الكون مكوّن من الجزيئات، من عدد لا نهائي من الجزيئات، فمن خلال 118 ذرة عنصر تتحد وتنسجم بنسب متفاوتة، وبروابط عدة، يبرز لنا عدد غير محدود من الجزيئات التي تؤدي وظائف متباينة، ابتداءً بالجزيئات الآسرة للضوء في أجساد الخلايا الشمسية، ومرورًا بتلك المُخزِّنة للطاقة في البطاريات، وصولًا إلى نوعية الجزيئات التي تُثبّط تقدّم الأمراض داخل جسم الإنسان.

وكـ «لعبة المكعبات» التي يقتنيها الأطفال، يمارس الكيميائيون الشيء ذاته في المعمل، إذ يبني الكيميائي جزيئات جديدة باستخدام لَبِنات بنائية أساسية- جزيئات عضوية أقل تعقيدًا تمثّل المكعبات الصغيرة- ويحاول أن يربطها معًا بطريقةٍ ما للتوصّل إلى تكوين جزيء جديد ذي خصائص مختلفة كليًّا، لكن أن يُشكِّل الرابطة المنشودة لم يكن بالأمر الهيّن، إذ نادرًا ما كان يصيب العلماء في تكوين المركب المرجوّ نظرًا لقصور قدرتهم على السيطرة على تلك المواد بالغة الصغر وتوجيهها نحو تشكيل الرابطة الصحيحة، وظلّ هذا الأمرُ يمثل عائقًا حتى عام 2000، حين قدّم كل من «بنيامين ليست» و«ديفيد ماكميلان» كل على حدة أداةً مبتكرة للبناء الجزيئي تُعرف بالتحفيز العضوي. الأمر الذي امتلك بالغ التأثير على الأبحاث الصيدلانية وجعل الكيمياء أكثر استدامة.

على مرّ الزمان طوّرت الطبيعة الإنزيمات كعوامل حفز ممتازة لتخصيص نتائج التفاعلات الكيميائية الجارية في جسم الإنسان، على عكس المعادن-عوامل الحفز المتاحة للكيميائيين في المعامل- والتي لم تكن بنفس درجة دقة الإنزيمات، فكانت تُسفر عن مكونات غير مرغوبة كأحد نواتج التفاعل مما يعدّ هدرًا للطاقة، وتعطيلًا لسير التفاعل المرغوب، وفي سباق الكيميائيين مع الطبيعة بات الأمر أشبه بشخص من العصر الحجري أقصى إمكاناته مطرقة يكسر بها الأحجار ليدع الحظ يختار له حجم الأشكال الناتجة، ونجار ماهر يملك كل أدواته، كانت الطبيعة هي النجار والكيميائيون الحجري الذي لم يملك سوى المطرقة حتى جاءت أفكار «بنيامين ليست» و«ديفيد ماكميلان» لتعطي الإنسان الحجري القديم أداةً جديدة، وهي «التحفيز العضوي».

ما التحفيز العضوي؟

توجد العديد من المركبات في صورة بدائل كيميائية، أي يوجد نظير للجزيء في الصيغة الكيميائية ومعاكس له في الصورة البنائية، تمامًا كما لو كان الجزيء يقف وينظر لنفسه في المرآة، وبسبب هذا الاختلاف تتباين الخصائص الكيميائية للجزيء فنجد على سبيل المثال جزيء الليمونين ذا صيغتين S-Limonene الذي يمتاز برائحة الليمون، بينما النظير الآخر من الجزيء وهو R-Limonene ويتميز برائحة البرتقال.

جزيء الليمونين
جزيء الليمونين

وكما ذكرنا آنفًا حين تدخل الإنزيمات التفاعل تدخله كعوامل حفز متخصصة إذ تنتج مواد بعينها دون أن تضطر إلى إنتاج كلا النظيرين للجزيء، وهو الأمر التي تفعله المعادن التي يستخدمها العلماء في المعامل، لكن بأداة ثالثة لا المعادن ولا الإنزيمات وإنما التحفيز العضوي اللامتماثل، يمكن أن تدخل الجزيئات العضوية كعوامل حفز متخصصة لإنتاج النظير المراد صنعه والتغاضي عن الآخر، مما يعني توفير نصف الطاقة وتجنب أي آثار جانبية قد يرتكبها النظير الآخر للمركب الناتج.

ما العوامل الحفّازة؟

في القرن التاسع عشر في بداية اكتشاف العلماء للطريقة التي تتفاعل بها المواد، لاحظوا ظواهر غريبة، مثلًا عند وضع الفضة في أنبوبة اختبار مع بيروكسيد الهيدروجين، لاحظوا تفكك الأخير إلى ماء وأوكسجين بينما الفضة خرجت من التفاعل دون تأثّر، وهكذا توالت الاكتشافات في نفس المجال حتى صاغ العالم السويدي «ياكوب بيرسيليوس» مصطلح «التحفيز» على تلك الظاهرة الغريبة، بعد أن سرد قائمة بأهم العناصر والتفاعلات التي تملك قوة في تسريع معدل التفاعل.

لم يقتصر الأمر على تفكيك بيروكسيد الهيدروجين وحسب، بل لوحظ تاليًا قيام عوامل الحفز بتفكيك المواد المتفاعلة وإعادة ربطها بصورة تنتج مواد أخرى، وكان هذا هو أساس صناعة العطور، البلاستيك، مكسبات الطعم، حيثُ قدّرت فيما بعد أنّ نسبة 35% من إجمالي الناتج المحلي عائدة بالضرورة إلى مواد أسهمت العوامل الحفازة في صنعها.

قبل عام 2000 انتمت العوامل الحفازة إلى نوعين، الإنزيمات داخل جسم الإنسان والمعادن في أيدي الكيميائيين، وإلى جانب كونها حساسة للرطوبة والأكسجين واعتبار المعادن مُضرّة للبيئة، فكانت كذلك غير متخصصة في نتائج التفاعل فتنتج كلا النظيرين- كالليمونين- على عكس الإنزيمات التي أنتجت أحدهما فحسب.

العوامل الحفازة
العوامل الحفازة

«بنيامين ليست»

في عام 1990 فكّر العلماء في إنتاج إنزيم ليكونوا قادرين تحت ظروف المعمل على إنتاج النظير المراد فقط، في فريق بحثي تحت قيادة «كارلوس باربس» و«بنيامين ليست».

وبدلًا من توجّه العلماء بالفريق إلى خلق إنزيم محاكٍ لتلك في أجسامنا، بدأ «بينامين ليست» في التفكير خارج الصندوق متسائلًا عن مصدر التحفيز داخل الإنزيم نفسه، فالإنزيم يتكوّن من مجموعة من الأحماض الأمينية وقد يحتوي أو لا يحتوي على عنصر معدني، لكنه لاحظ أن ليس بالضرورة وجود المعدن ليتمكن الإنزيم من القيام بعمله، وبتفحّص الأمر أكثر وجد «بنيامين ليست» أن مجموعات أمينية بعينها هي المسئولة عن الدور التحفيزي للإنزيم، واعتمد في افتراضاته تلك على بحثٍ كان قد أُجري قبلها بـ25 عامًا استُخدم الحمض الأميني «برولين» كعامل حفّاز لكنه كرّر التجربة ليتأكد من الأمر بعد أن ساورته الشكوك حول ما إذا كان البرولين حقًّا استخدم كعامل حفز، ولماذا لم يلحظ ذلك أحدٌ حتى الآن، ولكن للصدمة كرّر التجربة وكانت النتائج إيجابية كما سُجلت قبل 25 عامًا.

في فبراير/شباط من عام 2000 قدّم «بنيامين ليست» اكتشافاته في بحث أثبت فيه ليس فقط أن البرولين- ذلك الحمض الأميني البسيط الرخيص صديق البيئة- يمكن أن يعمل كحافز بل أيضًا يمكن أن تكون الأحماض الأمينية العضوية مفتاح تطوير تحفيز عضوي غير متماثل، يوجّه التفاعل إلى خلق المركب موضع الاهتمام دون أي نظائر غير مرادة.

في الليلة التي كان يفكر فيها «بنيامين ليست» في اكتشافه الجديد، لم يكن وحده من يفعل، بل كانت الأضواء مُنارة في معمل قابع بأقصى شمال كاليفورنيا يخصّ شخصًا يعمل على الموضوع ذاته.

«ديفيد ماكميلان»

قبل تقديم بحثه بعامين كان «ديفيد ماكميلان» يُكرّس عمله على إيجاد طريقة يمكن من خلالها استخدام المعادن كعوامل حفز مخصّصة لإنتاج بديل واحد للمادة كناتج للتفاعل وليس البديلين، لكن الظروف الخاصة التي تحتاجها المعادن من عزل الأكسجين والرطوبة حتى لو توفرت في المعمل فهي لن تتوفر في المصانع، مما يجعل من تطبيق اكتشافاته واستخدامها على مدى واسع أمرًا غاية في الصعوبة، لذا خابت آمال ماكميلان وقام بالتخلي عن المعادن.

وعوضًا عن ذلك لجأ عالمنا إلى استخدام جزيئات عضوية- أي جزيئات بسيطة تتكون من مواد أساسية كالكربون مبنية في إطار معين- كعوامل حفز وتابع تجاربه عليها للتعمّق في معرفة خصائصها، وبعد أن قام بانتقاء تلك الجزيئات بعناية واختبر فاعليتها وفق تجارب معينة، لم تخب آماله وحققت الجزيئات العضوية تحفيز انتقائي ممتاز، وللصدمة فقد تخطّت نسبة أحد النظيرين في النواتج 90%.

في يناير/كانون الثاني عام 2000 لدى تأهّب «ديفيد ماكميلان» لنشر نتائجه، أراد صياغة مصطلح مناسب لاكتشافه، بخاصة وأنّ العلماء كانوا قد أجروا مسبقًا تجارب مماثلة- كتجربة البرولين- لكن تجاربه أتت أكثر تعميمًا وبشّرت بمستقبل أوسع تستخدم فيه الجزيئات العضوية بحرية، ومهّدت لمزيد من النتائج، فأراد إطلاق مصطلح التحفيز العضوي حتى يشمل تجاربه وأي تجارب ستأتي بعده لتندرج تحت نفس السياق.

وها هنا نحن نقدّم استراتيجية جديدة للتحفيز العضوي، نرى أنّ بمقدورها الاضطلاع بكمٍّ واسع من التحولات اللاتناظرية.
مقدمة البحث الذي قدّمه «ديفيد ماكميلان».

إنّ أحد الأمثلة التي تثبت كفاءة آلية التحفيز العضوي هي عملية بناء جزيء الإستريشينين، وهو حمض أميني معقد نسبيًا، اشتهر في كتب «أجاثا كريستي»، لكن بالنسبة للكيميائيين ظلّ يمثل تحديًا كبيرًا، فحين صُنّع الإستريشينين لأول مرة عام 1952 تطلّب الأمر 29 تفاعلًا كيميائيًّا مختلفًا، ونتج فقط ما مقدراه 0.0009% من الإستريشينين من إجمالي المادة المتفاعلة. بينما أهُدرت بقية مواد التفاعل.

بينما في عام 2011 تمكّن العلماء باستخدام التحفيز العضوي من خلال تفاعل متسلسل، تمكنوا من بناء جزيء إستريشنين، في 12 خطوة فقط، وجاءت العملية أكثر كفاءة بـ7 آلاف مرة.

هل يستحق الأمر؟

في الستينيات من القرن الماضي، انتشرت فضيحة دواء ثاليدوميد، وقد كان دواء مهدئًا زعمت الشركة المنتجة أنّه آمن للحوامل، لكنه أسفر عن ولادة جيل من الأطفال ذي أطرافٍ مشوهة، وقد رجع سبب هذا إلى خطأ في التفاعلات التي نتج عنها النظير غير المراد من الناتج، والذي لم يكن فقط مُفتقدًا للخصائص العلاجية للنظير الآخر لكن أيضًا كان له آثار سامة.

نعم الأمر يستحق نوبل في الكيمياء، إذا كان أقل ما يمكن تقديمه هو منع الآثار الجانبية للنواتج غير المرغوبة في التفاعل فهو يستحق، لكن ولحسن الحظ الأمر يمتد أكثر من ذلك فقد فتح التحفيز العضوي الباب للصناعات على مصراعيه، إلى جانب الثروة التي مثّلها للأبحاث الصيدلانية، فنحن على وشك إنتاج ملايين الأدوية والمواد المصنّعة صديقة البيئة بقليل من الجهد والتكاليف والفضل في ذلك عائدٌ للعلم.