يبدو عنوان المقال غريبًا حدّ الشذوذ، وقد يظن البعض أنه يحمل – حاشا لله – سخرية من دين يجعل لحيوان أليف كالقطة ما يمكن أن يوصف بالمكانة، بل قد يجنح بعض المراهقين إلى أن المقال يتحدث عن مكانة المرأة في الإسلام! لكن الأغرب فعلًا من غرابة العنوان، هو أن هذا المقال لا يحمل ما يوحي به من مبالغة، فالحيوانات الأليفة بوجه عام لها مكانتها الثابتة  في الإسلام، وللقطط من بينها مكانة خاصة، ولها رمزية لا تُنكَر.

ورغم كراهيتي لمعظم ما يُسمى (ترند) هذه الأيام، فإنني أعترف أن ما استثارني لكتابة مثل هذا المقال هو (ترند) الأيام الأخيرة، مقطع الإمام الجزائري «وليد مهساس» وقطته، الذي انتشر كالنار في هشيم عالم تذروه رياح المادية و(ترنداتها) التي نعرفُ منها قليلًا وننكر كثيرًا كثيرًا.

والآن، سنبحر في رحلة لطيفة في ثنايا التراث الإسلامي قديمًا وحديثًا، لننقّبَ عن أبرز ما جاء فيه من ذكر لهذا الحيوان اللطيف الذي لا يزال يحظى بشعبية جارفة لدى الملايين من البشر في كافة أنحاء المعمورة.

حافظ على مصيرك الأخرويّ من القطط!

لعل أقوى وأشهر ما ارتبط بالقطط في التراث الإسلامي هو الحديث النبوي الذي يحظى بدرجة عالية من أسباب الصحة، حيث رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث، حديث

دخلت امرأة النار في هِرّةٍ حبستها، فلا هيَ أطعمتْها، ولا هي تركتها تأكلُ من خشاشِ الأرض ..

والحديث مرويٌّ بصياغاتٍ عديدة في كتب الحديث تدور كلُّها حول نفس المعنى. والمرأة المذكورة على أرجح الروايات من قبيلة حِميَر اليمانية، وقيلَ إنها كانت من يهود اليمن. لم تكتفِ المرأة المذكورة بإهمال رعاية القطة وتغذيتها، إنما حبستْها وتركتها تتضوَّر جوعًا في محبسِها. 

وفي إحدى طرق الحديث التي يرويها إمام الحديث النَّسائي، يرِدُ تفصيلٌ قاسٍ في وصف عذاب تلك المرأة، وأنَّه كان من جنس عملها، فقد قيَّض الله لها في جهنَّم قطة متوحشة تنهشها من الأمام ومن الخلف بشكل سرمدي فلا ينتهي عذابُها.

ولذا فالرفق بالحيوان الأليف لا سيَّما بالقطط لا نُبالغ إذا قلنا إنه من الثوابت الإسلامية، ويُروَى عن التابعي عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، كانت لا تمر به قطة إلا أمال إليها الإناء لتشرب. ويُروى في سنن أبي داود عن السيدة عائشة أيضًا أنّها أكلت من طعام أكلت منه قطة، لثقتها في طهارة لعابها. ويُروى عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، عن النبي، عليه الصلاة والسلام، أن الهرَّة من متاع البيت، وفي هذا تأكيد على أنَّ القطط في الإسلام تألَف وتؤلَف، وبالمثل الدارج (صاحبة بيت).

الصحابي الذي تكنَّى بالقطة ونقل أخبارها

والآن ننتقل من القصة المؤسفة للمرأة اليمانية التي ظلمتْ نفسها بظلمِها لقطة بريئة، إلى الحديث عن رجل شهير من أصول يمانية أيضًا، لكنّه كان النقيض المطلق، فقد خلَّد ذكرَ القطط  في التراث الإسلامي بكنيَتِه الشهيرة. إنه أبو هُريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، الذي لازم الرسول، عليه الصلاة والسلام، في سنواته الأخيرة، وروى عنه عديدًا من الروايات،

ويعود سبب اختصاص أبي هريرة بتلك الكنية -والهريرة تصغير هرَّة وهي القطة- إلى أنَّهُ وجد هرَّة صغيرة، فلازمها، وشُوهِد كثيرًا يحملها ويلاعبُها.  

ومن المفارقات اللطيفة، أنَّ إحدى طرق رواية حديث (دخلت امرأة النار في هرَّة) التي ينقلُها البخاري في (التاريخ الكبير) ينتهي سندُها بأبي هريْرة، رضي الله عنه، ومَن أجدر ممّن تكنِّى بقطة أن يرويَ حديثًا رادعًا لمن يؤذي هذا الحيوان اللطيف؟ فقد رُوِيَ عن أبي هريرة أيضًا حديث نبوي شهير من أصرح الأدلة على الرفق بالحيوان: 

 في كل كبدٍ رطبة أجر

كما نقلت بعض كتب السنن مثل مستدرك الحاكم، وصحيح ابن خزيمة، عن أبي هريرة قوله إنَّ مرور القطة لا يقطع الصلاة. وأبو هريرة هو من روى عن النبي، عليه الصلاة والسلام، حرمة أكل لحوم السباع، وأن القطط من السِّباع، وهذا من أقوى الأدلة في تحريم أكل لحوم القطط.

القطط ليست للذبح

الراجح من الآراء الفقهية الإسلامية بعد استقراء الآثار الواردة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، حرمة ذبح القطط، ولذا فأكل لحومها – لغير ضرورة ماسَّة تقدَّر بقدرها – حرام. ولم يُجزْ الفقهاء قديمًا وحديثًا التخلص من القطط إلا إذا تحقَّق أنها مؤذية، وبشكل متكرر، وأنَّ أذاها لا يُمكن دفعه دون التخلص منها.

القطة طاهرة

.. وفي تفريقه بين سؤر السّنّور وسؤر الكلب- دليل على حبّه لاتخاذهنّ. وليس لاتخاذهنّ وجه إلا إفناء الفأر وقتل الجرذان. فكأنّ النب، صلّى الله عليه وسلّم، كما أحبّ استحياء السنانير، فقد أحبّ إهلاك الفأر ..
أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، في كتابه (الحيوان) مشيرًا إلى تمييز النبي، عليه الصلاة والسلام، بين لعابيْ القط والكلب

يعرف غالبية المسلمين ما اتجه إليه جمهور فقهاء المسلمين من نجاسة لعاب الكلب، وعدم جواز تربيته ومخالطته إلا لضرورة كالصيد أو الحراسة. في المقابل، تحظى القطط بوضعية أفضل بكثير من الكلاب في هذا الجانب، فقد رُوِيَ بسندٍ صحيح في موطَّأ الإمام مالك وغيره من كتب الحديث، عن الصحابي أبي قتادة الأنصاري، أنه كان يتوضأ، فاقتربت منه قطة، فأمال إليها الإناء لتشرب، ثم أكمل وضوءه، فلمَّا تعجَّبت إحدى نساء بيته من هذا، ظنًا منها أن لعاب القطة يُنجِّس ماء الوضوء، أخبرها أن الرسول، عليه الصلاة والسلام قال:

إنها ليست بنجَس، إنها من الطوّافين عليكم والطوَّافات

ومن هذا الأثر -وغيره- استدلَّ الفقهاء على طهارة سؤر -لعاب- القطط، وجواز الوضوء للصلاة من ماء شربت منه القطط، ومثل هذا الحكم موجود لدى فقهاء الشيعة أيضًا. والوصف بالطواف هنا يؤكد على التآلف مع القطط والاعتياد على وجودها في البيوت ومخالطة أهلها.

العالِم الصالح الذي أنقذ قطةً فأنقذته

ينقل الدميري في كتاب «حياة الحيوان الكُبرى» قصة طريفة يرويها أحد أصدقاء المحدِّث والفقيه المالكي الشبلي، حيث يذكر الصديق أنه بعد وفاة الشبلي، رآه في المنام، فسأله عمَّا فعله الله به، فأجابه أن الله قد غفر له، لكنه لم يغفر له في المقام الأول لطول عبادته وخشوعه، أو غزير علمه وما بذله في سبيل طلب العلم من ترحال ونصَب، وغيرها من أسباب الغفران التي تسبق إلى الذهن، إنما كان سبب المغفرة الأول هو موقف إنسانيٌّ نبيل فعله في شوارع بغداد، عندما عثر على قطة صغيرة تقاسي البرد، فأنقذها، ووضعها في فرو كان معه ليُدفِئها، فنجتْ، ونجا بنجاتها.

عالم النحو الذي وعظتْه قطةٌ وغيَّرت أفكاره جذريًا

ينقل ابن خُلَّكان في موسوعته (وفيات الأعيان) قصة لطيفة من القرن الخامس الهجري وقعت للنحويّ المصري ابن بابشاذ، الذي كان من أعمدة ديوان الإنشاء بمصر في عهده، حيثُ كان في وليمة مع بعض أصحابه، فإذا بقطٍّ قد حضر، فألقوا إليه ببعض الطعام، فذهب ثم عاد، فأعطوه المزيد، فأخذه، ثم ما لبث أن عادَ، وهكذا دواليك مرات عديدة، فاستراب من هذا القط، فتتبعه، فوجده يحمل الطعام إلى خرابة قريبة، ليُطعِم قطًا أعمى بها.

اعتبر ابن بابشاذ هذا درسًا في أن الله يحمل الرزق لمن يشاء دون عناء، ويسخر له الكون، وذكر المؤرخون أنه استقال من وظيفته في ديوان الإنشاء، ولزم بيته، وقرَّر أن يتوكَّل على الله، وألا يحمل أبدًا همَّ الرزق.

علماءُ يؤلِّفون عن القطط

لا يكاد يخلو كتاب تراثي فقهي من مختلف المذاهب الإسلامية من بضع فتاوٍ عن الحيوانات الأليفة، وفي القلب منها القطط، لكن لم يقتصرْ الأمر على هذا، فقد خصَّص بعض الفقهاء مؤلفات للقطط والتعامل الشرعي اللازم معها، من هؤلاء الفقيه الحنبلي عبد القادر بن محمد بن عبد القادر الجزيري المتوفى عام 977م، الذي ألّف عن القطط كتابًا بعنوان (رفع المضرّة عن الهر والهرَّة)، كما ألَّفَ العالم الموسوعي والفقيه جلال الدين السيوطيّ أرجوزة عن القطط تسمى (نظامُ البلَّوْر في أسماء السِّنَّوْر). 

ومن لطائف المؤلفات العربية والإسلامية التراثية عن القطط، ما كتبه الأديب الموسوعي المعتزلي الجاحظ في كتابه «الحيوان»، حيث خصّص عشرات العناوين للحديث عن القطط، مثل وصفه للعداوة الشهيرة بين القطط والفئران، وما تتضمَّنه من ميل القطط إلى التلاعب بالفئران والتلذُذ بتعذيبها على حد وصف الجاحظ، كذلك نقل الجاحظ في الكتاب عديد من الأشعار التي تصف القطط، وتلك التي تهجوها. 

بل وصل الإمعان في التفاصيل حول القطط إلى حد تخصيص الجاحظ فقرة في الكتاب لمحاولة تفسير السلوك الشهير الملحوظ للقطط بميلها إلى دفن فضلاتِها.  

وفي نفس الكتاب صنَّف الجاحظ بابًا بعنوان «مما للسنور فيه فضيلة على جميع أصناف الحيوان ما خلا الإنسان» يؤكد المكانة الخاصة للقطط في التراث، نقل فيه بعض ما يراه من سلوكياتٍ متشابهة بين الإنسان والقطط، مثل التثاؤب والعطس، والتمطّي، وغسل الوجه والعينيْن.