أن تكون مرئيًا هو فخ.
ميشيل فوكو

عام 1785، قدّم الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنتام فكرته الجديدة عن تنظيم السجناء، عُرفت بـ«المشتمل Panopticon». كان الهدف الأساسي من التصميم هو الاحتفاظ بأكبر عدد ممكن من السجناء تحت سيطرة أقل عدد ممكن من الحراس وذلك عن طريق استخدام الهندسة والمساحة فى خلق وهم بالمراقبة الدائمة التى لا تنقطع.

فكرة السجن الجديدة قامت على تصور بسيط: برج حراسة يقف به حارس واحد يتوسط سجنًا دائريًا يوجد به مئات السجناء. يصمّم البرج بحيث يسمح للحارس أن يمتلك إمكانية رؤية جميع السجناء بسهولة، ولكن لا يمكن للسجناء معرفة إن كان يتم مراقبتهم في هذه اللحظة. والنتيجة هي أن جميع السجناء يمارسون نوعًا من الرقابة الذاتية على أنفسهم في كل الأوقات لأنهم لا يعرفون إن كانوا تحت المراقبة أم لا. بل إن برج الحراسة أحيانًا كان يخلو من الحراس؛ ومع ذلك استمرت الرقابة الذاتية التي قام بها المساجين على أنفسهم.

سجن بريسيديو، كوبا
سجن «بريسيديو بكوبا» واحد من أقدم السجون التي أسست وفقا لتصميم «المشتمل panopticon» الذي يسمح بمراقبة جميع الزانزين عبر برج مراقبة واحد.

يجادل كثيرون، وعلى رأسهم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، أن ما فعله بنتام في هذه اللحظة هو خلق تصور بسيط عن كيفية عمل الدولة الحديثة على إنشاء مراقبة لا تنقطع على كل جوانب حياة مواطنيها. ففى كل لحظة تعرف الدولة كل شيء عن مواطنيها بداية من أماكن سكنهم وسجلاتهم الطبية، وحتى أماكن تواجدهم اللحظية وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.


تاريخ من التنظيم الاجتماعي

إن القوة السياسية لتنمو من فوهة المسدس!
ماو تسي تونج

تمتلك الصين تاريخًا ممتدًا من الممارسات القمعية الهادفة إلى تنظيم السكان، نظراً لكونها أكبر بلدان العالم من حيث عدد السكان البالغ 1.3 مليار نسمة. ومنذ نشأة جمهورية الصين الشعبية على يد ماو تسي تونج عام 1949، اتّبع الحزب الشيوعي الحاكم سياسات عديدة للسيطرة على السكان.

كانت أبرز سياسات التنظيم الاجتماعي هي ما عُرف بـ«القفزة العظيمة للأمام» التي امتدت في الأعوام من 1958 حتى 1962. عملت خلالها الحكومة الصينية على تفكيك الملكيات الزراعية الكبيرة وتوزيع الأراضي على صغار الفلاحين، مع وضعهم في كومونات تحت سيطرة الحزب الشيوعي. هدفت الحملة أيضًا إلى التوسع في التصنيع والقضاء على مظاهر الرأسمالية، مما أدى إلى تفكيك الطبقات القديمة والقضاء على البرجوازية، ومعها أي مظاهر معارضة للحزب الشيوعي وأي مظاهر للدين أو التقاليد القديمة، مما أسفر فى النهاية عن مقتل حوالي 50 مليونًا من المجاعة في الريف جرّاء تراجع الإنتاج وظروف العمل الشاقة، وفشلت الحملة فى تحقيق أهدافها.

من ملصقات «الثورة الثقافية» حيث يظهر الزعيم ماو تسي تونج ومعه مجموعة من جنود جيش الصيني يرفعون «الكتاب الأحمر».

تابع ماو سياساته عام 1966 عندما أطلق «الثورة الثقافية» التي هدفت إلى تطهير الحزب الشيوعي من «تسرب البرجوازية إليه»، مما أدى الى إطلاق حملات تطهير ضد البرجوازية و المثقفين وحتى البيروقراطيين المنتمين للحكومة. كادت البلاد تنزلق إلى أتون الحرب الأهلية لولا تدارك ماو الأمر وإنهاء الثورة الثقافية.

بنهاية الثورة الثقافية وموت ماو عام 1976، انتقل حكم البلاد إلى قادة أكثر اعتدالًا في الحزب الشيوعي مثل دينج شياو بينج الذي تسامح مع الأفكار الرأسمالية، وسمح باستخدام أفكار وتقنيات مستوحاة من الغرب، وذلك للنهوض بالمجتمع والدولة الصينية.

أدت كل هذه التغيرات إلى انتشار نزعات للديموقراطية داخل البلاد كانت ذروتها أحداث ميدان تيانانمن التي تم قمعها بقوة، ولكن الأحداث مثلت أيضًا معضلة للحزب الشيوعي، حيث اكتشف الحزب أنه لا يمكن السيطرة على الحشود بنفس الأساليب القديمة التي اتبعها سابقًا.

لاحقاً ستوفر التكنولوجيا حلاً للمعضلة الصينية الجديدة .


كيف تصنع بانوبتيكون القرن الواحد والعشرين؟

ماو تسي تونج، الصين، الثورة الثقافية
ماو تسي تونج، الصين، الثورة الثقافية
التقدم التكنولوجي لم يقدم لنا شيئاً سوى طرق فعالة أكثر للعودة للخلف.

ألدوس هكسلي، كاتب إنجليزي

في عام 2018، قدرت إحصاءات امتلاك الصين 170 مليون كاميرا مراقبة فى شوارعها، مع خطط لإضافة 400 مليون كاميرا جديدة بحلول عام 2020. تحتوي كاميرات المراقبة الصينية تكنولوجيات جديدة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل التعرف على الوجه أو تحديد العرق، وكلها تعمل مثل بانوبتيكون حديث. ومع وجود التقنية الجديدة، فالحارس لا يغيب ويبقى يشاهد ويسجل تصرفاتك.

لا تقف التقنية الصينية الجديدة عند المراقبة، بل امتدت لبناء شبكة رصيد اجتماعى جديدة تعتمد على تسجيل نقاط مقابل كل تصرف جيد أو سيئ يقوم به المواطنون. مقابل كل سلوك جيد أو سيئ، تقوم الحكومة بالزيادة أو الحذف من نقاط رصيدك الاجتماعى. والعقوبات فى حالة الحذف من الرصيد الاجتماعى تشمل كل شيء، بداية من المنع من السفر أو المنع من العمل فى وظائف جيدة، وحتى منع أولادك من الالتحاق بمدارس جيدة.

تمتد شبكة الرصيد الاجتماعى لتشمل أيضًا العالم الافتراضي، فكما هو معروف تقوم الحكومة الصينية بمراقبة مواقع التواصل الاجتماعى بل ومنع معظم المواقع غير الصينية الشهيرة مثل فيسبوك وتويتر وجوجل وإنشاء بدائل محلية، لتشمل نظام النقاط الاجتماعى سلوك الصينيين على مواقع التواصل أيضًا.

تشكّل كل هذه التطورات التكنولوجية كابوساً مقيماً بالنسبة للمعارضين السياسيين والأقليات العرقية الموجودة فى الصين. تمتلك الصين بالفعل تاريخاً سيئاً مع الأقليات العرقية مثل الإيغور المسلمين الذين طالما تعرضوا لحملات قمعية تهدف لضمان ولائهم للحزب الشيوعي. أما الجديد فهو أن كاميرات المراقبة الممتدة فى شوارع الصين، والمزودة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، صارت تستخدم في تحذير السلطات عند ابتعاد الأشخاص المنتمين للأقلية المسلمة مسافة أكثر من 300 متر عن أماكن سكنهم؛ بالإضافة لإجبار السكان أحيانًا على تنزيل برامج لمراقبة هواتفهم، ووضعهم في معسكرات اعتقال كبيرة خاضعة لمراقبة أمنية مستمرة لضمان السيطرة الكاملة عليهم.

يشكّل هذا كله نوعًا جديدًا من الممارسة السلطوية التي تمارسها الدولة على الشخص، ثم تجبره أن يمارسها هو على نفسه خوفاً من مراقبة شبكة الكاميرات له، أو خضوعه للعقاب فى نظام الرصيد الاجتماعى الجديد. وقد نجحت هذه التطورات التكنولوجية في استبدال الممارسات القديمة القائمة على القمع المباشر باستخدام القوة المادية، وهي تمثل تطورًا نوعيًا يخالف الوعود التي صاحبت انطلاق التكنولوجيا عن كونها قاطرة للتقدم والحريات السياسية والتواصل بين البشر.

لعل بنتام لم يحلم قط بأن اختراعه قد يكون بالقوة الكافية لكي يسيطر على حياة مليارات البشر.. ولعل ماو قد مات دون أن يمتلك الوسائل الكافية لتحقيق حلم السلطة الكامل.. لكن إرثهما يظل حاضرًا، وبقوة، في الصين، ويظل مؤثرًا فى حياة ملايين من البشر.