في مقال عن التعددية والعيش المشترك في مصر تحدّثتُ عن اثنين من الآباء المسيحيين كليهما يهتمُ بالإسلاميات والتصوف، أحدهما يقرأ القرآن ويدرسه، والثاني، ينشد مع المتصوفة أشعار الحبّ الإلهي، وفي هذا المقال أتحدّث عن أحد الآباء اليسوعيين الذي ترجم لجلال الدين الرومي بعض أشعاره وشرحها لتلاميذه وأصدقائه قبل أن يغادر العراق إلى باريس، هو الأب بول نويا الذي وُلد في منطقة العماديّة في جبال كردستان العراقيّة في يناير عام 1925, ثم انضمّ إلى اليسوعيّين في لبنان عام 1948، وبعدها أكمل دروسه في الإسلاميّات تحت إشراف المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون المعروف باهتمامه بالتصوف الإسلامي، وفي العام 1970 أنجز أطروحته للدكتوراه الّتي تقدّم بها في جامعة السوربون بباريس، ثم كان يوزّع وقته بين بيروت وباريس، يُشرف على الأطاريح ويُدرّس في جامعة القدّيس يوسف، والمعهد العمليّ للدروس العليا في باريس، متبوّئًا الكرسيّ الّذي سبقه عليه أستاذه وزميله لويس ماسينيون. إلاّ أنّ كثرة أعماله أنهكت قواه، وعاجلته المنيّة بباريس فتوّفي بسكتة قلبيّة وهو لمّا يزل في الخامسة والخمسين من عمره، يوم 25 فبراير 1980.


إسهامات نويا

اضطلع الأب نويا بمهمة تدريس الإسلاميّات في معهد الآداب الشرقيّة ببيروت، والإشراف على سلسلة «بحوث ودراسات» التي تصدر حتى يومنا هذا عن دار المشرق اليسوعيّة، وأشرف على باحثين كثيرين، نذكر من بينهم اثنين من مشاهير عصرنا، الأول: أعجبه من الصوفية إرادة الكشف المستمر والنضال ضد العقلانية ورفض الخضوع بشكل مفروض على أنه شكل نهائي، وهو الشاعر علي أحمد سعيد الشهير بـ(أدونيس). والثانية، أستاذة الفلسفة والعلوم الصوفية بالجامعة اليسوعية سعاد الحكيم التي ارتبط اسمها بالشيخ الأكبر ابن عربي وكُرّمت من أجل أعمالها ودراساتها عنه شرقًا وغربًا وقد رأت من أستاذها صدقًا في فهم التجربة الصوفية ومحبة للتصوف، فلم يكن مهووسًا كغيره من المستشرقين بالبحث عن مصدرٍ وأثر خارجي للتصوف، بل راح يلتمس أصول المذهب الصوفي في القرآن والسنة النبوية، ويحاول تتبع التفاسير ليعيد اكتشاف اللغة الصوفية.

عَرَفَ الأب بول نويا عبر دراساته للنصوص الصوفية وتحقيقاته لتفاسيرهم أن بداية التجربة الصوفية انبعثت من القرآن، فالذاكرة الروحية الإسلامية تغذّت بالنصّ القرآني، ففي بدء التجربة يعتمد الصوفيُّ على القرآن، ولكن لغته تتغيّر وتتلوّن بلون تجربته لتؤول معنى النصّ وتستنبط معنى قد يخالف المفهوم السابق للنص قبل التجربة. ويعني ذلك أن الصّوفي يرجع في نهاية التجربة إلى بدايتها أي إلى القرآن. في البدء الصوفي يرى صورته كما يعكسها القرآن، ثم يصبحُ مرآة تنعكسُ فيها معاني القرآن العميقة.

من هنا راح الأب نويا يتتبع تفاسير الصوفية للقرآن بداية من جعفر الصادق وابن عطاء الأدمي والنوري ويبحث في لغة النّفري وتجربة روزبهان البقلي ويردد حكم ابن عطاء الله السكندري حتى استطاع في وقت قصير من حياته أن يسبر غور هذه التجارب ويؤلف عنها الكتب بالعربية والفرنسية، ويعرّف بأعلام الصوفية في دوائر المعارف الإسلامية، ليصبح إنتاجه مصححًا ومطوّرًا للدرس الاستشراقي للتصوف الذي اعتمد أحكامًا مسبقة ظل محافظًا عليها، سواء كان ذلك بدافع التعصب أو لقلة المصادر المخطوطة التي لم تكن قد اكتشفت بعد.


بحوثه ومؤلفاته

ويمكن هنا أن نعطي هنا لمحة عن مؤلفات الأب نويا ودراساته المنشورة:

1. تفسير القرآن للإمام جعفر الصادق (بالعربية) وكتب دراسة عنه بالفرنسية عام 1969، اجتهد الأب نويا في تتبع التفسير القرآني بداية من مقاتل بن سليمان حتى الإمام جعفر الصادق، وقد اعتمد في إخراج نصّ الصادق عليه السلام على مخطوطة «حقائق التفسير» للسلمي، فلم يكن الكتاب قد نُشر بعد، واشتهر عمله في الدوائر العلمية شرقًا وغربًا، وأُعيد طبع هذا التفسير في إيران والعراق، وبعد عشرة أعوام من ظهور هذا التفسير اجتهد الدكتور زيعور في تقديم صورة تامّة من تفسير الصادق والكتابة عن حقائق التفسير القرآني مطوّرًا هذه الكتابة عبر نشرات ثلاث للتفسير بدأت من 1979 حتى عام 2002.

2. في عام 1973 قدّم نويا نصوصًا صوفية غير منشورة من قبل وفّر فيها جملة من تفسير ابن عطاء الأدمي والنوري والتُستري، وأعيد نشر هذه الأعمال في إيران في «مجموعهٔ آثار أبو عبد الرحمن سلمى: بخثهايى از حقائق التفسير ورسائل ديگر» بعناية نصرالله پورجوادي. وقد قارب الأب نويا تجربة هؤلاء مركّزًا على ما أضفوه في تأويلاتهم للقرآن، وعلى وضعية اللغة والتجربة في هذا التأويل.

3. في العام نفسه نشر الأب نويا مقدمة تفسير القرآن لعلاء الدولة السمناني، وهو عالم صوفي كتب باللغتين العربية والفارسية، وله تصنيفٌ شبيهٌ بالمنقذ من الضلال والكاشف عن الأحوال، شرح فيها أحواله الروحية وكيف سار في طريق التصوف، وإن كانت كتابات الأب نويا فاتحة وتمهيدًا للاهتمام العربي بأعلام التصوف، إلا أن هذه الشخصية الصوفية لم تنل حظّها من الدرس عربيًا حتى اليوم.

4. اعتنى الأب نويا بتفسير أبي الحسن الحرّالي المراكشي للقرآن، ونشر رسالته مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزّل، وقد أعاد نشر هذه الرسالة محمادي الخياطي في المغرب ضمن كتاب «تراث أبي الحسن الحرالي في التفسير» كما فعل مع رسالة التوشية والتوفية، لفت الأب نويا عناية الدارسين إلى هذه الشخصية العريقة بمقالاته الثلاث التي كتبها عن مؤلفات الحرالي، وثمة مقالة مهمة أنجزها نُشرت بعد وفاته عن اللغة التصويرية والصور الإنجيلية والتوراتية في تفسير القرآن .

5. لا تنفصل قراءة الأب نويا للنفّري عن الإشكال الذي تصدّى كتاب تفسير القرآن واللغة الصوفية لمقاربته. فقراءته لم تكن إلا حلقة في مسار طويل، انطلق فيه من رصد البذور الأولى التي استنبتها الصوفية في إرساء تأويل خاص للقرآن، ومن هنا أفرد الأب نويا للنفري في كتابه سالف الذكر ستين صفحة باللغة الفرنسية بعد أن حقق للنفري أعماله المجهولة، التي تلت نشرة أرثر أربري للمواقف والمخاطبات في مصر، فقدّم لنا نصوصًا جديدة من مواقف النفري لتكتمل بها أعمال النفري منذ فترة بعيدة لا كما يُظنّ اليوم أنها لم تكتمل إلاّ مع الأعمال الكاملة المنشورة في بغداد 2007، وقد كان لتحقيق الأب نويا لأعمال النفري، والكتابة عنه في المجلات الفرنسية والعربية أثر مباشر في الدرس العربي؛ بدأ بعد نشرته بعام للمواقف المجهولة، فقد كتب أدونيس مقالاً حول «تأسيس الكتابة الجديدة» ونشرت مجلة بيروتية عام 1971 قدرًا كبيرًا من «مواقف النفري» ليعرفه الجمهور بعد غربة طويلة.

6. لإيمان الأب نويا أن أعمال صوفية كثيرين غير الحلاّج الذي حقّق طواسينه، قد طوّرت المعجم الصوفي واللغة الصوفية، فانشغل بدراسة كتاب معرفة الأسرار للحكيم الترمذي، وهذا الكتاب في جملته عبارة عن خواطر أراد الحكيم الترمذ أن يحدد من خلالها معاني الكلمات التي تدور على ألسنة الصوفية؛ ويتناولها الشيوخ الصوفية بالعرض والتحليل من مثل الشوق والصبر والعبرة والقبض والبسط والحلم ولعلم والمعرفة والتوكل وسواها. فقد حشد في هذا الكتاب حوالي مائتين وعشرين مصطلحًا عرضا لمعاني أغلبها في اختصارٍ أشبه بالتعريفات الجامعة المانعة.

بقي أن نشير إلى أن آثار الأب نويا بحاجة إلى دراسة وعناية، فقد تعرض بعضها للسرقة، وغاب بعضها بين ركام الأوراق والدفاتر القديمة، واستفاد البعض منها دون أن يشير إلى سبقه في التعريف بأعلام الصوفية والعناية بمؤلفاتهم.