لا يُمكن أن يأتي ذِكر للحملات الصليبية التي تعرَّضتْ لها بلاد الشرق بدءًا من أواخر القرن الحادي عشر وحتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096 – 1291)، دون أن تستدعي الذاكرة ما ترسّخ في عقولنا من صورةٍ لجنود يرفعون رايات الصليب يتدفقون على بلادنا من أوروبا لانتزاع الأراضي المقدسة وإقامة المستوطنات في أنحاء الشام.

هذه الصورة التي لعب فيلم «الناصر صلاح الدين» دورًا في صياغتها ليست مبالغة أبدًا إلا في أمرٍ واحد، وهو أن هذه الحرب كانت مسيحية بالمُطلق تجاه كل ما هو إسلامي، وهو زعم تنقصه الدقة التاريخية وفنّدته عشرات الحوادث التي أثبتت مقاومة مسيحيي الشرق لمسيحيي الغرب شأنهم شأن أي مُستعمر آخر.

وهكذا، فإنه عندما رفع الغربيون رايات الصلبان خلال أعمالهم العسكرية تجاه بلاد الشرق لم يُواجهوا مسلمي هذه الأراضي وحسب، وإنما حاربوا مسيحييها أيضًا، بعد ما فشلت كل محاولات استقطابهم، وناضلوا، رفقة جيرانهم من أهالي مصر والشام، الغزاة الأجانب في مشهدٍ جسَّد طبيعة الصراع بين أبناء المِلة الذين فرَّقت بينهم انتماءات الأرض.

يحكي الباحث جيروم مورفي (Jerome Murphy-O’Connor) في دراسته التي حملت عنوان «مفاتيح أورشليم»، أن شرارة القتال الأولى اندلعت في العقد الأول من القرن الحادي عاشر الميلادي، حين هدم الخليفة الفاطمي «المجنون» الحاكم بأمر الله، كنيسة القيامة التي تعدُّ أحد أقدس أماكن المسيحيين لوجود قبر السيد المسيح بها.

استغلَّ بابا الفاتيكان ألكسندر الثاني هذا الحدث في الإعلان عمّا سماه «حربًا مقدسة» تهدف للسيطرة على القدس موطن الحج المسيحي، وانتزاعها من بين أيدي المسلمين، بينما هدفت الخطة في باطنها إلى تحقيق مآرب استعمارية تمثلت في الاستيلاء على كافة أراضي الشرق الواقعة بين أيدي المسلمين.

إن الصليبيين يكرهوننا

على الرغم من مرور 6 قرون على انعقاد مجمع خلقدونية (انعقد عام 451 م)، والذي أحدث انشقاقًا لاهوتيًا كبيرًا بين الكنائس الشرقية والغربية لم يلتئم أبدًا، ومن منطلق هذا الخصام الخلقدوني مارَس الصليبيون التابعون للكنيسة الغربية الكاثوليكية اضطهادًا كبيرًا بحقِّ الكنائس الشرقية لعشرات السنوات، فسلبوا منهم كثيرًا من دُور العبادة وعزلوا بطريركها، مما زاد من حِدة العداء بين فرقتي المسيحية في كافة أنحاء الأرض.

لذا عندما أتت الحملات الصليبية إلى بلاد الشام، اعتبرت أن العرب المسيحيين «هراطقة» لمجرد أنهم يتبعون لمذاهب مسيحية شرقية تختلف عن المذاهب الغربية، فاضطهدوا العرب المسيحيين أيضًا، وحين احتلوا القدس عام 1099م قتلوا معظم مَن فيها مِن مسلمين ومسيحيين ويهود.

في أوائل القرن العاشر الميلادي اجتاح البيزنطيون شمال سوريا ثم لبنان، وعلى الرغم من أن الفاطميين تمكنوا من إيقاف تقدمهم فإن البيزنطيين نجحوا في الاحتفاظ بمساحات شاسعة من الأراضي العربية لمدة 150 عامًا، ويحكي المؤرخ الكاثوليكي جاك تاجر (Jacques Tagher) في كتابه «أقباط ومسلمون»، أنه خلال هذه المدة أشعل اللاتين نيران العداوة مع أبناء مِلتهم الشرقيين، بعد ما عاملوا مسيحيي الشام معاملة قاسية وحوَّلوا كنائسهم الى كنائس لاتينية، ومنعوا أقباط مصر من زيارة بيت المقدس، وهو امتداد لاضطهادات أخرى مثل عزل البطريرك وتعيين آخر من قبل الملك، مما خلق نوعًا من القيادة الدينية المزدوجة في هذه الفترة؛ الأولى رسمية، عُرفت بالبطريرك «الملكاني» الذي يُعنيه الملك البيزنطي، والثانية غير رسمية وكانت الكنيسة الشرقية تُعيِّن بطريركًا من الباطن يُسمَّى «البطريرك اليعقوبي».

ويستشهد جاك تاجر في كتابه بمقولة لأحد المؤرخين الأقباط المجهولين يُعبِّر بها عن مدى أسف المسيحيين الشرقيين من طريقة حُكم الصليبيين، يقول: «لم يكن حزن اليعاقبة بأقل من المسلمين.. بأي حق يمنع النصارى الأقباط من الحج إلى القدس أو الاقتراب من المدينة؟ إن الصليبيين يكرهوننا، كما لو كنّا ضللنا عن الإيمان القويم».

كما ينقل تاجر، أيضًا، عن الأسقف اليعقوبي ميخائيل السوري تعليقه على طبيعة العلاقة بين الصليبيين ومسيحيي الشرق، بقوله: «لما اجتاز الصليبيون البحر (البحر المتوسط)، اجتمعوا وأخذوا عهدًا على أنفسهم أمام الله بأنهم لو دخلوا القدس سيعيشون بسلام مع مختلف المذاهب المسيحية وسيوزّعون الكنائس والأديرة على جميع الطوائف المسيحية»، وهو ما لم يفعلوه فور انتصارهم على جيوش المسلمين، فبحسب ميخائيل «لما احتلَّ الصليبيون مدينة أنطاكية، طردوا الأروام (الروم) من كنائسهم الكبرى، وطردوا أساقفهم، ثم عينوا بطريركًا وعدة أساقفة من اللاتين».

وهو ذات المعنى الذي أكّده متى الرهاوي، أحد أبرز مؤرخي فترة الحملات الصليبية، عبر كتابه «تاريخ متى الرهاوي»، والذي اتّهم فيه اللاتين المنتصرين بالاستيلاء على أديرة المسيحيين بطوائفهم المختلفة كالأرمن والروم والسوريين والجورجيين.

هذا العداء المُطلق الذي تحلّى بها اللاتين تجاه المسيحيين العرب، يُفسِّر الحماس الذي أبداه مسيحيو الشرق لمقاتلة الصليبيين، بعد ما اعتبروا أن نجاحهم في حُكم بلاد العرب سيُشكِّل خطرًا على إيمانهم الأرثوذكسي وقد يحرمهم من اتّباع كنيستهم الشرقية.

الدين لله، والقدس للجميع

على الرغم من روابط العقيدة بين المسيحيين المحليين والصليبيين فإن المسيحيين المحليين فضَّلوا روابط التاريخ واللغة والعيش المُشترك مع المسلمين، على حدِّ وصف أستاذ التاريخ الإسلامي حاتم فزع، في دراسته تحت «واقع المسيحيين في بلاد الشام أثناء الغزو الصليبي»، والتي أكد خلالها أن المسيحيين المحليين لم يستغلّوا المحنة التي تعرّض لها المسلمون من غزوٍ أوروبي لمقاتلتهم طائفيًا وانتزاع السُلطة منهم إلا في بعض الحوادث الفردية.

ويضيف فزع، أن مقاومة الغزو الصليبي لم تقتصر على العامة من المسيحيين، بل إن بعض رجال الدين من مسيحيي العرب حرصوا على المساهمة في أعمال القتال ضد الصليبيين ومساعدة المسلمين في التصدّي لهم.

وجرت واحدة من أبرز حكايات انتصار المسيحيين لحكّامهم المسلمين على الغزاة الأوروبيين عندما اندلع خلاف بين الملك المعظم عيسى سُلطان دمشق وأخيه الملك الكامل صاحب مصر، على إثره استنجد الأخير بالإمبراطور الألماني فردريك الثاني.

وعد الملك الكامل الإمبراطور الألماني بالتنازل عن بيت المقدس إن آزره في صراعه مع ابن أمِّه، وبالفعل حرّك فردريك قواته إلى صقلية، وهي الخطوة التي أثارت شكوك سُلطان دمشق فأرسل راهبًا مسيحيًّا يُقيم في جبال الشوبك (سلسلة جبال تقع ضمن حدود الأردن) إلى صقلية ليعرف حقيقة التحالف بين الملك الكامل والإمبراطور الألماني، وهي المهمة التي قام بها الراهب بكفاءة.

وعندما انتهت مهمة الراهب وعاد إلى دمشق، أكرمه الملك عيسى خير إكرام وأقطعه أرضًا في الشوبك.

لم يقتصر هذا الدعم العسكري على مسيحيّ الشام فحسب، بل كان أقباط مصر على ذات القدر من «الوطنية»، يحكي الدكتور يواقيم رزق في كتابه «تاريخ الكنيسة القبطية من القرن الـ10 حتى الـ19»، أن الفاطميين أضمروا حالة من الشكِّ الدائم تجاه مسيحيي مصر، ولم يأمنوا جانبهم خلال اندلاع الحملات الصليبية، معتقدين أنهم قد يُساعدون أبناء دينهم الغربيين خلال لحظات اشتعال القتال فأثقلوهم بالجزيات الباهظة ولاحقوهم بصنوفٍ شتّى من الاضطهاد.

ويُضيف: وعلى الرغم من كل ذلك، فإن أقباط مصر رفضوا التعاون مع الصليبيين في حملتهم على مصر إبان خلافة الأمير بن المستصلي (1101 -1130)، وهو ما أغضب الصليبيين عليهم فمنعوهم من زيارة الأراضي المقدسة.

مثل هذه المواقف ولّدت قدرًا من الثقة بين صلاح الدين الأيوبي والأقباط، فأنعم عليهم بكنيسة في الفسطاط خاصة بطائفة الروم، ووهبهم مكان دير السلطان، كما تعاون الطرفان بشكلٍ مثمر لمواجهة الصليبيين، ومن أبرز الأمثلة على هذا جهود الجاسوس القبطي عيسى الغواصي الذي كان يعوم بالقرب من سفن الصليبيين ويتعرف على أخبارهم ويبلغها إلى صلاح الدين، وعلى الرغم من إنكار عددٍ من كتب التاريخ الإسلامي لشخصية هذا الجاسوس، فإن كثيرًا من المؤلّفات القبطية تحدثت عن بطولاته، مما يُعطينا على الأقل دلالةً على أن أفعاله هذه كانت محل احتفاء قبطي بمقاومة المُحتلِّ اللاتيني لصالح جيوش الأيوبيين.

وفي النهاية، أثمرت هذه الجهود المتواصلة عن نجاح صلاح الدين في استرداد مدينة القدس عام 1187م.

المرتزقة المسيحيون في جيوش المسلمين

لا أشك أبدًا في أن الدعم المسيحي لجيوش المسلمين لم يتوقّف طوال الحروب الصليبية على ما قدّمه أهل البلاد المسيحيين وحسب، وإنما اتسع ذلك ليشمل أيضًا مسيحيين من مختلف الأصقاع والبلاد، ومنهم لاتينيون أيضًا، وذلك من خلال فئة «المرتزقة».

ولاستعانة المسلمين بمرتزقة مسيحيين في جيوشهم قصة طويلة لم تبدأ في مصر وإنما في الأندلس، فكان الأمير القرطبي الحكم بن هشام سبَّاقًا في تنفيذ هذه الخطوة خلال القرن التاسع الميلادي.

يحكي فرج إبراهيم في دراسته «المرتزقة المسيحيون في الأندلس والمغرب»، أن الفرسان المسيحيين تمتّعوا بتقديرٍ كبيرٍ في صفوف الجيوش الإسامية بسبب انضباطهم ومهاراتهم في ساحة المعركة، كما كانوا يُشكلون الدعامة الأساسية للحرس الشخصي للأمراء أو الخلفاء في المغرب، والبعض الآخر تم توظيفه للقيام بأدوار غير عسكرية كتحصيل الضرائب.

ونعرف أن الأمير المغربي أبو يوسف يعقوب اصطحب معه قوة مسيحية إلى مقاطعة الجزيرة الخضراء (تقع جنوب إسبانيا) لدعم الملك القشتالي ألفونسو العاشر، الذي تعرَّض لسلسلة من المِحَن بداية من محاولات التمرد والغزوات على حدود بلاده ونهاية بعزله على يدي ابنه سانشو عن عرشه عام 1282م.

ونعرف أيضًا، أن مجموعة من النبلاء المسيحيين عملوا في خدمة أسرة الخلافة الموحدية، وكانوا يلعبون دورًا في المفاوضات الدبلوماسية مع القوى المسيحية المُجاورة، مثل النبيل المسيحي غارسي مارتينيز دي غاليغوس الذي أرسله الأمير المريني أبو يوسف إلى إسبانيا عام 677 هـ، لإقناع بعض المتمردين المسحيين برفع الحصار عن الجزيرة الخضراء.

هذه القيمة الكبرى التي شكّلها المرتزقة في الجيوش الإسلامية، كانت سببًا في الرسالة الشهيرة التي وجّهها بابا الكاثوليك إلى رجال الدين في أنحاء إسبانيا عام 1214 ميلاديًا، يأمر فيها بنفي أي مسيحيين ساعدوا المسلمين في حروبهم ضد الغزوات الصليبية التي كانت تُشنُّ على البقاع الأندلسية من وقتٍ لآخر.

هذه الرسالة لم تكن كافية لوضع حدِّ لهذه الظاهرة، فبعدها بـ4 أعوام كرّر رئيس الأساقفة رودريغو خيمينيز في طليطلة التحذير، وأرسل برقية إلى جميع فرسان مملكة قشتالة قال فيها: «بما أننا قد بلغنا أن بعضكم بمفرده، والبعض الآخر مع أمراء وأصدقاء، قد تخلوا عن شعبهم وأرضهم الأصلية، وتحالفوا مع المسلمين من أجل مهاجمة الشعب المسيحي معهم وإلحاق الهزيمة بهم، نحن نناشدكم ونحذركم جميعًا بالرب أن تكفوا عن هذا الهدف، في مثل هذا الوقت الخطير، وألا تتحالفوا مع هذا الشعب المنحرف».

وهي الظاهرة التي أعتقد أنها لا يُمكن أن تكون قد توقّفت عند حدود المغرب والأندلس وحدهما وإنما امتدَّت إلى مصر أيضًا، وهو ظن لا أملك دليلًا قطعيًا عليه إنما بعض الإشارات في عددٍ من المراجع التاريخية التي لمّحت إلى هذا الوجود بشكلٍ مُوارب.

يقول محمد عبد الله في دراسته «المرتزقة في مصر والشام زمن الحروب الصليبية»، إنه خلال المواجهة الإسلامية الصليبية الشاملة، استخدمت جميع وسائل القوة والغلبة؛ کالأدوات الدبلوماسية، والمهارات العسكرية، والقدرات الاقتصادية، والعناصر البشرية، وكان تجنيد المرتزقة بصورة فردية أو جماعية، ضمن مشاريع رسمية أو غير رسمية.

ويؤكد أن الجيوش الإسلامية عرفت الاستعانة بالعديد من المرتزقة زمن الحروب الصليبية، تنوَّعت جنسياتهم على كل لون؛ فشملت الفرنجي والأرمني، والماروني والتركي والجركسي، والبيض والسود.

انتشر هؤلاء المرتزقة في صفوف جيوش المسلمين خلال الحروب الصليبية نتيجة لتمدد ميادين القتال في أماكنٍ شتّى لفترات طويلة، مما استلزم تغيرًا مستمرًا في طبيعة العمليات الحربية، والعمل على تنويع التكتيكات والأدوات القتالية، وهو ما وفّر فرص عمل ثابتة للمرتزقة في بدن الجيوش الإسلامية.

ففي الوقت الذي كانت فيه جيوش المسلمين بارعة في القتال بـ«الكر والفر» اعتمد اللاتينيون على «قتال الزحف»، الأمر الذي جعل الاستعانة بهم ضروري للاستفادة من خبراتهم القتالية في الثبات خلال الزحف.

وعلى الرغم من أننا لا نمتلك معلومة يقينية عن استعانة جيوش المسلمين بمرتزقة مسيحيين خلال حروبهم ضد الصليبيين في مصر والشام، فإنني لا أظنُّ أبدًا أنهم تخلّفوا عن عادة جيرانهم المغاربة والأندلسيين في هذا الوقت الصعب الذي كانوا فيه بحاجة إلى كل سيف إضافي حتى لو كان ساعد اليد التي ترفعه نُقش عليها ذات الصليب الذي ترفعه رايات المغيرين.