دأب والد أحمد على توبيخه بعدما أعلن عن غير وعي ميوله المثلية، وحبه لزميل دراسته في سن العاشرة، فكان يقول له:

يا ريتك موتْ قبل ما أشوفك كدا.

أحمد علي (اسم مستعار)، شاب مصري يبلغ من العمر 22 عامًا، اكتشفت أسرته ميوله الجنسية في سن مبكرة، من خلال حديثه المستمر عن رغبته في الزواج من صديق له، ورغم أن الطفل لم يكن واعيًا لمعنى ما يقول، إلا أن أهله شكوا بشيء غير طبيعي في انصراف طفلهم عن الفتيات وانجذابه الدائم للصبية.

عرض الأبوان، مهندس ومعلمة، طفلهما أولاً على طبيب نفسي للتأكد من شكوكهما، وبعد التأكد نُقل إلى مصحة للأمراض العقلية وتلقى جلسات عديدة من العلاج النفسي، بدأ أحمد يشعر معها بأن هناك شيئًا خطيرًا في طبيعته الجنسية، إلى أن خرج من المصحة، ورغم صغر سنه كان مصممًا بدرجة أكبر على أنه ليس مخطئًا.

منذ خروجه من المصحة، تلقى أحمد -ولسنوات طويلة- معاملة سيئة للغاية من أبويه؛ فتعرض للإهانات اللفظية والتوبيخ، تطور إلى الضرب، والضرب الوحشي رغم تحذيرات الطبيب، ثم النبذ والعزل التام عن الإخوة (الذكور والإناث)، والإخفاء عن العائلة، والعائلة الممتدة خشية «افتضاح أمره» وزيارات عديدة للمشايخ والدجالين للرقية والزار وهلم جرًّا.

لم يغير كل هذا ميول أحمد الجنسية المثلية، لكنه أوجد بداخله الميول الانتحارية والرغبة في الموت للخلاص من فكرة رفض الأهل له وشعورهم بالعار تجاهه، رغم أنه -حتى الآن- لم يمارس علاقة جنسية واحدة لفقده الثقة في الجميع، جراء تخويف أهله المستمر له من التعرض للاستغلال.

بالنهاية، سافر أحمد –بمساعدة والديه- ليتلقى علاجًا نفسيًا مكثفًا بالولايات المتحدة الأمريكية، ليس من المثلية بل من الاضطرابات النفسية التي سببتها تصرفاتهم معه في السنوات التالية مع اكتشاف حقيقة ميوله.

فالمثلية الجنسية قضية شائكة، امتد الجدل حولها لقرون من الزمن، بأبعاد مختلفة: علمية وسياسية واقتصادية ومجتمعية وقيمية. ولا ينتوي هذا المقال أن يكون جزءاً من هذا الجدل، وبالطبع لا يبحث عن حلول أو يقدم إجابات قاطعة حول مسألة المثلية الجنسية عند الأطفال، ولكنه يرسم علامات تحذيرية -بناءً على تجارب مجتمعية- حول سلوكيات حوّلت هذه القضية إلى كارثة ومأساة حقيقية.


محاذير وأفكار شائعة

حينما يصل الطفل إلى مرحلة الوعي التام بميوله الجنسية، تظهر استجابته؛ إما بالتمسك بهذه الهوية والانسياق خلفها، أو الإنكار والقمع، أو على الأقل الإخفاء؛ خشية نظرة المحيطين والوصمة أولاً، أو التعرض للأذى والعنف اللفظي والبدني ثانياً، خاصة وأن الدراسات تثبت أن 45% من الرجال المثليين، و20% من المثليات تعرضوا لعنف لفظي أو بدني في مرحلة المدرسة بسبب ميولهم الجنسية.

وليس أدل على بشاعة ما يتعرض له المراهقون المثليون مما حدث لحمودي المطيري المراهق العراقي الملقب بـ «ملك الإنستغرام»، والذي قُتل طعنًا حتى خرجت أحشاؤه للاشتباه في ميوله الجنسية المثلية خلال الشهر الماضي، أكتوبر/تشرين الأول 2018.

قد تؤدي المخاوف المتمثلة في الرفض والإهانة والتعامل العنيف، لإخفاء عدد كبير من ذوي الميول المثلية لحقيقة توجهاتهم الجنسية، خاصة في مرحلة المراهقة، حتى عن أقرب الأصدقاء والأهل، لكن هذا ليس خيارًا سهلاً أبدًا؛ لأن ما لا يعرفه الكثيرون أن مرحلة الخروج أو الإشهار من أهم الأمور للمثليين، فإعلانهم عن هويتهم يشعرهم بالراحة ويطمئنهم بأنهم لا يفعلون أمرًا خاطئًا، ويحسن الصحة النفسية والعقلية لهم في العموم، وإن تعارض ذلك مع الهوموفوبيا أو رهاب المثلية الجنسية؛ والمقصود به الخوف والكراهية غير المبررة لذوي الميول المثلية، وقد يصاحب ذلك أعمال ومواقف عدائية ورفض مجتمعي وعنف بدني ونفسي.

لذا نجد الأشخاص الذين يميلون لإخفاء ميولهم المثلية أكثر عرضة للتسرب الدراسي والأسري (التشرد)، وتناول الكحول والمخدرات، والإصابة بالاضطرابات النفسية كالقلق والاكتئاب.

وينطبق ما سبق على أمل إبراهيم (اسم مستعار)، 36 عامًا، منتجة مصرية شهيرة، وهي تخفي حتى الآن ميولها المثلية عن والدها وتقول لـ «إضاءات»:

أخشى أن يُصاب والدي بأزمة قلبية إذا علم بالأمر، ويظن أني أرفض الزواج حتى الآن لتركيزي في عملي الذي حققت به نجاحًا مبهرًا.

لافتةً إلى ارتباطها بصديقة أجنبية تعيش في مصر، وتعمل في إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة دون معرفة أي من أهلها، وإن كانت تبوح للمقربين من الأصدقاء بسرها الكبير لتشعر بقدر أكبر من الارتياح.

على النقيض عبّر «عمر جونيور» حفيد النجم الراحل عمر الشريف عن سعادته بالدعم الكامل والرعاية من أسرته بعد إعلانه ميوله المثلية، حتى أنه قال في أحد اللقاءات المصورة:

لم يكن الأمر أبدًا مثار نقاش، الجميع أحبوني كابن وأخ وصديق ولم يتدخلوا في خياراتي العاطفية.

وهنا لابد من الإشارة أيضاً إلى خطأ الربط الشرطي بين المثلية عند الأطفال وفكرة الاستغلال الجنسي، خاصة أن أغلب المراهقين المثليين يرتبطون بذكور أكبر منهم في السن، لإن الاستغلال الجنسي غالباً ما يحدث نتيجة ابتعاد هؤلاء المراهقين عن أسرهم -التي ترفض ميولهم الجنسية غير المألوفة- وارتمائهم في أحضان أصدقاء السوء أو الأشخاص الذين يستغلونهم جنسيًا.

ولعل هذا يفسر كون الأطفال والمراهقين المثليين، الذين يضطرون لإخفاء ميولهم الجنسية خشية رفض العائلة أو التعرض للأذى اللفظي أو النفسي أو البدني، يفتقدون عنصرًا مهمًا جدًا هو التوجيه والقدوة الإيجابية، فيصبحون ضحايا أسهل للأشخاص المُستغِلين جنسيًا، كما أن تعنيفهم بسبب ميولهم المثلية قد يدفعهم للهروب من المنزل والعمل بالدعارة الجنسية كوسيلة للتكسب والعيش، وهو بالتالي أكثر عرضة بالطبع للأمراض الجنسية المعدية والقاتلة مثل الإيدز وغيرها.


كيف ينبغي على الأهل التصرف؟

ما اتفقت عليه الدراسات بشأن العلاقة بين تقبل الأهل من عدمه لطفلهم المثلي أن المراهق المثلي أكثر عرضة لمواجهة العديد من المشكلات مثل التنمر والتفكير بالانتحار وممارسة الجنس غير الآمن، وتعاطي الكحول والمخدرات، بما يؤثر في النهاية على صحته الجسدية والنفسية، وأن كل هذا مرتبط بوجود رفض وتحيز ضده في بيئته المحيطة.

لذا يساعد وجود الدعم داخل الأسرة والمدرسة والنطاق المجتمعي المحيط على تقليص المخاطر والنمو الصحي من خلال دمجهم في أنشطة جماعية مع أقرانهم، وخير دليل على هذا، الحالة المذكورة في بداية المقال والتي انتهت لمرض نفسي مزمن واكتئاب مستمر ورغبة في الانتحار بسبب التعامل العنيف والرفض من الأهل.

من هنا نتحول لخطوات التعامل السليم، والتي حددها «مايكل لاسالا»، مؤلف كتاب «الخروج: مساعدة الأسر على التكيف مع طفلها المثلي»، في مقال له عبر مجلة «علم النفس اليوم»، والذي أوضح فيه بدايةً فزع الأسر حال علمها أن أحد أطفالها مثلي الجنسية؛ والتساؤلات المعتادة في تلك المرحلة بداية من لوم النفس «هل فعلت شيئًا خاطئًا ليحدث لي ذلك؟» انتقالاً للتخوف من «تعرض الطفل للاستغلال والأذى الجنسي»، أو «إصابته بالإيدز»، نهاية بالظنون المرتبطة بـ «العار ونظرة الناس للطفل والعائلة» و«الخلود في الجحيم ولعنة الرب»، موضحًا طرق تعامل الآباء المختلفة في هذا الموقف؛ بداية من الإنكار، ثم تعنيف الطفل، وحتى تعذيبه، وتخويفه دينيًا، أو استمالته بالوعود والإغراءات، إلى مساومته على المأكل والملبس، وحتى الطرد من المنزل وغيرها.

من الأشياء الصادمة بحسب لاسالا أنه عقب دراسة 65 أسرة اكتشفت الميول الجنسية في أحد أطفالها، قبل تأليف كتابه، اتضح له أن بعض الأسر تغير حالها للأفضل وأصبحت أكثر استيعابًا لاحتياجات الآخرين وأكثر تفهمًا لـ «الاختلاف بين البشر»، خاصة في الأقليات، التي شعرت بتفوق أبنائها المثليين في الدراسة والعمل وارتياحهم لتقبل أهلهم لميولهم الجنسية المغايرة للمألوف.

وحدد لاسالا 6 خطوات للتعامل السليم من الأبوين عند معرفة أن أحد أطفالهم مثلي الجنسية أو متحول جنسيًا أو حتى ثنائي الميول؛ أولها: البحث عن شخص موثوق به يتمتع بعقلية متفتحة وتفكير عادل تجاه اختلاف الآخرين، والحديث معه عن المخاوف التي تدور بذهن الأبوين وطلب نصيحته، وتساعد هذه الخطوة الآباء على تنفس الصعداء والشعور بأن حملاً ثقيلاً أزيح عن صدورهم، بعد تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة من الشخص المؤتمن.

الخطوة الثانية، تتمثل في اللجوء لطبيب نفسي أو أخصائي اجتماعي محترف في حال عدم وجود شخص مقرب من العائلة ذي ثقة وعقل رشيد، ويفترض أن يساعد المعالج الأهل على تفهم ما هم مقبلون عليه وتصحيح الأفكار الخاطئة وتقديم نصائح للأهل للتعامل الأنسب مع الطفل وكيفية توجيهه لتدارك المخاطر التي قد تواجهه جراء ميوله الجنسية.

المرحلة الثالثة تتطلب التواصل مع أسر خاضت التجربة بالفعل، فالتحدث إلى آباء اكتشفوا مثلية أبنائهم ومعرفة كيف تعاملوا مع ذلك يُكسب الآباء خبرة مهمة ويساعدهم على التعرف على تأثير ونتيجة كل تصرف، مثلاً ما الذي جنته بعض الأسر من العنف مع الابن المثلي؟ أو كيف أثر التقبل على العلاقة بين الأسرة وطفلها المثلي؟ وهكذا.

في المرحلة الرابعة وبعد أن يشعر الأبوان ببعض الراحة والهدوء في الخطوات السابقة، يصبح ذهنهم أكثر تقبلاً لمعرفة ماهية المثلية الجنسية، لذا يُنصح بالبحث عن مصدر علمي موثوق به والبدء في القراءة عنها ومعرفة كل ما يتعلق بها، وترتبط هذه الخطوة بالخطوة التالية والمتمثلة في الحديث مع الابن المثلي والانفتاح على ما يشعر به وطبيعة ميوله الجنسية؛ لأنه بالنهاية الشخص المثلي أكثر قدرة على التعريف بميوله وأحاسيسه، وستساعد هذه الخطوة حتمًا على زيادة الثقة والتقارب بين الآباء والأبناء، وتقبلهم أي نصائح يطلقها الآباء وبالتالي يمكن المساعدة في حمايتهم من أمور خطيرة؛ مثل الاستغلال الجنسي، وخوض علاقات مع شركاء غير مناسبين، وحتى من ممارسة الجنس غير الآمن الذي يسبب الأمراض القاتلة.


بالنهاية دعونا نتفق أننا لسنا هنا بصدد بحث أسباب المثلية التي لم يتفق عليها العلماء حتى الآن بشكل محدد، ولسنا أيضًا بصدد الحكم على ميول أي شخص الجنسية وعلاقة ذلك بأحكام الدين، لكننا ربما نتفق على أن ممارسة الجنس لدى الأطفال بشكل عام أمر خاطئ وغير منصف ويدخله بدرجة كبيرة في دائرة الاستغلال.

لذا لا تتركوا أطفالكم فريسة للآخر الذي لا يبحث سوى عن متعته الذاتية، تقبلوا أطفالكم وأحيطوهم بحبكم ورعايتكم، وثقفوهم جيدًا بالسن الأنسب للممارسة الجنسية الأولى وسبل ممارسة الجنس الآمن وغيرها، حتى يكونوا أكثر قدرة على حماية أنفسهم واجتياز الطرق الأقل ضررًا على صحتهم.