في روايته لمعركة ماراثون عام 490 ق.م، أرّخ هيرودوت لما عرفناه لاحقًا بـ«اضطراب ما بعد الصدمة» كأحد التداعيات التي عانَى منها المحارب «ابيزيلوس Epizelus» بعد انتهاء المعركة التي حدثت بين الأثينيين (سكان أثينا) والفرس.

فقد «ابيزيلوس بصره- فجأة- خلال المعركة، وعندما فحصه أطباء الجيش لم يعثروا على أي إصابة بجسده، وعندما سألوا «ابيزيلوس» عما تسبب في إصابته أكد أنه رأى مشهدًا مرعبًا لمقاتل فارسي عملاق، ذي لحية كبيرة تغطي درعه بالكامل، وقف أمامه؛ لكنه مر كشبح وقتل رجلًا بجواره. أفقده المشهد القُدرة على الإبصار فور رؤيته، ولم يستعدها قطُّ.

بعد مئات السنين من هذه، وبالتحديد عام 2019م سيفوز الفيلم الوثائقي «غزة Gaza» بجائزة جويا Goya التي تُحاكي الأوسكار في إسبانيا. تعرّض الفيلم لحياة العديد من الشخصيات التي تُقصف منازلها في غزة، ومدى تأثير ذلك عليها. 

من ضمن هؤلاء الأفراد الطفل الفلسطيني صهيب ذو العامين ونصف، الذي أُنقذ من تحت طبقات الأنقاض والخرسانة، لا يشعر بشيء سوى الألم؛ ومن جراء ذلك، أصبح صهيب لا ينظر إلى الدنيا إلا بعينين مفتوحتين على رعب يراه ولا نراه، يئنُّ متألمًا من وجع أكبر من أن نستشعره.

بعد طرح هذا الفيلم بعامين، وخلال تصاعد الأحداث الأخيرة والقصف العنيف الذي طال غزة وخلق موجة تعاطف عالمية معها، أُعيد نشر فيديو صهيب، وانتشر كالنار في الهشيم، ليُذكر الجميع أنه حتى بعد أن تنتهي أعمال الحرب تبقى آثارها بين الناس لفترة طويلة من الزمن.

اليوم، أصبح العلم قادرًا على فهم ما حدث لابيزيلوس وصهيب؛ أُصيب الأول بـ«عمى هستيري» يُعاني منه بعض المحاربين الناجين من القتال، أما صهيب فأصيب بصدمة أذهلته وجعلته لا يستطيع أن يغمض له جفن، في كلتا الحالتين كانت هذه بعض أعراض اضطراب «ما بعد الصدمة».

ما اضطراب ما بعد الصدمة أو PTSD؟

عندما تصاب في حادثة كادت تودي بحياتك، أو تفقد شخصًا عزيزًا عليك أو تتعرض لعنف أو إيذاء جسدي أو جنسي أو ما شابه، فمن الطبيعي أن تشعر بحزن وخوف وقلق وتضطرب أيامك إثر هذا الحدث الجلل. ولكن حين يمتد هذا لأكثر من شهر ويصبح نهارك استرجاعًا موجعًا للذكريات وليلك أرق وكوابيس لا تنتهي، يتعطل روتينك اليومي ولا تقوى على تحريك ساكن يصبح الطبيعي في حياتك اضطرابًا يحتاج لفهمه واحتوائه والتعامل معه لتخطي الصدمة.

يمكن للاضطراب أن يصيب أي شخص وبنسب متفاوتة من الشدة، لكنه من المرجح أكثر أن يصيب الأفراد المعرضين بكثافة للأحداث الصادمة، مثل: جنود الحروب، المسعفين، الناجين من الكوارث الطبيعية أو الحروب، اللاجئين.. وغيرهم.

يعود ذلك لكثرة مسببات الصدمة التي تصيب أهله هذه الفئات المنكوبة، والتي قد يعيشها بنفسه كالقصف والاعتقال، أو شاهدها تحدث لأحد الأقرباء، أو تناهت أخبار القتل والحوادث إلى مسامعه. أسوأ ما في الأمر هو حدوث كل ذلك، بشكلٍ مُستمر، ما يجعل من الصعب تخطيها.

الاضطراب ليس محصورًا في البالغين فقط، بل يصيب الأطفال أيضًا ويزداد استعداد الطفل له كلما كان في سن الدراسة (من 6 سنوات فأكثر). في الوقت الذي يجعل البالغين يشعرون بالخدر والاكتئاب والغضب المخزون وشعور بحاجز ما بينهم وبين العالم من حولهم، يجعل الصغار سريعي الغضب ويفقدهم قدرتهم على تنظيم الذات بل وقد يأذون أنفسهم كوسيلة للتحكم بألمهم غير المفهوم أو لفت انتباه الكبار لأوجاعهم الصامتة.

أثر الحرب: أن تعلق وسط شارع مزدحم

في أماكن لا تسمح للطفل بنمو سليم كالمخيمات ومناطق الحروب، والتي يُعاني فيها الطفل من سوء التغذية، وانخفاض الوزن- مقارنة بطفل خارج مناطق الخطر- زيادة التعرض للملوثات، وعدم انتظام التطعيم الدوري، وأخيرًا يأتي الإجهاد الناجم عن الصدمة ليزيد الوضع سوءًا.

يقول الباحثون في كلية الطب بجامعة ستانفورد ومستشفى لوسيل باكارد للأطفال في دراسة أجريت عام 2007م، إن معاناة الأطفال من اضطراب ما بعد الصدمة وارتفاع مستويات هرمون الكورتيزول المُسبِّب للتوتر، كما يحتمل أن يواجهوا انخفاضًا في حجم «الحُصين – hippocampus» وهي منطقة دماغية مهمة في معالجة الذاكرة والعاطفة.

يشرح الطبيب النفسي للأطفال في باكارد فيكتور كاريون Victor Carrion: «نحن لا نتحدث عن ضغط الواجب المنزلي أو الجدال مع والدك، بل عن الإجهاد الناتج عن الصدمة يُشعِر هؤلاء الأطفال كأنهم عالقون في وسط شارع وشاحنة تندفع باتجاههم».

وبالتوازي مع الأثر الجسدي لأطفال الحروب، يختل نظامهم المعرفي؛ فيبني الطفل كثيرًا من المعتقدات الخطأ عن نفسه والعالم والإله بقولٍ شبيه بـ«أنا أستحق الحرب.. الله لا يحبني».. وغيرها من الأمور السلبية، ويُصاب بقصور في ممارسة التفكير الإيجابي، ويعاني من صعوبات في التعلم بما في ذلك التركيز والقدرة على الحفظ.

وفي مثل هذه الأحوال، ينصح العاملين في مجال الإغاثة والرعاية النفسية في المخيمات المعلمين والمدارس بعدم الاعتماد على نظام الامتحان الذي يجعل التحصيل صعبًا على الأطفال، بل اعتماد نظام جمع نقاط من خلال التفاعل، أو عن طريق اللعب وما إلى ذلك.

ماذا عن أطفال غزة؟

في دراسته بعنوان «الآثار النفسية والاجتماعية الناتجة عن حصار قطاع غزة»، يقول د.عبد الرؤوف أحمد الطلاع- بجامعة الأقصى، غزة: «يشكل الحصار الذي يفرضه الاحتلال الاسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزة ظرفًا ضاغطًا ومؤثرًا على جميع الجوانب الإنسانية والنفسية والبدنية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة على شخصية الفرد».

حاول باحثان آخران، هما الدكتور عبدالعزيز ثابت- أستاذ الطب النفسي بجامعة القدس- ودكتور بانوس فوستانس- أستاذ طب نفس الأطفال بجامعة ليستر ببريطانيا، دراسة بعض أوجه هذه المعاناة النفسية التي تُصيب أطفال غزة، فأجريا عينة بحث من قطاع غزة لمعرفة المشاكل العاطفية لدى الأطفال الفلسطينيين الذين يعيشون في منطقة حرب، رجحت النتائج تعرض 95% من الأطفال الفلسطينيين لكرب ما بعد الصدمة.

وفي دراسة أخرى لدكتور عبدالعزيز ثابت مع دكتورة سناء صبّاح- من مركزالطفل والأسرة للإرشاد والتدريب- حول: «أثر الصدمات النفسية الناتجة عن حرب الأيام الثمانية»، شملت عينة عشوائية من 502 من الأطفال من 16 منطقة مختلفة في غزة، وتتراوح أعمارهم بين 9 سنوات و16 سنة، كان متوسط الأحداث الصادمة 7 أحداث لكل طفل ما بين الخوف من صوت القصف أو سماع تفريغ هواء الطائرات ومشاهدة الجثث المشوهة على الشاشة.

كان لاضطراب ما بعد الصدمة النسبة الأعلى بين أطفال القطاع بنسبة 35.9% أكثرهم من الفتيات وأبناء الأسر الفقيرة، والقلق بنسبة 30.9% بلا فروق بين الجنسين. أما فيما يتعلق بوسائل التكيف والصمود لمواجهة الضغوطات اليومية، كانت النسبة الأعلى 94.6% يستمدون صمودهم من الفخر بجنسيتهم الفلسطينية، إضافة إلى نسب متفاوتة تتعدى كلها 90% من عينة البحث حول شعور الأمان من الوالدين أو مقدمي الرعاية، التمسك بالدين والافتخار باسم العائلة.

فرار من الموت وإليه

يكبر الفلسطيني حاملًا معه الخوف وانعدام الأمان وحتمية المقاومة دون اختيار منه، وتحت الضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية يبدو الخلاص من الحياة حلًا لمعاناته. واحدة من الظواهر النفسية الحادة التي تسببها ضغوط الحرب والعيش في المخيمات هي الانتحار.

 شملت دراسة بعنوان «التفكير والتخطيط الانتحاري» عينة بحث وصلت 14303 طالبًا من طلاب الصف الثالث المتوسط في 7 مواقع مختلفة شملت قطاع غزة، والضفة الغربية، و5 مخيمات للاجئين تابعة لوكالة الأونروا «وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية» لجمع الأجوبة على سؤالين رئيسيين: هل فكرت بجدية في الانتحار،، وهل وضعت خطة للانتحار؟ وذلك خلال الاثني عشر شهرًا المنصرمة.

قام بالدراسة كل من الباحثين طه عيطاني، وألكسندر كريمر، قسم الصحة العامة بكلية الطب جامعة بيلفيلد بألمانيا، م كاثرين هـ. جاكوبسن، قسم الصحة العالمية والمجتمعية، جامعة جورج مايسون بأمريكا.

جاءت النتائج كالتالي: متوسط انتشار الأفكار الانتحارية 19.9%، متوسط انتشار التخطيط الانتحاري 17.1%، ومعدل انتشار الإبلاغ عن أحد نوعي التفكير الانتحاري أو كليهما 25.6%​​، والنسبة الأخيرة هي الأعلى بين طلاب المنطقة العربية تبعًا لبيانات مشروع «الاستطلاع العالمي لصحة طلاب المدارس– GSHS» التابع لمنظمة الصحة العالمية.

وبما أن المواقع المشمولة في البحث تخص المناطق الأكثر تأثرًا بالحرب، فيمكن الاستناد عليها لإدراك تأثير الحرب وما يتبعها من ويلات، وكيف ينجو المرء من الموت ثم يقاسي ما يجعله يختاره طواعية وهو طفل لم يكمل 15 خريفًا.

كيف يمكننا مساعدة الطفل المصدوم؟

في حديثها حول «الصدمة النفسية عند الأطفال» تحكي دكتورة هبة حريري، طبيبة إرشاد وعلاج نفسي وعضو هيئة تدريس في جامعة جدة، عن عميلة راجعتها في العيادة شُخصت باضطراب ما بعد الصدمة وهي ذات ستين عامًا، نتيجة صدمة تعرضت لها في أفغانستان وهي في الثامنة عشرة من عمرها، لم تعالج آثارها. لا نستطيع تخيل مقدار الألم الذي عاشت به تلك السيدة عقودًا من عمرها، كيف تأثرت حياتها بحدث في الطفولة- لم يُعالج في حينه- لتحاول وهي في أواخر العمر اكتشاف أسباب معاناتها.

وبعيدًا عن أهمية السعي لتلقي العلاج النفسي مع أطباء و إخصائيين مؤهلين، قدمت دكتورة هبة بعضًا من الأساليب التي يمكن اتباعها لمساعدة الطفل نذكر منها: 

  • أهمية تثقيف البالغين حول ما يجري- معهم ومع أطفالهم- وتقديم الدعم النفسي لهم لتأهيلهم لفهم الطفل ومساعدته، كما في حالات الطوارئ على متن الطائرة حيث يُطلب دائمًا من الآباء ارتداء قناع الأكسجين والسترات الواقية قبل محاولة مساعدة الأطفال، لكي يحمي نفسه ويصبح قادرًا على مساعدة غيره.
  • ينصح مقدمي الإرشاد النفسي دائمًا بأهمية «الاسترخاء» أو ممارسة التنفس لأنه يساعد بشكل كبير في تخفيف الضغوط الناجمة عن الاضطرابات النفسية بشكل عام، وقد وجدوا الأطفال أكثر إتقانًا ومداومة على ممارسة تمارين التنفس من الكبار، على عكس اعتقاد البعض!
  • التعبير العاطفي عن الصدمة سواء كان بشكل غير لفظي كالحركة وممارسة الرياضة، أو لفظيًا بتسمية المشاعر ووصف الحدث. فكما يقول الطبيب والمحلل النفسي الشهير كارل يونج: «المرء الذي لم يمر بجحيم عواطفه لن يتغلب عليها أبدًا.» لذا علينا أن نفصح عن أوجاعنا ومشاعرنا لنتجاوزها ونتحرر منها.