من الأمور التي يعرفها دارسو الشعر الجاهلي أن أغلبه قد ضاع قبل عصر التدوين. ولذا كان أبو عمرو بن العلاء ت. 154هـ، وهو أحد القراء السبعة، يقول: ما انتهى إليكم مما قالت العربُ إلا أقله، ولو جاءَكم وافرًا لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثيرٌ.[1]

وقد حاول محمد بن سلام الجمحي تعليل ذلك فقال:

وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم، ومنتهى حُكمِهم، به يأخذون وإليه يصيرون.. فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار؛ راجعوا رواية الشعر.. وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عليهم منه كثير.[2]

وقد قام ناصر الدين الأسد بعمل استقراء تاريخي تتبع فيه تاريخ رواية الشعر الجاهلي عند العرب وأثبت به خطأ قول ابن سلام بأن العرب تشاغلت عن رواية الشعر الجاهلي بمجيء الإسلام، وأن الرواة لم يكونوا يكتفون بالرواية والإنشاد في المجالس والمحافل، وإنما كانوا يعلمون ذلك للصبيان أيضًا؛ أي أنهم جعلوا الشعر الجاهلي وروايته موضوعًا علميًا، يدرسونه ويدرّسون روايته.

ولذلك اتصلت رواية هذا الشعر ولم تنقطع كما زعم ابن سلام ومن تابعه[3]. ولكن ابن سلام صدق في تعليل قلة ما وصلنا من الشعر الجاهلي بموت كثير من العرب في عصر الفتوح، ولكن هذا فقط سبب وحيد لا يكفي لتعليل ضياع كثير من الشعر الجاهلي. وهنا أريد تقديم سبب آخر أراه جديرًا بالتقديم وهو: العمل الدؤوب على دفع الثقافة العربية للتحول من مركزية الشعر الجاهلي إلى مركزية القرآن، وهذا تحديدًا هو ما سأحاول هنا تفصيله تاريخيًا والتعليل له.


مركزية الشعر الجاهلي

كانت العرب تعرف للشعر الجاهلي مكانته، ولذا كانت القبائل تحتفل بنبوغ شعرائها؛ لأن الشاعر – تبعًا لابن رشيق – هو الذي سيدافع عنها ويخلد مآثرها[4]. وقد رُويت في ذلك نقول كثيرة، منها قول عمر بن الخطاب: كان الشعر علمَ قومٍ لم يكن لهم علم أصحُ منه. وقول ابن سلام الجمحي: وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم، ومنتهى حُكمِهم، به يأخذون وإليه يصيرون. وقول الجاحظ:وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها. وقول العسكري: الشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها.[5]


النبي وجعل القرآن في المركز

وبسبب هذه المركزية كان من المتوقع عندما بدأ نزول القرآن أن يشب الصراع بين هذين النصين التأسيسيين، وكانت العرب ومنذ البداية تعرف الفرق بين القرآن والشعر. ولذا عندما اجتمع القرشيون إلى الوليد بن المغيرة ليروا كيف يقولون في القرآن الذي يتحداهم به محمد وعندما قال بعضهم لنقول إنه شعر، قال الوليد كما روى الزركشي: قد عرفنا الشعر كله هزجه ورجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر.[6]

وقد نزه القرآن النبي عن قول الشعر:« وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ» “يس: 69”. وقد اتخذ القرآن موقفاً انتقائياً في مقابل الشعر الجاهلي فقال: «وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ. إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» “الشعراء” 224 – 227″، وكلمة «واد» هنا تعني: لغو؛ أي أنهم يخوضون في كل لغو، ولأن السورة مكية فإنه من المستبعد أنها نزلت في شعراء الرسول من الأنصار كما تزعم بعض الروايات.

وكما نرى؛ فإن القرآن يتهم ثم يستثني، يتهم الشعراء بأنهم يخوضون في كل لغو ويضلون أتباعهم، بعكس القرآن، وأنهم أصحاب كلام لا فعل، ثم يستثني منهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله وانتصروا لدينه، وهذه الصفات كما هي صفات لهؤلاء الشعراء فإنها أيضًا صفات لأشعارهم التي يجب أن تكون تبشيرية تحميسية.

وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يحب الاستماع لهذين النوعين المحددين من الشعر؛ فكان يحب شعر أمية بن الصلت؛ لأنه ينضح بالحكمة والإيمان، ويسأل عمن يحفظه ويقول عن صاحبه: آمن شعره وكفر قلبه. وكان يشجع شعراءه ويقول لهم: اهجوا بالشعر والذي نفس محمد بيده كأنما تنضحوهم بالنبل.[7] ويقول لحسان بن ثابت يوم قريظة: اهج المشركين، فإن جبريل معك.[8]

ومن حديثه أيضًا:

وكان النبي لا يعتد بما عدا ذلك من شعر، ومن حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا.[9] ويعلق ابن حجر العسقلاني على ذلك بقوله: مناسبة هذه المبالغة في ذم الشعر أن الذين خوطبوا بذلك كانوا في غاية الإقبال عليه والاشتغال به، فزجرهم عنه ليقبلوا على القرآن.[10]

فموقف النبي صلى الله عليه وسلم هو موقف القرآن من الشعر؛ أي موقف انتقائي توظيفي؛ فهو لا يرفض الشعر كله ولكنه ينتقي منه فقط ما لا يهدد مركزية القرآن، ويمكن توظيفه في معركة الإسلام مع مشركي العرب.


تثبيت مركزية القرآن

أصدق كلمة قالها شاعر كلمة “لبيد”: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. ولأنه كان إذا تمثل ببيت شعر يكسره أو لا يتمه، فقد نطق عثمان بن مظعون بالشطر الثاني: وكل نعيم لا محالة زائل.

كانت حروب الردة في أحد أبعادها تهديدًا لمركزية القرآن، ولذا حرص خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم على السير على منهاجه، فكانوا يضيقون على أي بادرة يُشتم منها مناوءة مركزية القرآن في بنية الثقافة العربية الإسلامية الجديدة.

وفي هذا توجد نقول كثيرة مؤيدة، منها على سبيل المثال أن عمر بن الخطاب كان يمنع الهجاء والتشبيب بالنساء، وفي إحدى المرات، كأنه أراد اختبار الشعراء المخضرمين، كتب إلى المغيرة بن شعبة، وهو عامله على الكوفة: أن ادع من قبلك من الشعراء فاستنشدهم ما قالوا من الشعر في الجاهلية والإسلام ثم اكتب بذلك إليّ. فدعاهم المغيرة وقال للبيد بن ربيعة انشدني ما قلت من الشعر في الجاهلية والإسلام فقال لبيد: لقد أبدلني الله بذلك سورة البقرة وآل عمران. وقال للأغلب العجلي انشدني فقال الأغلب:

لقد سألت هينًا موجودًا *** أرجزًا تريد أم قصيدًا

فكتب المغيرة بذلك إلى عمر الذي رد عليه بأن انقص الأغلب خمسمائة من عطائه وزدها في عطاء لبيد.[11]

وكان نسخ عثمان للمصاحف إقرارًا وتوكيدًا لمركزية القرآن. وكان الصحابة يؤيدون ذلك ويفهمونه على وجهه. وفي كتاب المصاحف أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقول: لو لم يصنعه عثمان لصنعته.[12] وكذلك فهم الأقدمون الأمر على وجهه، وفي الكتاب نفسه يقول غنيم بن قيس المازني: لو لم يكتب عثمان المصحف، لطفق الناس يقرأون الشعر.[13]

وفي الأغاني أن عليّ بن أبي طالب حين مر على مدائن كسرى سمع جرير بن سهم التميمي يتمثل بقول الشاعر:

جرت الرياح إلى مكان ديارهم *** فكأنما كانوا على ميعاد

فقال عليٌّ لجرير: لم لم تقل كما قال الله عز وجل: «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ» (الدخان: 25 – 28).[14] وهذا تحديدًا ما عنيته من العمل بحماس وجدية على مقاومة أي بادرة تهدد مركزية القرآن.

وبعد تثبيت هذه المركزية الجديدة، كان الشعر الجاهلي، رغم قلته، ما زال يُروى، وينقل من جيل لجيل وربما يزاد فيه، وهنا قامت الكتيبة التفسيرية بالعمل على حل معضلة الشعر الجاهلي بأن قامت ومنذ فترة مبكرة
بموضعته كأداة في خدمة القرآن؛ أي بخدمة المركزية الجديدة وليس منافسًا لها.

وقد قام عبد الله بن عباس بالدور الأكبر في هذا المجال من خلال تأسيسه لما عرف بعد ذلك بالتفسير اللغوي للقرآن. ومن يراجع إجاباته على مسائل نافع بن الأزرق، وكان من رؤوس الخوارج في عصره، سيرى ذلك بوضوح، وكان الموقف الحواري بين الرجلين يبدأ بسؤال لنافع بن الأزرق عن معنى أحد ألفاظ القرآن؛ فيجيبه ابن عباس؛ فيسأله نافع عن مدى علم العرب بهذا المعنى؛ فيقول ابن عباس أما سمعت قول فلان؟

هنا فقط يأتي الشاهد الشعري منتزعًا من سياقه، ومن تعبيره عن تجربة إنسانية، ليستخدم فقط كأداة مساعدة لتثبيت فهم القرآن. وكان هذا دأب ابن عباس كما قال تلميذه عكرمة، ولهذا اشتهر عن ابن عباس قوله: إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب.[15]

وبهذا النمط اقتدى بابن عباس اللغويون والنحويون وعلماء الفقه والشريعة. وعندما تقدمت صنعة تصنيف العلوم عند المسلمين وضع ما سمي بـ «علوم الغاية»، مثل: التفسير والحديث والعقيدة والفقه، في المرتبة العليا ووضعت العلوم التي أطلق عليها «علوم الآلة»، مثل: علوم القرآن وأصول التفسير واللغة، في درجة تالية؛ لأنها في تصورهم مجرد أدوات لا تُدرس لذاتها، ولكن فقط لخدمة «علوم الغاية».

وعندما تنظر لتقسيم علوم الآلة هذه تجد اللغة في نهايتها، وداخل تقسيم اللغة تجد الشعر في دركها الأسفل! وعندما تنظر للشعر تجده قد أصبح جذاذات وأبيات تم نزعها من سياقاتها لتؤدي دورًا جديدًا ليس من طبيعتها.

ولولا الحاجة التي ظهرت لإعادة بناء الماضي العربي من خلال عصر التدوين لضاعت بقية الشعر الجاهلي. المشكلة فيما يخص الشعر الجاهلي أن إعادة كتابة الماضي العربي تمت من خلال التصور الإسلامي أو القرآني، تمت بالتالي فلترة ما بقي من الشعر الجاهلي، عن طريق التخلص من الشعر الوثني أو تحريفه[16]، وعن طريق تخير المجموعات الشعرية مثل: المعلقات والأصمعيات والمفضليات وكل الحماسات لأبي تمام والبحتري وغيرهما.

فهذا التخير كان من بين كثير لم يبق منه إلا ما له وظيفة في هذا الإطار الثقافي الجديد، كشاهد تفسيري أو لغوي. لذا لدينا كميات مهولة من أبيات الشعر المفردة التي تسمى بالشواهد، والتي كان أغلبها – ولا ريب – بيتًا أو حجرًا في بنية أكبر أو أطول.

المراجع
  1. محمد بن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء، 1/ 25.
  2. المصدر السابق، 1/ 24-25.
  3. قارن: ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي، 1/ 628.
  4. راجع ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، 1-65. وفيه: «وكانوا لا يهنّئون إلاّ بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج».
  5. جمعها ابن سلام الجمحي في «الطبقات» (1/ 24)، ثم جواد علي في «المفصل» (9/ 71)، ومحمود محمد شاكر في «قضية الشعر الجاهلي»، ص62.
  6. الزركشي: البرهان في علوم القرآن، (2/ 110).
  7. الطبراني: المعجم الصغير، ص207.
  8. وهو حديث صحيح ومشهور عند الرواة من أول البخاري (5/ 51) وحتى الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2/ 452).
  9. راجع الحديث في صحيح البخاري، كتاب الأدب، رقم 5802.
  10. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري، دارالريان للتراث 1986، ص567.
  11. راجع السيوطي: جمع الجوامع، 12/ 27.
  12. السجستاني: كتاب المصاحف، تحقيق: محب الدين واعظ، بيروت 1995، ص177. وهذا التحقيق بالمناسبة أحدث من طبعة جفري (1936) وأدق.
  13. السابق، ص178.
  14. الأصفهاني: الأغاني، 11/ 135.
  15. راجع: التبريزي: شرح الحماسة، 1/ 3، والسيوطي: المزهر، 2/ 302، 2/ 470.
  16. انظر ثيودور نولدكة: من تاريخ ونقد الشعر العربي القديم. في: عبدالرحمن بدوي: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، ص 20.