دخلت البيت مُتعباً، لم يقابلني ابني مُهلِّلاً كعادته، بحثت عنه فإذا هو يطيل النظر إلى حذاء صغير في يديه ويحدق فيه بحب، أول ما خطر ببالي هو من أين أتى هذا الحذاء؟ سألته، فالتفت إليّ وقال: «أبي! أرأيت حذائي الجديد كم هو جميل!». كرّرت السؤال بنبرة حادة لا تخلو من الاتهام، على الفور أدركها طفلي، وأجاب مُسرعاً: «لا يا أبي، لا تظن بي السوء، حاشاك أن تُربِّي لصاً! أنا أدخر مصروفي منذ فترة طويلة، واليوم اشتريته».

لا شك أن هذا الطفل -أو الرجل الصغير إن صح القول- لديه شخصية مسؤولة، تضع أهدافها نصب عينيها حتى تحققها. علم أن والده لن يستطيع شراء الحذاء، فبادر بادخار مصروفه البسيط حتى جمع ثمن الحذاء واشتراه، ثم جلس يشاهد ثمرة ما فعله، من أين أتت هذه الصفات الشخصية الحميدة؟

يتساءل بعض الآباء، هل السمات الشخصية للطفل موروثة أم مكتسبة؟ هل شخصيته مُحددة من قِبَل عوامل جينية أم أن التربية هي العامل الأول؟ لنناقش هذا الأمر معاً.

بعض الطباع والسلوكيات الشخصية مصدرها جيني أو غير مُكتسب، وبالتالي هذا النوع من الطباع لا يتغير على مدار عمر الطفل، بل إنه يظل بنفس السمات عندما يكبر، هذه الطباع تضم الآتي:

  • الاجتماعية (حب الاختلاط والتجمعات أو الخجل والرهبة في وجود الناس).
  • الحساسية المفرطة وسرعة الانفعال.
  • الحماس والنشاط والطاقة الزائدة والعكس.
  • التركيز أو سهولة التشتت.
  • المثابرة والإصرار والإرادة أو سهولة فقدان الشغف.

إذاً السمات السابقة وما يشبهها يمكن توارثها من الآباء أو توارثها جينياً في العموم. أجريت دراسة على مجموعة من التوائم المتطابقة (يتشاركون الجينات بنسبة 100%) ومجموعة أخرى من التوائم غير المتطابقة (يتشاركون الجينات بنسبة 50%)، ليجدوا أن التوائم المتطابقة يتشاركون نفس السمات الشخصية من النوع الذي طرحناه في القائمة السابقة، حتى وإن تربوا بعيداً عن بعضهم البعض، فهم يشتركون في نفس السمات المطروحة، أمّا التوائم غير المتطابقة فكانت هناك اختلافات، هذه الدراسة تؤكد على أن بعض الطباع تتوارث جينياً، كما أكّد الباحثون أن بعض السمات تتوارث بنسبة من 20% إلى 60%.

وجد العلماء علاقة بين بعض سمات الشخصية التي يُطلَق عليها Big 5 (وهي العصبية والانبساط ويقظة الضمير والطيبة والتفتح) وبين الجينات الموروثة، حيث قاموا بدراسة 60 ألف عينة جينية ليتمكنوا من إيجاد الرابط بين الجينات الوراثية وسمات الشخصية الخمس، فوجدوا رابطاً فعلياً ولكن كان من الصعب تحديد أي الجينات أو الأحماض النووية هي المسؤولة عن سمات بعينها، ولكن وجدوا رابطاً بين بعض السمات وبعضها وبين جينات معينة، أي إن بعض السمات تشترك في التأثير بنفس الجينات، مثل سمات العصبية والتفتح وسمات الانبساط والتركيز.

هذا الأمر ليس بغريب، فمن الطبيعي أن هناك صفات شخصية ترتبط بالجينات، ومن الأمثلة الواضحة هو الذكاء، فمعروف أن الذكاء ليس سمة مكتسبة، بل موروثة.

في دراسة أُجريت للمقارنة بين طرق التربية المختلفة وتأثير كل طريقة على شخصية الأطفال، اُختيرت مجموعة من الحضانات وحوالي 270 أماً لديها أطفال في مرحلة ما قبل المدرسة، وجدوا رابطاً قوياً وتأثيراً واضحاً لكل طريقة على شخصية الطفل، وحصرت طرق التربية في الطرق الأربعة، وهي:

  • التربية الوثيقة: وهي طريقة تعتمد على الألفة والمودة بين الأبوين والطفل وتعتمد على اعتمادية معتدلة على الأبوين.
  • التربية المُتسلطة: وهي طريقة تتمثل في اعتمادية كبيرة على الأبوين ولكن مسؤولية منخفضة نحو الأبناء، فالأبوان سرعان ما ينفعلون مع السلوكيات السيئة للأطفال.
  • التربية المرنة: وهي طريقة تعتمد على تقديم كم كبير من المودة والألفة والمسؤولية والدعم للأطفال، ولكن القليل من التحكم.
  • التربية المُهمِلة: تضمن هذه الطريقة إهمالاً من الأبوين، فلا هم يقدمون الدعم للأطفال ولا حتى التحكم بهم.

وجد الباحثون رابطاً قوياً بين كل نوع وبين شخصية الطفل، وجاءت النتائج والعلاقة كما يلي:

  • شخصية الطفل الذي نشأ مع التربية المتسلطة كانت تتسم بعدم القدرة على اتخاذ القرارات وقلة تقدير الذات وفقر في المهارات الاجتماعية والمنافسة الأكاديمية وضعف مستوى الإبداع، بالإضافة إلى وجود بعض المشاكل العقلية، مثل: الاكتئاب والاضطرابات السلوكية والخوف من الفشل وكتمان المشاعر وصعوبة السيطرة على المشاعر السلبية.
  • بالنسبة لعواقب أو سلبيات التربية المرنة هي صعوبة ضبط الطفل وتطوير الإيجو لديهم أو زيادة مستوى الأنانية، ولكن يتمتع الطفل بقدر من الثقة بالنفس والقدرة على اتخاذ القرارات والشخصية القوية، وذلك بناءً على توفير مساحة للاختيارات والسماحية من قبل الأبوين.
  • أمّا عن الأطفال الذين نشؤوا في بيئة مُهمِلة فهم غالباً ما يكونون غير اجتماعيين.
  • بينما وجد الباحثون أن الآباء الذين يُقدمون الحب والدعم والمسؤولية وقدراً معتدلاً من الضبط للأطفال في المرحلة ما قبل المدرسية، يتمتع أبناؤهم بقدر كبير من التحكم في النفس والإحساس بالمسؤولية منذ سن مبكرة.

أمّا عن الآباء الذين يهتمون بالأطفال ويتحكمون في زمام الأمر ولكنهم منفصلون، أطفالهم غير سعداء ولا يشعرون بالانتماء والاجتماعية. أمّا الآباء الذين يقدمون الحب والدفء ولكن لا يملكون زمام الأمور ولا يربون الأطفال على المسؤولية، فأطفالهم لا يعتمدون على أنفسهم ولا يستطيعون ضبط أنفسهم.

في دراسة أُجريت في جامعة شيكاغو، قام عالمان في العلوم العصبية بجمع مجموعة من الأطفال في عمر العام مع آبائهم لإجراء تجربة معملية عليهم. عرض الباحثون على الأطفال مقاطع فيديو لأفلام متحركة تضمن سلوكيات وأخلاقيات مثل المساعدة والمشاركة والسقوط والدفع وغيرها من المشاهد المرتبطة بالأخلاقيات، ليختبروا تفاعل الطفل معها. أثناء مشاهدة الأطفال للأفلام، كان الباحثون يراقبون حركة أعينهم وردود أفعالهم على المشاهد، وفي نفس الوقت يقيسون الموجات في أدمغتهم من خلال جهاز رسم المخ الكهربائي EEG.

بعد الانتهاء من مشاهدة الأطفال للأفلام، قدّم الباحثون لهم لعبة معروضة عليها الشخصيتان اللتان مثّلتا في الأفلام، شخصية تمثل الجانب الإيجابي أو الجيد وشخصية تمثل الجانب السلبي أو السيئ، ليروا أيهما سيختار الطفل أو يميل. كذلك عرض الباحثون على الأطفال أن يلعبوا بلعبة ثم يطلبون منهم أن يشاركوا غيرهم باللعبة، ليختبروا مدى رغبتهم في المشاركة.

قبل إجراء التجربة على الأطفال، قدّم الباحثون استفتاءات للآباء ليجيبوا على مجموعة من الأسئلة، ليقيسوا قيمهم ومبادئهم ويروا مدى رؤيتهم للعدالة والتعاطف والإنصاف، كما أجاب الآباء على أسئلة بخصوص أطفالهم، كيف يرون طباع أطفالهم وسماتهم الشخصية، بالإضافة إلى بعض المعلومات الديموغرافية العامة.

من خلال مراقبة الباحثين للأطفال، عند عرض سلوكيات تتوافق مع أخلاقيات المجتمع وجدوا أن أدمغتهم تصدر أنماطاً موجية مختلفة عند عرض مشاهد لا تتوافق مع الأخلاقيات المجتمعية، كما أن التجربة وضّحت أن فطرة الطفل تميل نحو الأخلاق الحميدة في هذه السن المبكرة.

وجد الباحثون من خلال هذه التجربة أن الآباء لهم تأثير في سلوكيات أطفالهم في ما يتعلق بالمشاركة، وأن ميول الأبوين وطريقتهم في التعامل مع بعضهما ومع الطفل عامل قوي، كما أن هناك آباءً تنبؤوا بسلوكيات أطفالهم وبقرارهم في لعبة المشاركة.

بعد عرض كل هذه التجارب والأبحاث والدراسات، دعنا نجيب عن سؤال الأب، من أين حصل هذا الرجل الصغير على حذائه؟

تُساهم الجينات الوراثية والتربية في تكوين شخصية الطفل، فهناك صفات تعتمد وتتأثر بالجينات، وكذلك سمات أخرى تتأثر بالبيئة المحيطة وبطرق التربية، بالنسبة للطباع الناتجة عن الجينات الوراثية فما علينا سوى فهمها وتقبلها وحسن التعامل معها، أي أن الطفل الذي لا يحب التجمعات، لا نضغط عليه ونوبخه لكي يتقبل شيئاً خارجاً عن إرادته، بل لا بد من تقبل ميوله والتصرف بناءً عليه لكي لا يسوء الأمر أكثر. نتلاقى في المنتصف ونتسم بالمرونة وكل شيء سيكون أفضل. أمّا عن الجزء المكتسب، فلعلك تعرف ما عليك فعله، إذا أردت أن يكون طفلك مسؤولاً، عليك أن تتسم أنت بالمسؤولية، لا تُطالبه بشيء لا تفعله، فالتقليد يغلب التلقين.

الطفل هنا أو الرجل الصغير، تصرف تصرفاً مسؤولاً، وضع هدفه أمام عينيه ثم حدّد الفعل المناسب للوصول للهدف، ثم نفّذ الفعل وحقّق هدفه، استطاع أن يشتري حذاءً من ماله الخاص في سن مبكرة، دون أن يضغط على والده ويُحمِّله ما لا يطيق. كيف له بهذه الشخصية المسؤولة القوية؟ مؤكد أن أبويه غرسا فيه قيماً حميدة واعتاد أن يتحمّل مسؤولية رغباته.