إن الشوكولاتة تبدو شراباً ملائماً للخنازير، أكثر من أن تكون شراباً ملائماً للبشر. لقد قضيت أكثر من عام هنا – نيكاراجوا- ولم أفكر في تذوقها أبداً.
المؤرخ الإيطالي جيرمولا بنزوني

هل تخيلت يوماً أن يرتبط جزء كبير من تاريخ البشرية بقالب الشوكولاتة الذي تمسكه في يدك الآن؟ أن تكون تلك النبتة ذات الحبوب الصغيرة طرفاً في معادلة الفقراء والأغنياء التي لا يمل التاريخ من ذكرها كلما أراد تذكيرنا بالصفحات التي لم يقرأها أحد.

في كتابهما «الشوكولاتة: التاريخ الكوني»، استعرض كل من سارة موس وألكسندر بادنوتش تاريخ قطاع كبير من حضارة البشر عبر وجود الشوكولاتة في حياتهم، منذ ظهور شجرتها الأولى في أمريكا الوسطى، وكيف عاش معها الهنود الحمر، وصولًا إلى عصر الرأسمالية الحديثة.

قصة ثيوبروماكاكاو

هكذا أطُلق عليها للمرة الأولى بين شعوب أمريكا الوسطى منذ عصر ما قبل الميلاد، حملت أشجارها اسم ثيوبروماكاكاو، ولعل ذلك هو الأصل الذي حصلت منه الأشجار على اسم الكاكاو الذي نعرفه اليوم، وكما كان اسمها غريباً كانت ظروف نموها غريبة كذلك، فهي أشجار لا تنمو ولا تزهر إلا في مناطق تحمل مناخين، أحدهما حار لتنمو الحبوب، بجانب درجة مناسبة من الرطوبة حتى لا تفسد.

ظهر ذلك تحديداً فيما يعرف اليوم باسم خليج المكسيك، حيث قامت حضارة قديمة وهي حضارة الأولميك، وهي واحدة من أطول الحضارات استقراراً في منطقة خليج المكسيك حيث عاشت هناك ما بين 1500 ق.م حتى 400 ق.م، أي ما يناهز التسعة قرون.

وقد كان ذلك النوع من الأشجار، على انتشاره، من أهم وأثرى المحاصيل بالنسبة لشعب الأولميك، ومن بعدهم شعب المايا الذي استوطن المناطق نفسها.

حبوب الشوكولاتة في الحقيقة ما هي إلا حقائب مصغّرة تنمو على جوانب الأشجار، ولا تُقطف إلا بمنجل خبير، وتحتاج لعملية محترفة وذكية حتى تخرج بصورة صحيحة، أما عن طريقة التحضير التي ابتكرت لأول مرة فكانت بتحميص الحبوب بشكل جيد ثم طحنها، وخلط المسحوق بعجينة من دقيق الذرة ويضاف لها بعض المنكهات القديمة مثل جوز الهند والفلفل وماء الورد، لتتخذ مسارين بعد ذلك، إما مشروباً ذا رغوة كثيفة تملأ سطح الإناء، أو طعاماً في شكل قالب من الشوكولاتة.

هنالك سر ما صاحب انتقال الشوكولاتة بمختلف أشكالها إلى مستهلكيها، لم يتفق أحد عليه لكنه كان واقعاً، فالمسافة المكانية بين جامعي حبوب الشوكولاتة وصانعيها ومستهلكيها كانت دائماً كبيرة، بل وحملت في جوهرها رمزية كثيفة، فالمستهلكون الأثرياء جُلهم يسكنون التلال بالأعلى في حين يقطن العاملون كلهم في الوادي بعيدًا عن حياة الأثرياء.

لِمَ كره الأوروبيون الشوكولاتة؟

ربما لم يستطع أحد أن يمسك الأوروبيون في ذلك الوقت بالجُرم المشهود، معلنين أنهم يكرهون الشوكولاتة فقط لأنها من صناعة السكان الأصليين، لكن كثيرًا من الشواهد والقصص روت ذلك.

كانت الشوكولاتة في حد ذاتها شيئًا ذا قيمة رفيعة للغاية لدى شعوب الأزتيك بصفتهم هنا ممثلي السكان الأصليين في أمريكا الوسطى وخليج المكسيك، فقد كانوا يعاملونها معاملة النقود، بل وكانت تساوي قيمة الذهب، وقد كان ذلك بالطبع بالنسبة للطبقة الثرية، لذا فقد كانت المعادلة هنا فريدة من نوعها ومثيرة للسخرية، فالطبقة الثرية من السكان الأصليين يحتقرون الفقراء ويعطونهم أجورًا زهيدة بالكاد تكفي للعيش، ليحصلوا على حبوب الشوكولاتة لاستعمالها كذهب وحلوى ومشروب. وفي المنحدر التالي احتقر الأوروبيون السكان الأصليين بكافة طبقاتهم، فقد كان تعليقهم على اهتمام الأزتيك بحبوب الشوكولاتة ومعاملتها كالذهب، بأنه درب من التفاهة والاهتمام بأمور غير منطقية.

روى بارتومولي دي لا كاساس عن تجربة تواجده في كواناجا، وهي ما تعرف اليوم بالهندوراس، حيث وصلت سفينة ضخمة حملت بضائع وأسلحة خشبية وصناديق ممتلئة بحبوب الكاكاو، وقد كان العمال – من الهنود الحمر – يعتنون بحبوب الكاكاو أشد عناية، حتى أنهم كانوا يلتقطون كل حبة قد تسقط على الأرض، لأنها ببساطة بالنسبة لهم كالنقود الذهبية، وبالطبع لم يسبق لك أن رأيت أحدهم يسقط عملة على الأرض ثم يتركها هكذا دون التقاط.

وحدهم الإسبان من خرجوا من هذه المعادلة قليلًا، حيث كانت الشوكولاتة هي مشروبهم المفضل وخاصة النساء منهم. كان اعتمادهم بشكل كبير ودائم على طباخين من طوائف السكان الأصليين هو السبب الرئيسي الذي جعلهم يعتادون على كل ما يخرج من هذا المطبخ، وقد شمل ذلك الإسبان الكريول، وهم طائفة من الإسبان الذين قرروا مبكرًا الرحيل إلى قارة أمريكا الجنوبية.

أما عن التوجه الأوروبي بشكل عام، فكان ميالاً إلى البعد عن الاختلاط بالثقافات الأخرى خشية فقدان الهوية والاعتياد على أطعمة ومشروبات تنتمي لمجتمعات أخرى، وهو ما يمكن أن يؤدي في النهاية إلى فقدان الطابع المميز للحياة الأوروبية، حتى أن بعض مثقفيهم وصفوا من يحبون الشوكولاتة في ذلك الوقت بأصحاب الأصول الهجينة أو مختلطي الثقافة.

ومن هنا، يمكن النظر عبر المنظار الذي اختارته أوروبا في ذلك الوقت للتعامل مع الشوكولاتة كمنتج حضاري يتبع استخدامه والتأقلم معه تبديد الموروث الثقافي، وخلطه بالصورة التي ينتهجها الهنود الحمر، حتى أنه يمكن التساؤل عن مدى تقبل المجتمع الأوروبي آنذاك للشوكولاتة كمنتج في حال نموها وقدومها من الأراضي الأوروبية؟

إسبانيا وتغير الصورة

وكما كانت إسبانيا هي المتقبل الأول للشوكولاتة والمستمتع الأكبر بها، فقد كانت كذلك المدخل الأول إلى عموم قارة أوروبا، حتى أن المراجع التاريخية تشير إلى تحول كبير في بدايات القرن السابع عشر في منظور المجتمع الأوروبي نحو ذلك المنتج وما تبعه من تغيرات أخرى.

فقد عبرت في البداية سفن البضائع المنطلقة نحو المستعمرات الإسبانية الأمريكية لتصبح مشروب النخبة من المجتمع الإسباني، ثم انتقلت تدريجيًا نحو العاصمة الإسبانية، وابتكر الإسبان لأجلها إناء خاصاً لتناولها حتى يمكن الحفاظ على رغوتها الكثيفة التي تنمو على السطح، لتتغلل وبمرور الوقت بين جنبات ذلك المجتمع وتصبح جزءًا من حياته اليومية وبصورة متشكلة ومتغايرة، فبعضهم تعامل معها كبديل للمشروبات المنبهة كالشاي والقهوة، وآخرون تعاملوا معها كمشروب لتبريد الجسم في الحر، حتى أنها صارت المشروب الأكثر انتشارًا في المناسبات الرسمية مضافًا إليها اللوز والبيض والحليب، حتى وصلت إلى بلاط الحكم الإسباني وجلسات محاكم التفتيش.

أما عن إيطاليا، فقد كانت الوريث الجديد، حيث تزوج لويس الرابع عشر من الأميرة الإسبانية تيريزا، وصحبها مجموعة كبيرة من الحاشية الملكية المدمنة للشوكولاتة، ليشكل ذلك دخولاً واسعاً إلى إيطاليا، لتحل بعدها كضيف اجتماعي مُفاجئ إلى بريطانيا في منتصف القرن السابع عشر، ليرى البريطانيون أول مقهى لمشروب الشوكولاتة في لندن.

تحول الأمر كثيراً في بريطانيا على وجه التحديد، فقد ظهر بعد هذا التاريخ بعشر سنوات تقريباً إعلان في أكسفورد عن منزل للنبلاء لتناول مشروب الشوكولاتة الذي يعالج الرئتين والسل ويحافظ على الصحة وينظف الأسنان ويحسن عملية التبول ويعطر النفس، كما أنه، وياللمفاجأة، يساعد النساء المصابات بالعقم على الإنجاب!

وباء المجتمعات الاستهلاكية وتغير الخريطة

وبصورة درامية غريبة، وكعادة المجتمعات الاستهلاكية، أخذت الشوكولاتة تتحول بصورة مطردة وغريبة، حتى أن البريطانيين صاروا يبتكرون وصفات مختلفة لها منها الكستر والشوكولاتة المضاف إليها البيض والحليب وغيرها من الإضافات، وتحولت الصورة بشكل كبير عن ذلك النمط المعهود التي كانت تحضر به الشوكولاتة في أمريكا الوسطى، ثم أصبحت مشروب الصفوة والأغنياء والنبلاء في بريطانيا، وأصبحت من أساسيات الروتين اليومي للعائلة المالكة، كما أن انتشارها صار مرتبطاً وبصورة غريبة بالشهوات الجامحة للطبقة الثرية ومغامراتها، حتى أن بعضهم تعامل معها كبديل للمشروبات الكحولية باعتبار أنها قد تقدم أثراً مشابهاً.

وقد ظهر ذلك التحول وذلك الربط بقوة في أدبيات القرن الثامن عشر كروايات جين أوستن وفرانسيس بورني، وصار من المستساغ أن تُقدم الشوكولاتة في مضمون النص الأدبي كجزء من حياة الانحلال الأخلاقي للطبقة الأرستقراطية، والتشديد على رمزيتها وارتباطها بحياة الأغنياء.

وبالوصول إلى القرن التاسع عشر وظهور الديمقراطية، جرت الديمقراطية على استخدام الشوكولاتة كما جرت على غيرها، فخضعت الشوكولاتة للنقاش حول عدالة توزيع الموارد وحق الفقراء في تناول الشوكولاتة بصفتها سلعة متاحة للجميع وليست مقتصرة على الأغنياء والصفوة وحسب. كما أن الأثرياء من مالكي مزارع الكاكاو كانوا جزءاً مؤثراً وفاعلاً في الحراك السياسي في الثورة الفنزويلية عام 1811 ضد السلطة الإسبانية.

لكن القصة لم تتوقف هنا، فقد تأثرت الشوكولاتة كمنتج وسلعة مرتبطة بعمالة الفقراء بالأحداث السياسية وبتغيير الخريطة حول العالم، فقد كانت جزءاً من تطور الأحداث في فرنسا بعد اقتحام سجن الباستيل، وذلك بعد أن كانت جزءاً من حياة النبلاء اليومية، وتأثرت كذلك بالأزمات الاقتصادية المرتبطة بالحروب العالمية وتوقف الإنتاج وحركة التجارة الدولية.

وبوصول حركات التحرر إلى درجاتها القصوى، وحصول العديد من الدول على حريتها وسيادتها، صارت هناك دول مصنعة مصدرة للشوكولاتة معتبرة إياها من مصادر الدخل، ودول أخرى مستوردة، وتحولت تلك الحبوب إلى جزء من حركة الاقتصاد الذي لا يتوقف، وارتبطت كذلك بالصورة التقليدية التي لا يبدو أنها ستختفي من العالم قريباً، تلك المرتبطة بالعمالة ذي الأجور القليلة والدول الرأسمالية المستوردة لسلع لا تعرف شيئاً عن الرحلة التي مرت بها سلعتها المفضلة لتصل إليها.

في الحقيقة، حمل تاريخ الشوكولاتة على وجه التحديد مدخلاً تاريخياً غاية في الأهمية، يبين حقيقة تطور العلاقة بين الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد والدول كذلك، ليكشف لنا واحدة من المسلمات المجتمعية التي لا يبدو أنها ستتغير في المستقبل القريب.