تكمن جاذبية العلم في أنه لا يمكن التنبؤ به؛ لا يمكنك أن تعرف مسبقًا إلى أين قد تقودك فكرة أو سؤال جديد. وأحيانًا يواجه العقل الفضولي طريقًا مسدودًا، وأحيانًا يواجه متاهةً، تشبه «متاهة المينوتور»، تستغرق سنوات وسنوات ليتحرك بداخلها. لكنه رغم ذلك، يدرك جيدًا أنه أول شخص ينظر إلى أفق جديد من الاحتمالات المذهلة.

محرر الجينات المعروف باسم «CRISPR/Cas9» هو واحد من تلك الاكتشافات غير المتوقعة، والتي تملك أفقًا جديدًا من الإمكانات المذهلة. فعندما بدأت إيمانويل شاربنتييه بفحص الجهاز المناعي للبكتيريا العِقْديَّة المقيِّحة «Streptococcus pyogenes» كانت إحدى المقترحات أنها ربما تطور شكلًا جديدًا من المضادات الحيوية. ولكنها في المقابل، اكتشفت أداةً جزيئيةً يمكن استخدامها لقطع جزيء الحمض النووي بدقة، مما يمكننا بسهولة من تغيير شفرة الحياة ذاتها!

وبفضل هذا الاكتشاف حصدت الفرنسية إيمانويل شاربنتييه والأمريكية جينيفر داودنا جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2020، لاكتشافهما أحد أكثر أدوات تقنية تحرير الجينات دقة، وهي المقص الجيني «CRISPR/Cas9»، والذي يمكن استخدامه لتغيير الحمض النووي للحيوانات والنباتات والكائنات متناهية الصغر بدقة عالية للغاية. أحدثت هذه التقنية ثورةً في علوم الحياة الجزيئية، وأتاحت فرصًا جديدةً في ابتكار علاجات للسرطان، وربما تحقق حلم علاج الأمراض الوراثية.

في عام 2011، كان اللقاء الأول بين إيمانويل وجينيفر، داخل مقهى في بورتوريكو، حيث اقترحا فيه بداية العمل على هذه التقنية.

كيف بدأت القصة؟

يصف البعض إيمانويل شاربنتييه بأنها يقظة ودقيقة وتملك الدافع، ويصفها آخرون بأنها تبحث دائمًا عما هو غير متوقع. ولدت إيمانويل عام 1968 في فرنسا، وحصلت على الدكتوراه من معهد باستور بباريس، وتعمل مديرة لوحدة علوم مسببات الأمراض في معهد ماكس بلانك، ببرلين في ألمانيا.

درست إيمانويل الكيمياء الحيوية وعلم الأحياء الدقيقة وعلم الوراثة، لكن تملك غالبية أبحاثها قاسمًا مشتركًا واحدًا: البكتيريا المسببة للأمراض. لماذا هي عدوانية جدًّا؟ وكيف تطور مقاومتها للمضادات الحيوية؟ وهل من الممكن إيجاد علاجات جديدة يمكنها أن توقف تلك البكتيريا؟

في عام 2002، عندما بدأت إيمانويل مجموعتها البحثية الخاصة في جامعة فيينا، ركزت على واحدة من أكثر أنوع البكتيريا المسببة للأضرار للبشرية: بكتيريا العِقْديَّة المقيِّحة، والتي تصيب كل عام ملايين الأشخاص، وغالبًا ما تسبب التهابات يمكن علاجها بسهولة، مثل التهاب الحلق والقوباء. ومع ذلك قد تسبب أيضًا نوعًا نادرًا ولكنه شديد الخطورة من العدوى، يمكنه أن يدمر العضلات والجلد والأنسجة، ولهذا يُطلق عليها أحيانًا “البكتيريا آكلة اللحم”.

ولفهم تلك البكتيريا بشكل أفضل بدأت إيمانويل البحث أكثر في كيفية تنظيم جينات هذه البكتيريا. وكان هذا القرار هو أولى الخطوات على طريق اكتشاف المقص الجيني.

حتى وهي طفلة، كانت جينيفر داودنا تملك رغبةً قويةً في معرفة الأشياء. وذات يوم، وضع والدها كتاب جيمس واتسون «الحلزون المزدوج – The Double Helix» على سريرها. كانت قصة الكتاب حول كيفية اكتشاف جيمس واتسون وفرانسيس كريك لبنية جزيء الحمض النووي، والتي كانت قصةً لا تشبه أي شيء قرأته في كتبها المدرسية، لقد أسرتها القصة، وأدركت جينيفر أن العلم أكثر من مجرد حقائق. ولدت جينيفر عام 1964 في الولايات المتحدة الأمريكية، وحصلت على الدكتوراه من كلية الطب بجامعة هارفارد ببوسطن. وتعمل أستاذة في قسم البيولوجيا الجزيئية والخلوية والكيمياء بجامعة كاليفورنيا.

ومع ذلك، عندما بدأت حل الألغاز العلمية لم يكن اهتمامها أو تركيزها على الحمض النووي «الدنا»، ولكن على شقيقه الجزيئي: الحمض النووي الريبي «الرنا». وفي عام 2006، كانت تقود مجموعة بحثية في جامعة كاليفورنيا، وقد دخلت مجالًا جديدًا مثيرًا: تداخل الحمض النووي الريبي «RNA interference».

لسنوات، اعتقد الباحثون أنهم فهموا الوظيفة الأساسية للحمض النووي الريبي، لكنهم اكتشفوا فجأة كثيرًا من جزيئاته الصغيرة التي تساعد في تنظيم نشاط الجينات داخل الخلايا، ودخول جينيفر في مجال «تداخل الحمض النووي الريبي» هو السبب في تلقيها مكالمةً هاتفيةً من زميل في قسم آخر مختلف.

نظام المناعة القديم للبكتيريا!

يخبرها زميلها، وهو عالم ميكروبيولوجي، عن اكتشاف جديد: عندما قارن الباحثون المادة الجينية لبكتيريا مختلفة جدًّا وجدوا تسلسلات الحمض النووي المتكررة والتي تم حفظها جيدًا داخل جينوم البكتيريا. تظهر نفس الشفرة الجينية مرارًا وتكرارًا، ولكن بين تلك التكرارات هناك تسلسلات فريدة تختلف، يشبه الأمر تكرار الكلمة نفسها في كل جملة مختلفة داخل الكتاب.

يُطلق على هذه المصفوفات من التسلسلات المتكررة اسم «التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد»، والتي يتم اختصارها في الإنجليزية إلى «CRISPR». الأمر المثير للاهتمام هو أن تلك التسلسلات الفريدة غير المتكررة في «كريسبر» تبدو متطابقة مع الشفرة الجينية لفيروسات مختلفة، لذا اعتقد الباحثون أنها جزء من نظام المناعة القديم الذي يحمي تلك البكتيريا من الفيروسات. كان يُفترض أنه إذا نجحت البكتيريا في النجاة من عدوى فيروسية، فإنها تضيف جزءًا من الشفرة الوراثية للفيروس إلى الجينوم الخاص بها كذكرى للعدوى، حتى لا تُصاب به مرةً أخرى.

لم يعرف أحد حينها كيف يعمل كل هذا، لكن كان الشك هو أن الآلية التي تستخدمها البكتيريا لتحييد الفيروسات تشبه تلك التي درستها جينيفر وهي «تداخل الحمض النووي الريبي». وهنا تبدأ جينيفر في تعلم كل ما يمكنها حول نظام «كريسبر».

اتضح أنه بالإضافة إلى تسلسل «كريسبر» اكتشف الباحثون جينات خاصة أطلقوا عليها اسم «CRISPR-associated»، والمختصرة باسم «cas». ما وجدته جينيفر مثيرًا للاهتمام هو أن هذه الجينات تشبه كثيرًا الجينات التي ترمز لبروتينات معروفة بالفعل، والتي تتخصص في تفكيك وقطع الحمض النووي. فهل بروتينات «كاس» تملك نفس الوظيفة؟ هل تستطيع قطع الحمض النووي للفيروسات؟

بدأت مجموعتها البحثية في العمل، وبعد بضع سنوات، نجحت في الكشف عن وظيفة العديد من بروتينات «كاس» المختلفة. وفي نفس الوقت، بدأت مجموعات بحثية في جامعات أخرى في دراسة نظام «كريسبر/كاس» المكتشف حديثًا. لتظهر خرائطهم الجينية أن أجهزة المناعة للبكتيريا يمكنها أن تتخذ أشكالًا مختلفة للغاية؛ فمثلًا ينتمي نظام «كريسبر/كاس» الذي تدرسه جينيفر إلى الفئة 1، وهي آلية معقدة تتطلب العديد من بروتينات «كاس» المختلفة لنزع أسلحة الفيروسات، بينما تعتبر أنظمة الفئة 2 أبسط لأنها تحتاج إلى عدد أقل من البروتينات. وفي الجزء المقابل من العالم، صادفت إيمانويل شاربنتييه مثل هذا النظام.

تجميع قطع اللغز!

عندما تركنا إيمانويل شاربنتييه كانت تعيش في فيينا، ولكنها في عام 2009 انتقلت إلى منصب يتمتع بفرص بحثية جيدة في جامعة أوميو بالسويد. كانت إيمانويل مهتمة أيضًا بجزيئات الحمض النووي الريبي الصغيرة المنظمة للجينات، وبالتعاون مع باحثين في برلين، قامت برسم خرائط الحمض النووي الريبي الصغير الموجود في البكتيريا العِقْديَّة المقيِّحة. أعطتها النتائج كثيرًا من الأمور لتفكر بها، لأن أحد جزيئات الحمض النووي الريبي الموجودة بكميات كبيرة في هذه البكتيريا كان متغيرًا غير معروف وقتها، والشفرة الجينية له قريبة جدًّا من تسلسل «كريسبر» الغريب الذي ظهر في جينوم البكتيريا.

أوجه التشابه بينهما أثارت شكوك إيمانويل في أنهما مرتبطان؛ يكشف التحليل الدقيق لشفراتهم الجينية أيضًا أن جزءًا من جزيء الحمض النووي الريبي الصغير وغير المعروف يطابق الجزء المتكرر من «كريسبر»، كان الأمر أشبه بالعثور على قطعتين من اللغز تتناسبان معًا.

لم تعمل إيمانويل قبلها على نظام «كريسبر»، لكن مجموعتها البحثية بدأت بعض الأبحاث الدقيقة لرسم خريطة للنظام في البكتيريا العِقْديَّة المقيِّحة. هذا النظام، الذي ينتمي إلى الفئة 2، كان معروفًا بالفعل أنه يحتاج فقط إلى بروتين «كاس» واحد ليتمكن من قطع الحمض النووي للفيروس. أوضحت إيمانويل أن جزيء الحمض النووي الريبي غير المعروف، والذي يُطلق عليه اسم «tracrRNA»، له أيضًا وظيفة مهمة؛ فهو مهم لكي ينضج جزيء «الرنا» الطويل، الذي يتم إنشاؤه من تسلسل «كريسبر» في الجينوم، إلى شكله النشط.

بعد تجارب مكثفة، نشرت إيمانويل اكتشافها في عام 2011، وهي تعلم أنها في أعقاب شيء مثير للغاية. حيث وصفت الآلية الجديدة، موضحةً أن ثلاثة مكونات تدخل في العملية: جزيئين من الحمض النووي الريبي، المعروفين باسم «CRISPR-RNA» و«tracrRNA»، وإنزيمًا كان اسمه في البداية «Csn1» ويُعرف الآن باسم «كاس9».

كانت إيمانويل تملك سنوات عديدة من الخبرة في الميكروبيولوجي، وفي أبحاثها المستمرة حول نظام «كريسبر/كاس9»، ولهذا أرادت التعاون مع عالم في الكيمياء الحيوية. وبالطبع، كانت جينيفر داودنا هي الخيار الأنسب. وعندما دُعيت إيمانويل إلى مؤتمر في بورتوريكو للحديث عن النتائج التي توصلت إليها، كان هدفها مقابلة تلك الباحثة الماهرة من جامعة كاليفورنيا.

مقص الجينات «كريسبر/كاس9»

اجتمعت الباحثتان في مقهى أثناء حضور المؤتمر، وفي اليوم التالي، أثناء نزهة في شوارع عاصمة الجزيرة، سان خوان، اقترحت إيمانويل فكرة توحيد القوى والعمل معًا. وفي عام 2012، بعد عمل المجموعة البحثية في السويد والأخرى في أمريكا، نشرتا ورقةً بحثيةً في دورية «ساينس» توضح اكتشافهما أن جزيء «tracrRNA» يشارك أيضًا في عملية انقسام الحمض النووي، ويتم توجيه إنزيم «كاس9» بواسطة جزيئي «الرنا» لقطع الحمض النووي الفيروسي في المكان الذي يحدده «CRISPR-RNA».

عملت المجموعتان معًا لدمج جزيئي «الرنا» في جزيء واحد، وأدت هذه الخطوة إلى تبسيط تطبيق أداة «كريسبر/كاس9»، لأنها تعني أنهم يحتاجون إلى برمجة جزيء واحد فحسب من الحمض النووي الريبي في تسلسل الجينات الذي كان على إنزيم «كاس9» أن يقطعه. ومن أجل قطع الحمض النووي في المكان المطلوب، يجب معرفة تسلسل الجين ذي الصلة فقط، وتصنيع جزيء «الرنا» المطابق. ثم يمكن للباحثين بعد ذلك إدخال قصاصة جديدة من الحمض النووي في مكان القطع، وبالتالي تشغيل تلك الجينات أو إيقاف تشغيلها.

بعد فترة وجيزة من نشر اكتشافهما للمقص الجيني «كريسبر/كاس9»، أثبتت عدة مجموعات بحثية أنه يمكن استخدام هذه الأداة لتعديل الجينوم في الخلايا لكل من الفئران والبشر. في السابق، كانت عملية تحرير الجينات في الخلية أو النبات أو الكائن الحي تستغرق وقتًا طويلًا وأحيانًا تكون مستحيلة، ولكن باستخدام المقص الجيني، يمكن للباحثين، من حيث المبدأ، قطع الجينوم في أي مكان يرغبون فيه. وبعد ذلك، يكون من السهل استخدام الأنظمة الطبيعية للخلية لإصلاح الحمض النووي.

نظرًا لسهولة استخدام أداة تحرير الجينات «كريسبر/كاس9»، فقد أصبحت الآن منتشرة على نطاق واسع في الأبحاث الأساسية، ويتم استخدامها لتغيير الحمض النووي للخلايا وحيوانات المختبر بغرض فهم كيفية عمل الجينات المختلفة وتفاعلها، كما هو الحال أثناء مسار الإصابة بالأمراض.

أصبح المقص الجيني أيضًا أداة قياسية في التكاثر النباتي؛ غالبًا ما تتطلب الأساليب التي استخدمها الباحثون سابقًا لتعديل جينوم النبات إضافة جينات لمقاومة المضادات الحيوية، ولكن عندما زرعت المحاصيل، كان هناك خطر انتشار هذه المقاومة إلى الكائنات الحية الدقيقة المحيطة بالنبات. وبفضل المقص الجيني، لم يعد الباحثون بحاجة إلى استخدام هذه الأساليب القديمة، حيث يمكنهم الآن إجراء تغييرات دقيقة للغاية على الجينوم. مثلًا، قاموا بتعديل الجينات التي تجعل الأرز يمتص المعادن الثقيلة من التربة، مما يؤدي إلى تحسين أصناف الأرز بمستويات أقل من الكادميوم والزرنيخ. كما طوروا أيضًا محاصيل تتحمل الجفاف بشكل أفضل في المناخ الأكثر دفئًا، وتقاوم الحشرات والآفات التي كان من الممكن التعامل معها باستخدام مبيدات الآفات سابقًا.

بينما في الطب، يساهم المقص الجيني في علاجات مناعية جديدة للسرطان، بجانب إجراء التجارب لتحقيق الحلم وهو علاج الأمراض الوراثية. يقوم الباحثون بالفعل بإجراء تجارب إكلينيكية للتحقق مما إذا كان بإمكانهم استخدام تقنية «كريسبر/كاس9» لعلاج أمراض الدم مثل فقر الدم المنجلي، بالإضافة إلى أمراض العيون الوراثية. كما أنهم يطورون طرقًا لإصلاح الجينات في الأعضاء الكبيرة، مثل الدماغ والعضلات؛ حيث أظهرت التجارب على الحيوانات أن الفيروسات المصممة خصيصًا يمكنها توصيل المقص الجيني إلى الخلايا المحددة، وتعالج نماذج من الأمراض الوراثية المدمرة مثل ضمور العضلات، وضمور العضلات الشوكي. ومع ذلك، تحتاج هذه التقنية إلى مزيد من الاختبارات والأبحاث قبل اختبارها على البشر.

إلى جانب كل فوائد تلك التقنية، يمكن أيضًا إساءة استخدام المقص الجيني «كريسبر/كاس9». على سبيل المثال، يمكن استخدام هذه الأداة لإنشاء أجنة معدلة وراثيًّا. ومع ذلك، كانت هناك منذ سنوات قوانين ولوائح تتحكم في تطبيقات الهندسة الوراثية، والتي تشمل حظر تعديل الجينوم البشري بطريقة تسمح بتوريث التغييرات.

ربما سنواجه قضايا أخلاقية جديدة، تتطلب وضع قوانين جديدة، لكن ما نعرفه أن هذه الأداة قد تساهم بشكل مميز في حل العديد من التحديات التي تواجه البشرية الآن. ومن خلال اكتشافهم، طورت إيمانويل شاربنتييه وجنيفر داودنا أداةً كيميائيةً نقلت علوم الحياة إلى عصر جديد. لقد جعلتانا نتطلع إلى أفق شاسع من الإمكانات المذهلة، وعلى طول الطريق، بينما نستكشف هذه الأرض الخصبة، سنحقق اكتشافات جديدة وغير متوقعة.