مثل الطفل والبيئة كمثل الشجرة التي لا تنمو خارج تُربتها إلا بتوفير بيئة صناعية لها. هكذا نفعل.. نُبعد الطفل عن المُعلم الأول -الطبيعة- ونغرقه في بيئة صناعية مُزيفة من الأنشطة والبلاستيكيات والإلكترونيات لتعويض حرمانه. فنستبدل بحياتهم (الطبيعية) أخرى (صناعية مُزيفة)، رُغم أن كل ما يحتاجه الطفل موجود في البيئة الطبيعية من حوله، هناك يُمكنه أن يمتص رحيق نموه كاملًا، جسدًا وعقلًا وروحًا. فقط ضع طفلك في مساحة خضراء مفتوحة بلا قيد للعب، فكأنك وضعت (الفيشة) في مكانها الصحيح..

الآن يبدأ التشغيل الفعلي للطفل مع الصديق الذي لا يعاديه ولا يمل حضوره، فالبيئة -لدى الطفل- تحل محل كل شيء ولا يحل أي شيء محلها.


لماذا اللعب البيئي بهذه الأهمية؟

الخَلْق

قل لطفلك أن ينظر أسفل قدميه، تحتها المادة الخام الأولى للخيال والفن: (الطين)، تلك العجينة الصلصالية التي يستطيع بها الطفل تجسيد خيالاته وأحلامه في صورة ملموسة بين يديه. يشكل تارة ما يعرف فيطلق عنان مهاراته، ويكتفي تارة بضغطات يد عشوائية تُنتج ما لا يعرف، فيُعمل خياله. المادة الأولى للخلق بين يديه يصنع بها ما يشاء.. يا لهذه الروعة!

السَّمع

الابتعاد عن الضوضاء والصخب والأصوات الكهربائية وزن المواتير والماكينات في كل الأماكن سيتيح للطفل التقاط صوت الطبيعة التي لا تصمت أبدًا. الطيور، الهواء، مناوشات القطط، وحوارات الطيور، التأمل والاستماع لكل ذلك يعيقه صخب الحداثة، ويعمي عينه ألوان الشاشة الحادة وأصواتها الصاخبة.

هناك وسط الطبيعة فقط حينما يهدأ صوت الحداثة، تحتد أذنا الطفل ويبدأ في الملاحظة، سمعًا وبصرًا وإحساسًا.

الصديق

الشجر الذي يلعب الطفل ويدور حوله دون أن ينهاه عن اللف والدوران مثلما تفعل أنت، سُكون الجذع أثناء محاولات الطفل صعوده فرصة لا تتحقق على غير الشجرة، فالكل ينهاه عندما يحاول صعوده، الشجرة هي الكائن الحي الوحيد الذي لا يفعل.

الأوراق بأشكالها والحياة التي تحملها، دعاسيق ويرقات وديدان ملونة وفراشات وعشرات الحشرات الجميلة، الورد الذي يُحال ثمرًا، فرص أكثر بكثير من تلك التي ستتاح أمام التاب أو التلفاز أو داخل المنزل، أيًا ما كان يفعله.

مثلًا هذا الحلزون الموجود بكثرة وسط الطبيعة، هدوؤه أثناء السير، متابعة الطفل له في صبر وهدوء. اختفاء الحلزون المباغت حينما يلمسه ذلك الإصبع المستكشف.. كل هذه الأشياء ستُعلم الطفل الصبر وستُعلمه عدم الاندافع والتأني.

قل لي! أي الأشياء يمكنها أن تُعلم هذا الملول الفضولي الصبر وعدم الاندفاع مثل هذا الحلزون؟


أشياء لا تُعلِّمُها الحداثةُ

تقول الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال حينما حددت وقت الشاشة المتاح للطفل إن هناك ما لا يمكن تعليمه عبر الشاشة، مثل الصبر، الصدق، الأخلاق، والمهارات الاجتماعية، فالشاشة يمكنها أن تُنمي المشاعر أو المعلومات الأكاديمية أو تعليم القراءة والكتابة والمجردات مثل الألوان وغيرها، لكن لا دور لها في تعليم الحِكمة والأخلاق والتأني وعدم الاندفاع والصبر لأطفال الأعمار الصغيرة.

لذلك ما ستعطيه البيئة الطفل اللعب والاحتكاك والسقوط والنهوض والتفكير واكتساب الخبرات والتعلُّم وإطلاق عنان الخيال واقتراب الطفل من فطرة الطبيعة، وبالتالي فطرته هو نفسه، اللعب الحر: (أن يلعب بما شاء كيفما شاء) كذلك (اللعب المتداعي)، وهو أن يلعب بشكل عشوائي هَدْمي، كأن يمسك غصنًا ليضرب جذع شجرة أثناء لعبة أو يمسك الأحجار ليلقيها في الأعلى أو يقوم ببناء شيء ما ثم ركله بقدمه والقفز فوقه لتدميره (هذا يسمى باللعب المتداعي وهو مهم عند فرويد ولا يعني السماح به، السماح للطفل بضرر نفسه أو الإضرار بما أمامه).

كل ذلك لن تستطيع تعويضه بأي وسيلة كانت أمام الأجهزة الإلكترونية أو داخل المنزل، فالأرض لا يغني عنها شيء، وهي تُغني عن كل ما دونها.


أنشطة التربية الحديثة ما هي إلا ألعاب البيئة القديمة

عندما يجلس الطفل في البيئة ليمسك الأحجار مختلفة الحجم والشكل أثناء لعبه العشوائي لرصّها فوق بعضها ليشكّل عمودًا أو برجًا، ما الذي يفرق ذلك عن البرج الوردي في المنتسوري؟ كلاهما يعلم تتابع الأحجام، بل بناء برج الطوب سيعلم الطفل ملاءمة الأسطح وتناسب الأشكال والاتزان وحساب البروز والنتوءات.

مهارات مُتعددة تتاح له بمجرد جلوسه على الأرض وانخراطه في البناء والسقوط وجمع المعلومات عن الأحجار واختبارات الثبات. حقيقة أنت تحتاج لدرزينة من الألعاب الخشبية بمقابل مادي كبير، لتعويض جزءٍ بسيط مما تقدمه لك البيئة مجانًا.

– السبعاوية: 7 أحجار فوق بعضها يحاول الطفل إصابتها عن بُعد بالكُرة، أسميناها (بولينج poling) ووضعنا لها أسعارًا مختلفة من الرخيص المُضرة خاماته إلى الآخر الباهظ.

– قذف الأحجار بعيدًا: احرم طفلك من هذه اللعبة التي هي لا شيء في الطبيعة ولن تضر كائنًا، وسيقوم هو بإلقاء كل ما تطاله يده في المنزل على الأرض في سبيل اللعب وتمضية الوقت، ستبحث وقتها على شبكة الإنترنت عن: “طفلي يُلقي بكل شيء على الأرض، ماذا أفعل؟”

– تجميع الحصوات والأوراق والأغصان المتشابهة في الحجم أو الشكل، الجَمع والمطابقة والمقارنة بينها.

– اللعب في الرمل والطين، وهو طبعًا أمرٌ مختلفٌ عن الصندوق الرملي المُجهز الذي نشتريه لأطفالنا. حقيقة إن وضع بعض الرمال في صندوق خشبي وتركها للطفل انفصال عن الطبيعة لا انخراط فيها.

– ربط بعض الحصوات والأحجار المتتابعة في حبل.

– متابعة الحياة والتعرف عليها وعلى الكائنات الحية وجهًا لوجه.

كل هذه أشياء تُغني عن ألعاب: المطابقة، والتصنيف، واللضم، والمقارنة، والصلصال الجاهز، وصندوق الرمل، والكروت التعليمية، ولا تغني هذه الألعاب عن البيئة.


في النهاية لن يوفي المقال أركان الطبيعة في حكاياتها للطفل، لم نتحدث عن متابعة مراحل نمو النبات ودور الجذع والفرع والورقة، وحبة اللقاح وعقد الثمرة، وتقنيات دفاع النبات والحشرات، هذه الحياة التي تحدث في هذا الصمت الصاخب ستعلم الطفل الإنصات.

كيف يصبح (روث) كائن حي (غذاء) كائن آخر، يتغذى عليه صاحب الروث الذي يُغذيه بروثه.. دائرة الحياة البيئية أشياء لا تستطيع الكتب والصور الجافة إفهام الطفل فلسفتها، المعايشة فقط مرأى العين والملمس قادرة على ذلك.

لذا هناك حياة كاملة، لا يمكن فردها في مقال، تنتظر طفلك في أي مساحة خضراء بِكر مفتوحة. وكذا ينتظرها طفلك، فلا تقف بينه وبينها. بل كن عونًا له.