محتوى مترجم
المصدر
aeon
التاريخ
2018/08/22
الكاتب
Katie Fitzpatrick

ليس معتادًا أن يتحول شجار شوارع عادي إلى حدث تأسيسي في التاريخ العالمي. في صيف العام 1846، قضى هنري ديفيد ثورو ليلة في السجن في مدينة كونكورد بولاية ماساشوستس، بعد رفضه دفع ضريبة الرأس لموظف محلي.

خلّد ثورو هذا الحدث الهامشي في مقاله «واجب العصيان المدني» عام 1849، وفيه جهر بأنه لا يريد دفع الضرائب لحكومة اتحادية تطيل أمد الظلم الاجتماعي؛ وبالأخص العبودية والحرب المكسيكية الأمريكية. ومع أن المقال لم يُقرأ على نطاق واسع في حياة ثورو، فإن نظريته حول العصيان المدني قُدّر لها أن تلهم عددًا من أعظم المفكرين السياسيين بالعالم، من ليو تولستوي وغاندي حتى مارتن لوثر كنج.

لكنّ نظرية ثورو في المعارضة وجدت بدورها من يعارضها. المفكرة السياسية حنّة آرنت كتبت مقالًا عن «العصيان المدني»، نشرته مجلة «ذي نيويوركر» في سبتمبر/أيلول 1970، وفيه جادلت بأن ثورو لم يكن معارضًا مدنيًا، بل إنها تمسكت بأن فلسفته الأخلاقية بكليتها كانت وبالًا على الروح الجماعية التي يجب أن تحدو أفعال الرفض الجماهيري. ولنا هنا أن نتساءل: كيف يمكن اتهام نجم العصيان المدني هنري ثورور بسوء فهم العصيان المدني إلى هذا الحد؟


هنري ثورو ضد سلطة الدولة

شن ثورو في مقاله هجومًا عنيفًا على سلطة الدولة، فيما دافع باستماتة عن الضمير الفردي. وفي كتابه «الحياة البدائية» (1854)، نادى بأن يتبع كل امرئ عقله الخاص، لا المتفق عليه اجتماعيًا. وفي مقال «واجب العصيان المدني»، ألح على أننا يجب أن نتبع قناعاتنا الأخلاقية الخاصة، لا قوانين الدولة، واحتج ثورو بأن المواطن لا يجب أن يستقيل من ضميره لصالح القانون ولو للحظة واحدة، حتى ولو كانت القوانين نتاج انتخابات ديمقراطية واستفتاءات شعبية.

لقد رأى ثورو في الوقع أن المشاركة الديمقراطية تحط من أخلاقيتنا؛ فحين نذهب للتصويت، نصوت على مبدأ نعتقده صحيحًا، لكننا إذ ذاك نرسخ رغبتنا في اعتبار أي مبدأ – صحيحًا كان أم خاطئًا – مصلحة الأغلبية، ونرفع الرأي العام فوق الاستقامة الأخلاقية. كان ثورو إذن يولي ضميره الخاص عناية فائقة، فيما يحط من شأن سلطة الدولة والرأي الديمقراطي على السواء، ورأى من ثمّ أنه ملزم بعصيان أي قانون يخالف قناعاته، وعلى هذا الأساس بنى نظريته في العصيان المدني.

لا شك أن ثورو كان مُحقًا في قراره عام 1846 بالامتناع عن تقديم الدعم المالي للحكومة، والنظرية التي ألهمته هذا التصرف قُدّر لها أن تلهم مزيدًا من أعمال العصيان المحقة فيما بعد. لكن بالرغم من هذه النجاحات، جادلت حنة آرنت بأن نظرية ثورو كانت مضللة، وبالأخص فيما يتعلق بإسناد العصيان المدني على أرضية الضمير الفردي، فأبسط حجة هي أن الضمير معيار أكثر ذاتية وشخصية من أن يُعتمد عليه للحكم على تصرف سياسي.

إن اليساريين الذين يحتجون على معاملة موظفي الهجرة الأمريكيين للاجئين ينطلقون في موقفهم هذا من وحي ضمائرهم، لكن هكذا كان الحال أيضًا مع كيم ديفيس، القس المحافظ بإحدى مقاطعات ولاية كنتكي، الذي رفض في 2015 ترخيص زواج المثليين. يمكن استخدام الضمير بمفرده في تبرير كافة أنماط القناعات السياسية، لذا فإنه لا يشكل ضمانة للتصرف على نحو أخلاقي.

دفعت آرنت أيضًا بحجة أكثر تعقيدًا، مفادها أنه حتى وإن كان الشك لا يرقى إلى مدى أخلاقية الضمير، فإنه في نهاية المطاف «غير سياسي»، ومن ثمّ فالضمير يحضنا على الاهتمام بنقائنا الأخلاقي الخاص أكثر من اهتمامنا بالأفعال الجماعية التي تُحدِث التغيير.

لكن هذا لا يعني أن آرنت أنكرت جدوى الضمير بنفي صفة «السياسي» عنه، بل إنها كانت موقنة بعظم أهمية صوت الضمير. وفي كتابها «إيخمان في القدس» (1963)، جادلت بأن الضابط النازي اليهودي أدولف إيخمان كان يفتقر إلى الوجدان الأخلاقي، بحيث لم يتورع عن المشاركة في فظائع الهولوكوست.

لقد تعلمت آرنت من تجربة الفاشية أن الضمير يمكن أن يمنع الأفراد من المشاركة أو الإمعان في ظلم بيّن، لكنها رأت ذلك بوصفه حدًا أدنى أخلاقيًا مجردًا؛ فأحكام الضمير، على حد قولها، «لا تأمر بالمعروف وإنما تنهى عن المنكر». وبعبارة أخرى، فالضمير الشخصي قد يردعنا أحيانًا عن مساعدة الشر أو تحريضه، لكنه لا يحضنا على الإقدام على فعل سياسي إيجابي في سبيل تحقيق العدالة.

ولربما يقبل ثورو اتهام نظريته حول العصيان المدني بأنها «تنهى عن المنكر فقط»، فهو لم يكن يرى أن من واجب الأفراد إصلاح العالم، وكتب يقول «بداهةً، ليس من واجب الفرد أن يكرّس نفسه لتغيير أي منكر، مهما بلغت فظاعته، ولربما يحق له القلق بشأن تورطه في المنكر، لكن يظل واجبه في الحد الأدنى أن ينأى بنفسه».

ولربما توافق آرنت بدورها على أنه من الأفضل للمرء أن يمتنع عن ارتكاب الظلم من أن يشارك فيه، لكنها تحذر من أن المطاف قد ينتهي بنا راضين عن شر ما، طالما لم نتورط بأنفسنا فيه. ولأن العصيان المدني على طريقة ثورو يركز أكثر من اللازم على الضمير الشخصي، لا «العالم الذي تُرتكب فيه الخطايا» كما تدفع آرنت، فالخطر ها هنا يكمن في إعلاء النقاء الأخلاقي الفردي على حساب بناء مجتمع أكثر عدالة.


العصيان المدني بين ثورو وآرنت

من الجائز أن يكون الفارق الأبرز بين ثورو وآرنت يكمن في أن الأول رأى العصيان المدني فعلًا فرديًا بالضرورة، فيما رأته الأخيرة جماعيًا بالتعريف. جادلت آرنت بأنه لكي يتحول فعل مخالفة القانون إلى عصيان مدني فلا بد أن يُمارس جهارًا وجماعيًا. وبعبارة أبسط، إن خالفت القانون منفردًا فأنت ترتكب جريمة، أما إن خالفته في إطار احتجاج فأنت تصنع قضية.

وربما كان رفض ثورو الدرامي دفع الضرائب يستوفي شروط هذا التعريف، لكن آرنت وضعت معيارًا آخر للتمييز: فمَن يخالف القانون جهرًا ولكن منفردًا هو مجرد معترض ذو ضمير، أما من يخالفون القانون جهرًا وجماعيًا فهم عصاة مدنيون، وتخلص آرنت من هنا إلى أن هذه المجموعة الأخيرة – التي تستبعد ثورو منها حتمًا – هي القادرة على إحداث تغيير حقيقي.

تخلق حركات العصيان المدني الضخمة زخمًا، وتمارس ضغطًا، وتحول مسار الحوار السياسي. بالنسبة لآرنت، فإن أعظم حركات العصيان المدني – مثل استقلال الهند وحركة الحقوق المدنية ورفض الحرب – قد استلهمت ثورو، لكنها أضافت التزامًا حيويًا للجماهير، وهو العمل الجماعي. بيد أن ثورو من جانبه، وللمفارقة العجيبة، رأى أن «الفعل الجماهيري ليست له سوى مزايا ضئيلة».

إن مقال «واجب العصيان المدني» هو رؤية نادرة في أخلاقيتها، وجّه ثورو فيه انتقادات لاذعة لحكومة تلك الفترة، وحافظ في الآن ذاته على حسه القوي بالقناعة الأخلاقية التي دائمًا ما تحدو أفعال العصيان المدني. مع ذلك، فرؤية آرنت للممارسة العملية تبدو واعدة أكثر؛ فهي تصر على أن نركز، لا على ضمائرنا الشخصية، وإنما على الظلم الواقع والوسائل الملموسة لدفعه.

ولا يعني ذلك أن مطالب العصيان المدني ينبغي ألا تستهدف سوى أمر معتدل أو حتى قابل للتحقيق، وإنما يعني أن العصيان المدني يجب أن يوجه إلى العالم حيث يستطيع أن يغير، لا إلى النفس حيث يستطيع في أفضل الأحوال أن يطهّر.