الشعور الذي يغمرك عندما تحقق نجاحًا في العمل أو الحياة، تلك الوغزة التي تصيبك بالسكْر المؤقت. تحاول أن تضم العالم كطائر يحلق بجناحيه، أن تتغلب على بشريتك وتصير من المردة. هذا التيار الهائم الذي يطرد كل شعور آخر قد يشوب تلك الغفوة.

كيف يتفجر فجأة ويتلاشى سريعاً!


لغز السعادة الفلسفي

هل يمكن أن نحدد مفهوم السعادة؟ شغل تعريف السعادة الفلاسفة منذ اليونان القديمة، مرورًا بالأدب وحتى العلم في القرون الحديثة. ظل صوغ مفهوم يعرف السعادة غامضاً. يصف أريستبوس اليوناني في القرن الرابع قبل الميلاد السعادة أنها هي اللذة الحسية hedonia. لكن، خالف فلاسفة مثل أرسطو هذا المفهوم فالسعادة لديهم eudaimonia، تعني القيم الخيرية والعقلية مثل الغنى الداخلي والفضيلة والحكمة. يرى إبيقور أن السعادة هي صفاء الروح وغياب الألم والخلود للراحة والدعة، يُعَرِّفها أفلاطون بأنها التناغم بين الغايات المتعارضة.

يشدد كانط على عجز الإنسان عن تحديد مفهوم يعرف السعادة نظرًا لرغباته المتداخلة والمتعارضة في آن واحد، ويطرح تساؤلاً، هل السعادة هي الغاية أم أنها وسيلة للعيش؟ لكن نيتشة يدّعي أن مفهوم السعادة والخلود للراحة وإشباع الرغبات لا تعد شيئًا أمام قوة الإنسان في رفض الإغراء والتناغم وتحكمه في رغباته. الفيلسوف الهولندي سبينوزا يصفها أنها العاطفة التي يصل فيها العقل البشري لقمة الكمال عندما يفهم ويتأمل في غياهب الكون المادي، في حين أن ديكارت يرى أن انتظار العقل لإرضاء افتراضاته المسبقة هو الذي يخلق هذا الشعور الطاغي عندما تتحقق.

في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بدأ ظهور علم النفس والطب النفسي الذي تطور فيما بعد من علاج المرض العقلي إلى مساعدة البشر على تحسين حالتهم النفسية.


جهاز عصبي متطور

ماذا يريد هؤلاء من الحياة سوى السعي خلف السعادة من أجل البقاء

يقول فرويد

يمكن أن تكون الحيوانات سعيدة بمعنى قدرتها على إشباع رغباتها الحسية، لكن الإنسان الذي أفضت إليه رحلة تطور استمرت 4 بلايين عام هو الوحيد القادر على إدراك هذا الإحساس. أن يتساءل عن ماهية شعوره ويعمل على استدامة هذا الشعور لأطول وقت. السؤال هنا، هل يترك الإنسان العنان لرغباته ورفاهيته أم يطاوع رغبة جيناته في البقاء والتضاعف؟

كانت مرحلة تطور الخلايا الأولية نحو التنوع والتشعب والاتحاد لتكوين كائنات متعددة الخلايا أكثر قدرة على البقاء والتناسل من أهم مراحل التطور. برزت الخلية العصبية التي تعمل على توصيل الرسائل بين الخلايا المختلفة. وعندما أصبحت الخلايا أكثر تعقيدًا ظهرت النواقل الكيميائية بين الخلايا وعندما تطورت الكائنات وتشعبت. بدأ ظهور العقد العصبية ganglia والخلايا الحسية والجهاز العصبي الذي كان في البداية يعمل كرد للفعل المنعكس ولتحريك العضلات.

برزت الحاجة إلى معالج للبيانات فتطور المخ الذي يعالج الإشارات المختلفة وينظمها. أضاف المخ عملية التعلم learning، التي تعني أن الكائن الحي سوف يؤسس ردود فعله المستقبلية للأحداث المتشابهة طبقًا لخبرته السابقة في التعامل معها. هذا التعلم لا يتطلب مشاعر والتي بدورها تطورت كرد فعل مصاحب عندما أضاف العقل العملة وهي القيمة value التي يقيم بها الاحتياجات الأساسية أثناء معاجلته للخيارات المختلفة لاتخاذ قرار.

ويعد العقل البشري أعظم لوحة نقشتها رحلةالتطور.عقل الإنسان يتكون من بلايين الخلايا العصبية وبلايين من الخلايا المساعدة لها وتريليونات من الوصلات العصبية التي ترسل الإشارات خلال أجزاء من الثانية. هذا التعقد يشكل عقبة أمام العلماء الذين يحاولون سبر أغواره. وما زال ينقصنا الكثير من البحث عن الكيفية الشاملة لعمل هذا الجهاز الضخم في رأسنا.


النواقل العصبية neurotransmitters

يتصل المخ بالأعصاب ويتبادلون الرسائل. ساعي البريد بينهما يطلق عليه الناقل العصبي أو الكيميائي neurotransmitter وهي عبارة عن مواد كيميائية تتنقل خلال التشابكات العصبية synapse. التأثير الذي يحدثه الناقل الكيميائي يختلف على حسب طبيعته.

التشابك العصبي
التشابك العصبي synapse

هناك نوعان أساسيان من النواقل العصبية الكيميائية: نواقل مثيرة لما يسمى بجهد الفعلaction potential، وهو عبارة عن شحنة كهربية ناتجة من تركيز الأيونات غير المتعادلة على الغشاء الخلوي. عندما تثار مثلاً في العضلات يحدث الانقباض. والنوع الآخر من النواقل الكيمائية تثبط جهد الفعل عندما تثار في العضلات لا يحدث انقباض.


نواقل السعادة العصبية Happiness neurotransmitters

عندما تشعر بالفرح أو اللذة فإن عقلك يستجيب ويفرز نواقل عصبية تصاحب هذا الشعور مثل الدوبامين dopamine والسيروتونين serotonin وأوكسايتوسن oxytocin والاندورفين endorphin.

في العادة ينتابك إغراء طلب المزيد من هذا الشعور اللذيذ لأن عقلك مصَمَّم كي يسعي خلفها، لكنك لن تجدها كل مرة. عقلك لن يطلق كيماويات السعادة إلا إذا وجد أنها تلتقي مع متطلبات أساسية للبقاء مثل الطعام والشعور بالأمان والحاجة إلى دعم من الآخرين. تحصل على ومضة قصيرة ثم يعود عقلك إلى المستوى الطبيعي في انتظار ومضة برق أخرى، لذلك عندما لا تشعر دائمًا بالسعادة. لا تحزن فهو أمر طبيعي.

عقلك الذي يبني احتياجاته على البقاء يصنع مسارات تشبه أنهارًا من السعادة وأيضًا للحزن والكآبة. تعتمد عملية تحفيز النواقل على الدوائر العصبية التي بنيت وتشكلت منذ الطفولة. عندما تتناول طعام أو عند اللقاء الجنسي كذلك في ممارسة الرياضة، عند النجاة من الخطر أو تحقيق هدف شاق.

للحزن والكآبة أيضًا نواقل كيميائية تثار من تلك الدوائر التي تشكلت منذ الصغر، لذلك الإفراط في السعادة قد ينقلب إلى حزن.

يتحكم في نواقل السعادة تلك أجزاء من المخ وتطلق عليها جميعًا الجهاز الحوفي limbic system. يحيط بالجهاز الحوفي القشرة cortex ويعملان معًا على حفظ الحياة والحمض النووي. القشرة تبحث عن أنماط في الحاضر توافق الأنماط التي خبرتها من قبل، وتترجم الإشارات المختلفة. والجهاز الحوفي يطلق النواقل الكيميائية التي تعمل على تمهيد المسارات أو أنهار المشاعر وتوسعتها بتكرار المؤثرات.


أريج اللذة يسري في العصب

الإحساس الممتع الذي نجده عندما يجد المخ إشارة تثير الدوائر العصبية لتنشط النواقل الكيميائية التي يمكن تسميتها نواقل السعادة، وعندما ينتهي المؤثر يعود المخ لوضع الاستعداد للمؤثر التالي بما يخدم حاجات البقاء المورثة والمختبرة منذ الصغر. فيما يلي تعريف موجز بأهم النواقل العصبية وتأثيرها على الشعور.

1. السيروتونين Serotonin

كثيرًا مايتعرض الإنسان إلى موقف يحتاج إلى الشجاعة والثقة مثل إلقاء خطاب أو إجراء حوار جماهيري. عندما يتغلب الاإنسان على خوفه ويلقى استحسان الآخرين ويكتسب مزيجًا من احترام الذات والإنجاز والقيمة الاجتماعية. هنا يظهر السيروتونين في المشهد. يصاحب السيروتونين شعور الإنسان بالكبرياء ويزداد عند الإحساس بالقيمة الذاتية.

يسبب السيروتونين زيادة في الشعور بالثقة وتنظيم المزاج ووجوده يقلل من حالات الهلع. بالإضافة إلى تنظيمه لدورة النوم بالمشاركة مع مادة الميلاتونين. يساعد في تنظيم حركة الأمعاء وتنظيم الشهية. طبقا للدراسة؛ وجود البكتيريا المعوية في مراحل النمو المبكرة يساعد على زيادة إنتاج السيروتونين.

عملية إعادة امتصاص السيروتونين بعد إفرازه

يسمى السيروتونين أيضًا (5-hydroxytryptamine)، حيث يشتق من الحمض الأميني التريبتوفان. يتم صناعة السيروتونين في الجهاز العصبي المركزي وكذلك في خلايا تغلف جدار الأمعاء تسمى enterochromaffin cells. يتم إنتاجه من خلال شبكة معقدة من المستقبلات والنواقل بعضها حر والآخر ثابت.

انخفاض نسبة السيروتونين تزيد من تعرض الإنسان للاضطراب النفسي والقلق. الكثير من أدوية الاكتئاب والأمراض النفسية مثل الأدوية التي تعمل على تثبيط امتصاص السيروتونين (serotonin euptake inhibitors) تعتمد على الإبقاء على السيروتونين في التشابكات العصبية فيزداد وجوده مما يحسن من الحالة النفسية.

إذا أردت مزيدًا من السعادة مارس الرياضة. عندما تمارس النشاط البدني يفرز جسمك المزيد من التريبتوفان الذي يتحول إلى سيروتونين. كذلك التعرض لضوء الشمس يزيد من إنتاج السيروتونين حيث تقل نسبته في الشتاء طبقًا لـphotic cycle. لعلك لاحظت إصابة بعض الأشخاص باكتئاب الشتاء الموسمي، الذي يحدث نتيجة انخفاض نسبة السيروتونين الذي لا يزول سوى بعودة شمس الصيف المبهجة.

2. الدوبامين dopamine

عندما تضع هدفًا وتحققه تشعر بنوع من السعادة الدافئة بالنجاح، يشبه هذا الإحساس المكافأة بعد التعب. تَخبُر هذا الإحساس وتود تكراره بل تطارده. عند تناول شخص مادة مخدرة يشعر بتلك الحالة من الإشباع التي يود لو تمكث للأبد.

يتجلى الدوبامين في صورة المتعة والإرضاء. يساعد في تنظيم وتدفق المعلومات في المخ إلى مراكز المكافأة والتحفيز. يسمى الدوبامين reward molecule جزئ المكافأة. عقلك يحتفل ويطلق الدوبامين عندما يلمح هذه المؤثرات ويدركها.عند قيامك بوضع هدف وتنجح في تحقيقه سوف يقفز الدوبامين في عقلك راقصا.

العديد من المواد المخدرة مثل الكوكايين والميثأمفيتامين تعمل مباشرة على زيادة الدوبامين مما يكسب الإدمان سلطته الطاغية. لو أنك هذا الشخص الانفتاحي extrovert سيكون لديك نسبة أعلى من الدوبامين.

النقص المرضي في نسبة الدوبامين يسبب اضطرابات ذهنية وبعض الأمراض مثل مرض الشلل الرعاش Parkinson’s disease، الذي يؤثر على قدرة الإنسان على الحركة. استهلاك الدوبامين في التفكير أو العمل الذهني بشكل مفرط يسبب لبعض الأشخاص اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط ADHD. المماطلة وعدم الثقة بالنفس ونقص الحماسة كلها أعراض لنقص الدوبامين.

عندما تقسم أهدافك إلى أجزاء يسهل تحقيقها فإنك تعطي لعقلك الفرصة للاحتفال مع كل إنجاز. وضع سلسلة من الأهداف الصغيرة المتعاقبة تجعل الحفل يستمر حتى الصباح.

3. أوكسايتوسين Oxytocin

يسمى جزئ الترابط bonding molecule. يعطي إحساس الترابط مع الآخرين والثقة والألفة. وبعض الأبحاث تربط زيادة نسبة الاوكسايتوسين عند التعلق العاطفي، فهو ينتشر برفق ويحدث الترابط. يزداد نشاطه بالتواصل الجسدي ويقل عند غيابه. فهو يظهر عند رضاعة الأم للطفل وفي العلاقات الحميمة بين الرجل والمرأة. عندما تعانق شخصًا ما يتدفق الاوكسايتوسين كعنوان للرقة والتواصل.

4. الاندورفين Endorphin

إعادة امتصاص السيروتونين
إعادة امتصاص السيروتونين

عندما تتعرض للألم الشديد أو الجهد البدني الشاق. عندما تنغزك آلة حادة، هذا الشعور بالألم في حاجة إلى أن يطمس وينسى. يصعد الاندورفين إلى الحلبة وينسيك هذا الشعور المريع.

يغلف وجهه بالنشوة euphoria. يطلق عليه المركب قاتل الألم The Pain-Killing Molecule.

الاسم إندورفين يترجم إلى (المورفين المنتج ذاتيا)، فالاندورفين يشبه الأفيونيات opiates في التركيب الكيميائي وله تأثير مسكن. يفرز الاندورفين من الغدة النخامية عند التعرض للألم أو الإجهاد الشديد.

السعادة هي مزيج من الرقة والتعقيد في آن واحد. وسوف تظل مفهومًا ملغزًا. هناك العديد من المواد الكيميائية تؤثر على شعور الإنسان. لتستمر النواقل العصبية في الألق مع كل شعور متدفق. ضع هدفًا محددًا وأنجزه ليتدفق الدوبامين. تحظى بالإحساس بالفخر ليعانقك السيروتونين. هذا التواصل الجسدي مع الآخر يولد الاوكسايتوسن. لا تخف من الإجهاد البدني فسوف ينسيك الاندورفين كل ألم.

المراجع
  1. The Biology of Happiness by Bjørn Grinde
  2. ABrief History of Happiness by Nicholas White
  3. The Neurochemicals of Happiness
  4. Brain Basics