«نحن لم نحل بعد مسألة الإله» هكذا صاح ذات مرة الناقد الروسي بيلينسكي في تورجينيف الجالس مقابله إلى الطاولة، مواصلا: «وأنت تريد أن تأكل!»

«تشارلز تايلر Charles Taylor» كان ليفضل أن نولم على 874 صفحة من كتابه الجديد «عصر علماني Secular Age» الصادر عام 2007، والذي يعرض تصورات وتأملات من شتى حقول المعرفة باستثناء معرفة الإله، التي يتركها خارج القائمة. صدامُ تايلر هو مع العلمانية (فكرة أن تَقدُّم الحداثة والديمقراطية والعلم كان متصلًا بتقهقر الإله والروحانيات إلى هوامش الحياة) حيث نعت هذه الأطروحة بـ «الجدِّ ضعيفة».

يسعى تايلر لإثبات أن الإله لا يزال حاضرًا جدًا في العالم، فقط لو نظرنا صوب الأماكن الصحيحة وسمحنا للعقل بأن يتيح نفسه للتحقيق الأخلاقي والإحساس الجمالي (الإستطيقي) أكثر من اللاهوت التقليدي، منفَذًا للدين.

تايلر هو أستاذ جامعي فخري في حقل الفلسفة بجامعة «ماكغيل»، مؤلف كتابي «هيجل» الصادر سنة 1975 و«منابع الذات Sources of the self» الصادر سنة 1989، والمتوج بجائزة تيمبلتون المرموقة للبحث والتطوير في المسائل الروحانية هذا العام.

هو أيضا كاثوليكي قانعٌ بأن الحياة دون الإيمان بالإله تفتقر للمعنى. تايلر كذلك جماعاني Communitarian يشكك في قيمة النزعة الفردية على افتراض أنها تُزهِّد بشواغل المجتمع. وهو يستحق الإعجاب العريض لموقفه المسكوني/التوحيدي إزاء كافة أديان العالم، ورأيه الموائم لسياسات الهوية، والتزامه بفكرة كون البشر ذوات متنافسة Contesting Agents دائما ما تكون واقعة في الصراع لنيل الحقوق.

وهو أيضًا محسوب على مفكري ما بعد الحداثة، الذين لا يثقون في قدرة الفلسفة علىأن تثبت وجود الحقيقة في شيء عدا سلطة اللغة لإقناعنا بإمكانية الإيمان.


يتحدث بعض مفكري ما بعد الحداثة عن «نهاية الفلسفة» بزعم أنه لم يعد بوسعها إخبارنا أي شيء عن العالم بعيدًا عن صلتنا به، عن الموجود «خارجنا»، والمتدفق كما يصفه تايلر «من قوة ما ورائية». يستطرد قائلا: «نعيش هذه الأيام في حالة نشكُّ فيها بمعتقداتنا الخاصة، وقد تأثر إيماننا بمصادر أخرى عدا النفس وإدراكاتها»، «إننا لا نملك ألا نرتاب من حين لآخر»، يردف قائلا: «متوجسين، نمارس إيماننا في حالةٍ من الشك والظنية». هل انتهى الدين، إذن،بسبب شكوكنا حيال أنفسنا؟

يرى تايلر أن الحداثة الغربية ما هي إﻻ ثمرة الاختراعات الجديدة ومدركات ذاتية منشأة حديثا بما اتصل بها من ممارسات

يجيب تايلر في كتابه «عصر علماني» بـ لا، مدوية. ويحاجج بتفكيكية «موت الإله» المعلن عبر نيتشه. أن نرى العلمانية على أنها ببساطة فصل بين الكنيسة والدولة، واستلاب للحقيقة من السلطة، وصعود للشكوكية وحب الدنيويات وحسب، سيعني أن تفوتنا البقايا الأشد عمقًا وديمومةً للدينِ والحياة الروحية، إذ يعتبرها تايلر «حصونُ الإيمان» الحقّة، والتي بالكادِ قد تآكلت.

يجادل الرجل ضد ما يسميه «قصص الحذف subtraction stories» للحداثة الغربية، التي حذفت عنها المعتقدات الدينية و«آفاق منعزلة» أخرى، لتترك العقل بلا إيمانٍ أو ورع. عوض ذلك، يشير إلى أن «الحداثة الغربية، بما يشمل علمانيتها، ما هي إلا ثمرةُ الاختراعات الجديدة، ومدركات ذاتية منشأة حديثا بما يتصل بها من ممارسات. وليس من الممكن تفسيرها في سياق المزايا المعمّرة من حياة الإنسان».

حتى إن ذلك الفصل القديم بين المقدس والمستباح قد أخذ معنى جديدا في الزمن العلماني. وعوض تلاشيه، ها هو الإله يترك الكنيسة كي «يبارك أتباعه في كل مكان» بما يشمل «الحياة العادية، والزواج، والعمل، وهلمّ جرا».

في تقدير تايلر، تنعم الفلسفة أيضا بتقديس معين للعقل والإرادة؛ ويستشهد بـديكارت للدلالة على أننا كائنات عقلانية، تطالب أن يحكمها العقل وتتحكم بها الإرادة. أما في رأي فرويد فتعتبر وحدةُ الأنا الفخورة (Ego)، مثالا على الحقيقة الداخلية للأحاسيس التي ترغب أن يتم توجيهها بعيدا عن الدين التقليدي. وكتاب وليام جيمس «ضروب الخبرة الدينية» يدل على أن الناس في كل مكان لديهم حاجة للاعتقاد بأن ذلك يمكن أن تحدده الإرادة.

وقد تزعم حجة تايلر عن السلطة الأخلاقية بوصفها «علة مكتفية بذاتها»، الشيء الكثير للعقل والإرادة. حيث استطاع «ديكارت» بشق الأنفس أن يحرر الإرادة من الإدانة الكالفنية القائلة بأنها عوض ممارستها سيطرة سيادية على الجسد، ستظل أبدا حبيسة خطاياه، بينما رأى «فرويد» الدين وهمًا تولده الحاجة لإنكار الموت، أما «وليام جيمس» فقد منحنا الحق في الإيمان، إنما ليس بالضرورة المسوغّ له. وعليه تكون أشد نجاحات تايلر في المحاججة هي أن العلمانية واقع الأمر لم تقضِ على الدين، طالما أن مكنونات الإنسانية قد نجت كقيم روحية فيها.

يتكئ تايلر في تفكيكه لنظرية موت الإله على ثقته بأن «حجج العلوم الطبيعية للإلحاد ليست كلها مقنعة». وينفذ صبره مع ملحدين كـريتشارد دوكينز، ودانييل دينيت القائلين بأن العلم، وبالتحديد نظرية التطور، قد أودعوا الدين مزبلة التاريخ.

يحاجج تايلر بأن الدين ﻻ يحتاج إلي مبرر استنادا إلي ما يحث عليه مسبقا من أعمال خيرة، فيما العلمانية الحديثة تعرض تلك القيم الدينية للخطر

على النقيض من ذلك، يرى تايلر أن العلم يعزز الدين إذ أن الإله مقحم في الوجود الاجتماعي، ويشيرُ التدبر في المعنى وفي النظام إلى «عنصر إلهي فينا». وبالنسبة له فالإيمان ليس ما يكتشفه العلمُ بل ما يرجوه الدين؛ ذلك مع حقيقة أننا إذا نظرنا إلى الصورة الكبرى للتاريخ الفكري، سنجد أنَّ تبدّل معتقد ديني اعتمد أكثرَ على مفهوم الألوهية بكل تناقضاته عن أن يكون قد تبدّل لمواجهة بين العلم والدين.

كتب نيتشه ذات مرة: «إله كلي العلم وكلي القدرة لا يأبه بأن مخلوقاته يجب أن تفهم نواياه، أيمكن له أن يكون إلها خيّرا؟»؛ بيد أن تايلر يبدو غير مهتم بشرح أساليب الإله، إنه يحاجج بأن الدين لا يحتاج إلى مبرر استنادًا إلى ما يحث عليه مسبقا من أعمال خيرة، فيما العلمانية الحديثة، التي يجادل بعض المفكرين بأهميتها من أجل التسامح، تُعرِّض تلك القيم الدينية للخطر.


يكرر تايلر في كتابه تعبير «نزع الطابع السحري disenchantment» المستمدة من عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر» الذي رأى أن منطق التنوير يتحول إلى عقلنة حديثة، حيث لا يستخدم التفوق العقلي للوصول إلى الاستنتاجات، وإنما لتنظيم الحياة من القاعدة حتى القمة، عبر بنى من التراتبية والتخصيص والتنظيم والسيطرة.

يتفق تايلر معه على مفهوم «نزع الطابع السحري للعالم» حيث تتركنا هذه الإزالة للمظاهر الروحية والدينية التي يشار إليها بالسحر، في كونٍ أجرد وروتيني ومسطّح بلا أبعاد، تقوده القواعد عوض الأفكار، وهي عملية تبلغ أوجها في بيروقراطية يديرها «اختصاصيون بلا روح، شهوانيون hedonists بلا قلب»، ما أسماه فيبر «القفص الحديدي» للحياة الحديثة.

لكن تايلر يعتبر تلك النظرة موغلة في الكآبة وتشاؤمية، ما يدفعه لتنئيتها جانبا بحثا عن رؤية مشجعة أكثر في سوسيولوجيا «إيميل دوركهايم». فعلى النقيض من فيبر، وجد إيميل أن المجتمع يشتمل على ممارسات إيمانية مغروسة بعمق في وجدانه لا على وظائف مجردة، ورأى الدين متجذرا في أدوار وقواعد النظم الاجتماعية الحديثة، يقاوم برد التغريب القارص. ومهما جال في خواطر المفكرين، إلا أن الناس يحترمون الدين لتوفيره بنية من المعاني، وحيزا من الدلالات الموحِّدة، وحسٍّا بالانتماء.


لقد فوجئ بعض المراقبين بانتعاش الدين في السنوات الأخيرة، بمعنى «أن جزءا مما دفع الأغلبية الأخلاقية the Moral Majority (منظمة أمريكية ذات توجه ديني سياسي – م) وحفز اليمين المسيحي في أمريكا، هو إلهام لإعادة تأسيس شيء من الرؤية النيو-دوركهايمية المتصدعة التي كانت تعرّف الأمة الأمريكية فيما مضى. حيث سيعني كونك أمريكيا مرة أخرى أنك مؤمن بوجود الإله، وسيعني ذلك أيضا، أن تعود أمريكا مجددا أمة تحت عناية الرب (من كلمات النشيد الوطني الأمريكي – م)».

ربما كان هدف تايلر الأساسي تخليص الدين من الآثار المدمرة للعلمانية الحديثة، ولكنه أراد أيضا رؤية المجتمع الأنجلو-أمريكي يعيد النظر في تاريخه الليبرالي

على عكس تايلر، شعر الآباء المؤسسون لأمريكا أن عليهم التعامل مع شعب ناشئ لا يتألف من أمة واحدة بل من حلقة من الجماعات المتنازعة. والدين، في وجهة نظرهم، كان ليعمل على تقسيم طوائف متعصبة عوض توحيدها تحت راية «الرب» الذي، وبعد عدة مواضع من ظهورٍ خجول في إعلان الاستقلال الأمريكي، لا يظهر في أي موضع من دستور البلاد. انضمَّ الرئيس الأمريكي «توماس جيفرسون» لنظرية «حذف» التاريخ/الدين[2] التي ينكرها تايلر. «الكهنة» كما كتب مؤلف إعلان الاستقلال «جزعوا من تقدم العلم كما تجزع الساحرات من ضوء النهار».

«عصر علماني» هو زبدة سعة الاطلاع والأفق الفكري الكبير لتشارلز تايلر، وإن كان كثير التكرار. لربما كان هدف تايلر الأساسي تخليص الدين من الآثار المدمرة للعلمانية الحديثة، إلا أن هذا لا ينفي بطبيعة الحال أنه أراد في ذات الوقت رؤية المجتمع الآنجلو-أمريكي يعيد النظر في تاريخه الليبرالي.

أنبأ مؤلفو الصحف الفيدرالية (إضاءات: مجموعة من 85 مقالة كتبها ألكساندر هاميلتون وجيمس ماديسون وجون جاي لتشجيع التصديق على الدستور الفيدرالي الجديد 1788) أن الحكومة ستعمل لصون الحياة والحرية والوطن، ويكتب الرئيس الأمريكي الرابع، وأحد أبرز المساهمين في تلك النصوص الدستورية، جيمس ماديسون:

إن القانون الفائق الخاص بالطبيعة وإله الطبيعة؛ ينصُّ على أن تكون سلامةُ وسعادة المجتمع أهدافا تتطلع إليها كل المؤسسات السياسية، ويضحّي لأجلها.

يعتقد تايلر أن الفكر الليبرالي الغربي، الذي بدأ مع هوبس، ولوك، وهيوم، وآدم سميث، على المسار الخطأ. بالنسبة لبعض الكاثوليكيين الذين ينتمون إلى التقليد الفكري لأرسطو، وتوما الأكويني، فإن معنى التاريخ الإنساني ليس إدامة الحياة وإنما تحرير الروح، ليس في الحق بالعمل والتملك، بل في واجب الامتثال للأمر الأخلاقي، ليس في جشع السوق بل في إحسان الكاتدرائية.

يعتمد تايلر على مصادر تاريخية إشكالية لمناوءة ذلك الوجود المطلق لليبرالية الفردية، كالجمهورية الكلاسيكية، والتي ضحى فيها مواطنون بالمصلحة الخاصة للصالح العام، ونظرية الفضاء العمومي، التي يفترض وفقا لها أن عامة الشعب كانوا يجتمعون مطولا لمناقشة المشاكل اليومية والقضايا السياسية عبر المحادثة والحوار.

يعتمد تايلر كذلك على الأدب الرومانطيقي ليبرهن على أن الحياة الروحانية كامنة في خيالات العقل مهما كانت القوى المادية للعلمنة نافذة، قائلا: «إن لغة شعرية جديدة وذات طابع روحي من شأنها أن تمثل طريق العودة نحو رب ابراهيم».

بعض أتباع الفسلفة المتعالية في الأرض الجديد في القرن التاسع عشر، ربما أحسوا بوجود الإله في نصل العشب الأخضر، إلا أنهم في الوقت ذاته سعوا للهرب من إبراهيم الذي كاد أن يقتل ابنه بأمر من الرب، هو الهرب ذاته من شخصية «الكابتن آهاب» في القصص الأمريكي الشعبي، والذي يعتبره هؤلاء قاتلَ براءة أمريكا ذاتها. (إضاءات: الكابتن آهاب هو بطل الرواية الأمريكية الكلاسيكية موبي ديك، التي يصارع فيها حوتا هو موبي ديك انتقاما منه بعدما كان قد قضم ساقه، وترمز الرواية لصراع الإنسان المعاصر مع الطبيعة، وربما إلى صعود أمريكا الإمبريالية التي تفرض سيطرتها على العالم)

في لغته الشعرية الجديدة، رأى الشاعر «إيمرسون» الدين الأمريكي «ثلاجة موتى»، إذ نلمس أن التعالي في لغته الشعرية قد أتاح الطريق أمام «تشيؤ» الحياة.

يفترض تايلر أننا نستطيع إيجاد طريق رجعة للإله عبر إعادة السحر للمجتمع ببث الروحانيات، وحتي شهوانياتها، من جديد

ما هدد الدين لم يكن العلمنة وحسب، وإنما المجتمع نفسه، بمخاوفه حول وضعه وقلة رجوعه إلى الذات. ومع أن تايلر يتطلع إلى المجتمع خلاصا للدين، إلا أن احتمالية واحدة تبقى لذلك هي «استعادة الإحساس برابط كامن في التعاليم الإنجيلية بين الرغبة الدنيوية وحب الرب». مهما تكن رغباتنا إلا أننا نعود للرب. يقول تايلر في كتابه «أن يكون نفاذنا إلى إرادة الرب عبر تخطيطه هو، لأمر حاسم للنظام الأخلاقي الحديث، والفهم النيودوركهينيمي لحضور الله بيننا». يفترض تايلر أننا نستطيع إيجاد طريق رجعة للإله عبر إعادة السحر للمجتمع ببث الروحانيات، وحتى شهوانياتها، من جديد.

بما أننا لا نستطيع الوصول إلى الإله عبر وسائل الفلسفة، يرى تايلر تصميم الألوهية في الممارسة الاجتماعية، على أنه ما نختبره في أبعاده الأخلاقية والدنيوية، أي أن الإله كامن فينا. أيمكن للإيمان عينه أن يكون محل ثقة في التاريخ كما هو في المجتمع؟ للإصرار على أن مشيئة الإله بادية في التاريخ، سيتعين على المرء التعلق بالمفكرين من ثوسيديدس إلى تولستوي، الذين رأوا في التصميم الكوني هيمنة المنطق بالقوة وهيمنة الحرية بالقدر.

نعت إيمرسون المجتمع بـ «المؤامرة ضد مروءة كل فرد من أفراده» إذ لطخت ملذاته الماديةُ حتى العلمانية نفسها. بينما توقع دوركهايم أن هكذا شره للملذات، سيكبح المجتمع جماحه، وهو الدور ذاته الذي افترضه الدين. يعِد تايلر من جهته، بفهم لـ «حضور الإله بيننا» في امتلاء الحياة العادية.

لكن الاعتقاد القائل بأن الإله موجود في الحياة ذاتها يشير إلى هيغلية تايلر ودياليكتية خياله، بأن «روحا» مقيمة تحكم العالم المادي. أن نرى المقدس في المستباح، وأن نستمد الإله من وجدانيات المجتمع هي أشياء قد تحررنا بعض الشيء من عبء عالم فيبر العلماني حيث لم تعد السياسة نداء أخلاقيا (إيتيقيا) ولا الدين تعبيرا عن الزهد.

لربما يحدد تايلر درامية الروح داخل المجتمع، لكن معنى ولغز الإله يبقى مراوغا بقدر ما هي مراوغة معضلة الوجود، وإن كانت الأخلاقيات والمثل الدينية وفق أطروحة تشارلز تايلر قد تجلت كأعراف مجتمعية. إن ثمة الكثير من الأسباب لقراءة التأملات العميقة لكتاب «عصر علماني»، إلا أن مراسلة الإله كي يصحو من نومه، ليست إحداها.