض المعاصرين لأحاديث صحيحة على قانون علوم الحديث التقليدي، خاصة أحاديث البخاري ومسلم، في إطار مطالبة بمراجعة شاملة لتراث الإسلام. وهو نقد، على خلاف النقد السلفي، يتسم بأنه:

1- نقد نظري: يطال النقد التجديدي الأسس النظرية لعلوم الحديث، بل إنه يطالب بمراجعة مفهوم السنة نفسه، ويتبنى أسسا متغايرة من أبرزها:

أ- نفي القول بعدالة الصحابة قاطبة، حيث يطالب النقد بالتعامل مع الصحابة باعتبارهم رواة كسائر رواة السند، يتفاوتون في الأمانة كما في الضبط. فيبرز لذلك نقد الصحابي المكثر من الرواية أبي هريرة كما نرى في كتاب “أبو هريرة شيخ المضيرة” لمحمود أبورية، و”أكثر أبو هريرة” لمصطفى بوهندي.

ب- يطالب النقد التجديدي باستخدام أدوات النقد التاريخي، أي اعتبار الظروف السياسية والفكرية لرواة الحديث قبل الحكم عليه بناء على موقف أصلي منهم باعتبارهم ثقات أو حفاظ.

2- نقد فكري: يرى النقاد التجديديون أن السنة قد لحقها تضخم، فزاد حجمها لأسباب تاريخية وأصولية استدعت من العلماء التوسع في تدوينها وطلبها دون تمحيص كاف لأنه تم بأدوات ناقصة تعرضت هي نفسها لضغوط الظرف السياسي والفكري. إضافة إلى رفع تلك المرويات المجموعة إلى منزلة القرآن (انظر مثلا: إعمال العقل، لؤي صافي – السلطة في الإسلام، عبد الجواد ياسين – من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، جورج طرابيشي).

3- نقد المتون: يرى النقاد التجديديون كذلك أن الموقف السلفي النظري بأن متن الحديث يرد إذا عارض القرآن أو العقل الصريح فإنه يرد بذلك، لم يفعل بل وضرب حول تفعيله حصار سلطوي، باعتبار من يطبقه مبتدعا أو نحو ذلك.

سوابق النقد التجديدي:

يمكن النظر إلى موقف بعض الفرق الإسلامية كالخوارج والمعتزلة من السنة النبوية، باعتبارها قريبة من الموقف التجديدي، من حيث ردها بعض الأحاديث التي رأت أنها تعارض القرآن، ورفضها الاحتجاج أحيانا بأخبار الآحاد (أي التي لم يروها سوى الواحد أو العدد القليل). كما أن النقد الاستشراقي للسنة والذي بلغ ذروته في كتاب المستشرق المجري جولدتسهير “العقيدة والشريعة في الإسلام” للسنة باعتبارها آثارا للعقل الإسلامي بعد نضجه تمت نسبتها إلى السنة (وقد رد عليه العالم السوري مصطفى السباعي في كتابه “السنة ومنزلتها في التشريع الإسلامي”)، يشبه النقد الذي وجهه بعض التجديديون باعتبار كثير من نصوص السنة مواقف فكرية وسياسية وفقهية لاحقة تم تحويلها إلى نصوص نبوية، وهي العملية التي يسميها عبد الجواد ياسين “التنصيص”.

مستويات النقد التجديدي:

يتراوح النقد التجديدي للسنة بين مستويات ثلاثة:

المستوى الأول: هو موقف المفكرين التحديثيين الذين درسوا العلوم الإنسانية الغربية الحديثة وتأثروا بقيمها وأدواتها؛ فهم ينظرون إلى التراث باعتباره منتجا إنسانيا ينبغي إخضاعه لتلك العلوم. ويعتبر المفكر المغربي محمد عابد الجابري أبرز ممثلي ذلك الاتجاه. ولا يزال هذا الموقف حبيس التأسيس النظري الذي لا يقدم على المستوى التفصيلي سوى ملاحظات علمية متفرقة دون تقديم دراسات تطبيقية شاملة إلا في حالات قليلة، كمحاولة الجابري كتابة تفسير جديد للقرآن. وهو الموقف الذي يمتد إلى جذور خطاب النهضة العربية عند الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا اللذين وجها نقدهما إلى بعض أحاديث البخاري خلال تفسيرهما الشهير “تفسير المنار” (انظر: آراء محمد رشيد رضا في قضايا السنة النبوية، محمد رمضاني، مجلة البيان، 1434هـ). ومن بين الأعمال البارزة عن السنة في هذا المستوى: كتاب “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية” لنصر حامد أبو زيد، وكتاب جورج طرابيشي “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”، وكتاب “السلطة في الإسلام” لعبد الجواد ياسين.

المستوى الثاني: هو محاولة بعض الباحثين المختصين في العلوم الدينية أو المهتمين بها تجديد النظر في علوم الحديث باتخاذ مواقف جريئة، نذكر من أبرز تلك المحاولات:

1- محاولة الشيخ الأزهري محمود أبورية في كتابه “أضواء على السنة النبوية” والتي أثنى عليها الدكتور طه حسين والتي ووجهت بنقد شديد من الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه “دفاع عن السنة النبوية”.

2- محاولة الشيخ محمد الغزالي التي أثارت ضجة كبيرة توازي ما له من المكانة الكبيرة وما يحوزه من ثقة المسلمين في انتمائه ونواياه الحسنة، من خلال كتابه “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث”. وقد انتقد الكتاب الشيخ السعودي سلمان العودة في كتابه “حوار هادئ مع الشيخ الغزالي”.

3- كتاب الكاتب المصري جمال البنا “تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم”.

4- كتاب “نحو تفعيل قواعد نقد المتون” لإسماعيل الكردي.

5- كتاب “أضواء على الصحيحين” لمحمد صادق النجمي.

المستوى الثالث: وهو الهجوم الصحفي من خلال المنابر الإعلامية على الصحيحين أو نحو ذلك، ويمتاز هذا الخطاب بأنه خطاب عاطفي خالص تسيطر عليه الانحيازات السياسية والدوافع التسويقية في الإعلام المعاصر. ولذا فإنه يعتريه كثير من الابتذال. لكن هذا لا ينفي قيام البعض بمحاولة توصيل الأفكار إلى الجماهير بطريقة أفضل جذبت الأنظار إليه، منهم: السوري عدنان الرفاعي الذي قدم لمدة برنامجا تلفزيونياا عبر فضائية مصرية، والشيخ عدنان إبراهيم الخطيب والمحاضر الذي لفت الأنظار بشدة في الآونة الأخيرة.

اتسم النقد التجديدي بغلبة الخطاب العاطفي عليه، وهو خطاب لم يوازه جهد علمي موضوعي على نفس قدر رهاناته، فصار لا يختلف بذلك عن الموقف المناقض لها وهو تقديس التراث، إذ أن كليهما يعبر عن نزوع عاطفي لذات مأزومة تحت ضغوط الحضارة والسلطة المعرفية سواء للتراث أو للحضارة المتغلبة. لكننا في الوقت ذاته لا يمكن أن نعمم ذلك على كل تلك المحاولات، فلا يمكن إنكار جدية كثير منها وداوفعه الحسنة التي وإن اعتراها النقص العلمي فإنها تلتمس عذرها في كونها محاولات أولية لا تستحق التقريع فقط وإنما أيضا العناية والتقويم.

رابعا: موقف الصحابة من قضية نقد الرواية

من المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى عن تدوين كلامه (رواه مسلم) وقد سار أصحابه من بعده على نفس الدرب، فقد خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الناس قائلا:

||إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا. فلا تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه|| (تذكرة الحفاظ، 1/ 3)

وقال عمر رضي الله عنه:

||إني كنت أريد أن أكتب السنن. وإني ذكرت قوما قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا||

وقد كان عمر يحث الصحابة على الإقلال من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهدد أبا هريرة في ذلك بالنفي. وكان شديدا في قبول الرواية، فقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:

||كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت. فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا، فلم يؤذن لي، فرجعت. وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فليرجع”. فقال: والله لتقيمن عليه بينة. أمنكم أحد سمعه من النبي (صلى الله عليه وسلم)؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فكنت أصغر القوم، فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال ذلك||

كما كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ترد بعض ما تسمع من الأحاديث إذا وجدت فيها مخالفة لكتاب الله، كردها حديث أن الميت يعذب ببكاء أهله لتعارضه مع قول الله تعالى: “ولا تزر وازرة وزر أخرى”، ولمخالفته حديثا سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذا كنا حيال ظاهرة كتلك، أعني النقد الجذري للتراث الإسلامي بهدف تفكيك بعض المبادئ الإسلامية الأساسية التي لا تروق للسلطة السياسية أو لا تتناغم مع السلطة الثقافية للحضارة الغالبة، فإن ذلك لا يمكن أن يواجه بالردود المتشنجة وإنما ينطفئ وهجه بإبطال حجته عبر تفعيل هذا المنهج المتزن لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم القرآن، ومراجعة قواعد توثيق النصوص، بما يضمن الحفاظ على الوحي في نقائه بعيدا عن أي إضافة بشرية، مهما كانت منزلة صاحبه التاريخية (انظر مثلا: لؤي صافي في “إعمال العقل” ونقده لما أسماه (المنهجية النصوصية)).


اقرأ المزيد:

التيارات الدينية المتنافسة في التشيع المعاصر (1)

فلسفة الدين بديلا لعلم العقيدة

أجوبة القرآن على الأسئلة الكبرى