الموت هو أكثر الأمور العادلة في ذلك العالم… ليس هناك من ينجو منه… ينتهي المطاف بالجميع تحت الأرض… الطيبون والقساة والمذنبون… وبجانب كل ذلك، فليس هناك عدالة على هذه الأرض.

من رواية «صلاة تشرنوبل» للكاتبة البيلاروسية «سفيتلانا أليكسييفيتش»

فجر السادس والعشرين من أبريل/نيسان عام 1986، وفي قلب المدينة التي اعتادت أن تظل هادئة طوال الوقت، اشتعلت النيران، لكنها لم تكن كأي نيران أخرى يمكن أن يراها الجميع أو يشعر بها، فريحها وحده يمكن أن يذيب جسدك، أما عن كل محاولاتك البائسة لإخمادها فستنتهي عبثًا… فأنت تتعامل مع شعلة ربما لن تنطفئ إلا بعد 24 ألف عام!

لم يكن يدري أحد أن هناك حدثًا جللاً في انتظار تلك المدينة، الجميع قابعون في المنازل، ما بين نائم من التعب أو منتظر لشروق الصباح، حتى بدأت النيران في الأفق وعلى مرأى من الكثيرين في الخروج من سطح المبنى الأكثر رعبًا في المدينة الأوكرانية.

جرت الاستدعاءات لكل من يمكنهم القيام بدور ما، في انتظار أن يكون الأمر مجرد حريق ستنهي وحدات الإطفاء أمره، لكن الغموض كان سمة ذلك العصر، لذا فكان من الطبيعي ألا يدري أي من سكان مقاطعة «بريبيات» أو مدينة تشرنوبل بشكل عام أن بعضًا من ذرات الغبار على وشك قتلهم بصورة بطيئة.


«ساشا يوفيشينكو»

بذراع يسرى مشوهة فُقد نصفها، وزوجةٍ قررت أن تبقى رفقة زوجها حتى آخر العمر، روى ساشا وزوجته ناتاشا ذكريات اللحظات الأولى.

لنقترب معًا داخل الصورة أكثر، المدينة الأوكرانية الواقعة على حدود بيلاروسيا، تلك التي لا يخرج الكثير من سكانها إلى الشارع في ساعات الليل، وفي لحظة صفاء تصدمك موجة رعد قوية دون أي سابق إنذار، تهتز الجدران الخرسانية، وتواتيك لوهلة أن الحرب قد اشتعلت فجأة من جديد. قد يكون تصور نشوب الحرب من جديد بعيدًا بعض الشيء عن بعض ممن ينزلقون داخل هذه السطور الآن، حتى أنك قد تسأل نفسك: ولمَ الحرب؟ أي حرب ستنشب عام 1986؟ قد يتعلق الأمر بالشتاء والأمطار، لكن الحقيقة أن سكان هذه المدن وفي ذلك الوقت شغلتهم تصورات نشوب الحرب طوال الوقت.

حل الظلام على كل شيء، خرجت دفقات الغبار المشع بكثافتها القاتلة إلى الأجواء، لكن يوفيشينكو وزوجته وكل من سكن في ذلك النطاق لم يكن يدري السبب، وعلى الرغم من ذلك فقد كان يوفيشينكو وزوجته محظوظين بأنهما ظلا على قيد الحياة بعد كل تلك السنوات، وذلك لأنه حينما استُدعي يوفيشينكو إلى موقع الحادث بقي خارجًا كما كانت مهمته تقتضي، تاركًا زملاءه الثلاثة يستنشقون الغبار ويفارقون الحياة بعدها بأقل من 15 يومًا.

وللمفاجأة، أحد أصدقاء يوفيشينكو هو «خومتشوك»، أول ضحايا الحادث، وأول من هاجم الانفجار كيانه داخل الدور السفلي من المفاعل.

وبحلول اليوم الثاني كانت ذرات الإشعاع في الجو قد تمكنت من جسد يوفيشينكو، وظهرت آثارها على جسده، لكن القدر كان له حساباته، فقد نُقل إلى موسكو وتلقى بعض العلاج، ومن بين الإجراءات التي خضع لها هو بتر نصف ذراعه اليسرى، وقد رأى يوفيشينكو أن ذلك أفضل بكثير من وضع أخيه الذي ظلت يده مجبرة لسبع سنوات!


صرخات تشرنوبل الصاخبة

من رواية «صلاة تشرنوبل»

كما فعلت الكاتبة «سفيلاتا أليكسييفيتش» في روايتها ذائعة الصيت «فتيان الزنك»، فعلت كذلك في رواية «صلاة تشرنوبل»، حيث قابلت العديد ممن نجوا من تلك الكارثة، فجمعت الشهادات والصور والأسماء، وأخرجتها في صورة تليق بالحزن الروسي القديم، ذلك الذي يمكنك أن تلمسه بمجرد أن تمسك بين يديك صفحاتٍ مما كتبته سفيلاتا.

روى «نيكولاي فومين كالوغين» وهو أحد الناجين من الكارثة كيف واجهت أسرته ما حدث في ذلك اليوم، إذ يروي أنه بعد يوم ونصف تقريبًا من الانفجار، بدأت القوات الشرطية والمدرعات العسكرية في الانتشار في الشوارع ودخول البيوت، لإخلائها من السكان واصطحابهم في حافلات كبيرة إلى خارج المدينة، دون أن يبلغهم أحد سبب الإخلاء.

لم يكن أحد من السكان يفهم أو يعي ما هي الكارثة التي يعيشونها، حتى تفاجأ نيكولاي بأن زوجته وابنته قد ظهرت بعض البقع السوداء على جسديهما.

انتشرت الإشاعات بين السكان المسافرين في الحافلات، وذلك بعد أن وصلتهم التعليمات بحظر اصطحاب أي من الأمتعة الموجودة بالمنزل، أو أي نوع من الحيوانات الأليفة، أو أي نوع من الملابس.

يروي نيكولاي أنه حينما وصل إلى المشفى بعد زوجته وابنته، وجد أن الغرفة التي تنام فيها ابنته بها 7 فتيات أخريات، كلهن بلا شعر على رؤوسهن، وجوه شاحبة وبعض البقع المرضية غير المفهومة، وبمجرد أن جلس جوار ابنته قالت بصوت متهدج لأبيها «إنني لا أريد أن أموت، فأنا ما زلت صغيرة».

لم يمضِ الكثير من الوقت حتى ماتت ابنة نيكولاي، كما ماتت الفتيات السبع الأخريات اللواتي كن في الغرفة برؤوس حليقة.


من أجل المستقبل

لم يكن كافيًا الحديث عن الأطفال الذين لقوا حتفهم عقب وقوع الكارثة بوقت قليل، لكن الأمر ظل مستمرًا إلى ما بعد الحادث بسنوات طوال، خاصة وأن قوة الإشعاع كانت كبيرة بما يكفي لتهاجم العديد من الدول.

وقد كانت السيدة إيغناتينكو أول من قدم الدليل على ذلك، بعد وفاة مولودها بساعات بعيد ولادته متأثرًا بالإشعاع، فيما كشفت دراسة أجُريت عام 2009 عن الأطفال الذين تعرضوا لأي شكل من أشكال الإشعاع الذري خلال فترة الحمل -في حال ولادتهم- هم أكثر عرضة للإصابة بالسرطان خلال العشرين عامًا الأولى من حياتهم.

وفي العام 2016، وبعد مرور عقود على الحادثة، كشفت الأمم المتحدة في إحدى دراساتها، أن الدول المتأثرة بحادث تشرنوبل بشكل مباشر بلغ عددها 3 دول، ووصل عدد الأطفال المصابين بأعراض السرطان بسبب الإشعاع إلى 11 ألف طفل، في مراحل عمرية مختلفة.

لكنه وعلى الرغم من ذلك كله، ربما ستهاجمك المفاجأة وهي أن العشرات ممن أجبروا على الرحيل عن المدينة قرروا العودة، قرروا أن الحياة هنالك كانت أفضل وأن تاريخ أسرهم وقصص منازلهم القديمة التي شهدت القصة منذ بدايتها أحق بأن يعود إليها سكانها.


«ماريا كوفالينكو»

اجتمعنا كلنا في موسكو بعد أن اشترينا الأوشحة السوداء… أقاربي وأقارب زوجي المتوفى… استقبلتنا لجنة الطوارئ، وأخبرت الجميع بنفس الكلام: «لا نستطيع إعطاءكم جثث أزواجكم أو أولادكم، فهي مليئة بالإشعاع، وسوف ندفنها جميعها في مقبرة خاصة في موسكو، في توابيت من الزنك محكمة الإغلاق، تحت طبقات من الإسمنت السميك، يجب عليكم أن توقعوا هذه الوثيقة، نحن بحاجة لموافقتكم»… وإذا تذمر أحد ما، أخبروه بأن ذويهم صاروا أبطالاً، ولم تعد أجسادهم ملكهم، بل صارت ملكًا للدولة.

واحدة من النساء اللواتي خرجن من بريبيات رفقة أطفالهن إبان وقوع الحادث، عادت وبعد سنوات طوال، رفقة ابنتيها إيرينا وأولينا، ليجدن كل شيء في منزلهن كما هو على حاله، الأسرِّة والأثاث والملابس وكل شيء كما هو، وكأن المنزل، وبعد كل هذه الأعوام، لم تطأه قدم بشري.

وفي تلك اللحظة التي يمكن الحديث فيها عن مستويات الإشعاع التي لا زالت نشطة ومرتفعة في محيط بعض المناطق المحيطة بمكان الحادث، إلا أن عائلة ماريا ومعها عدد ليس بالقليل قرروا أن العودة إلى المدينة المنكوبة هي الخيار الذي لا رجوع عنه.

فحادت تشرنوبل كان أكبر وأخطر من مجرد كارثة قومية قد تطال بلدًا بعينها، فالحقيقة أن 3 بلدان لا زالت غارقة في دفقات الموت الذي ترسب داخل أجساد من عايشوا تلك الكارثة، ولا زالت الكثير من الأثمان تُدفع، في قصة ربما تعجز كل قصص الدراما والحكايات عن سبر أغوارها.