لقد أبادنا الرجل الأبيض بسلاحه، وانتقمنا منه بسلاحنا.

مقولة لزعماء قبائل الهنود الحمر كانوا يقصدون بها نقل عادة التدخين إلى الرجل الأبيض، وهو في نظرهم المحتل الأوروبي الذي اغتصب أرضهم.

فقد عُرض التبغ على «كريستوفر كولومبوس» عندما اكتشف الأمريكتين، وبدأ بعد ذلك مسيرة انتشاره نحو بقية أرجاء العالم، حتى ازدهرت معه صناعة السجائر وأصبحت الصناعة الأكثر ربحًا للعديد من الشركات حول العالم.


التبغ: نبتة فريدة لعلاج السرطان؟

أثناء فترة تواجده بالقارة الأمريكية، وبالتحديد في 1492 لاحظ المستكشف الإيطالي الأصل كريستوف كولومبوس قيام السكان الأصليين (هنود أمريكا الشمالية) باستخدام ورق التبغ عن طريق لفّه على شاكلة سجائر وحرق إحدى جهتيه من أجل مقاومة الجوع وعلاج أوجاع الرأس.حصل كولومبوس على أوراق التبغ المجفف هذه من السكان الأصليين، فما كان منه إلا أن نقلها إلى كل من إسبانيا والبرتغال خلال رحلة العودة إلى القارة الأوروبية.

وفي عام 1559، عيّن ملك فرنسا «فرانسوا الثاني» الدبلوماسي «جان نيكوت» سفيراً لفرنسا في البرتغال، وخلال فترة تواجده بمدينة لشبونة البرتغالية، راسل نيكوت أحد أصدقائه بفرنسا ليحدثه عن نبتة التبغ الفريدة من نوعها، فهي دواء لمختلف أنواع الأمراض بالبرتغال!

لم يمر سوى عام واحد حتى أرسل نيكوت كمية من التبغ إلى ملكة فرنسا كاترين دي ميديشي لعلاج آلام الرأس والصداع الحاد الذي كانت تعاني منه، كما حدد طريقة استخدام واستنشاق التبغ، لتعرف هذه النبتة ظهورها بشكل واسع في فرنسا بالتزامن مع انتشار عادة استنشاق مسحوقها بين أهالي باريس.

منذ ذلك الحين انتشرت صناعة السجائر في أوروبا، وزادت شعبيتها حيث كان يُنظر إليها باعتبارها رمزاً للتألق والمكانة والثروة، واعتقد الأوروبيون أنها يمكن أن تعالج أي شيء من رائحة الفم الكريهة إلى السرطان.

إلا أن ذروة انتشارها جاءت مع إدخال آلات لف السجائر عام 1880، فقبل ذلك العام كانت الشركات قادرة على إنتاج من 4 إلى 5 سجائر في الدقيقة، إلا إنه مع اختراع «جيمس بونساك» آلة يمكنها طرح 210 سيجائر في الدقيقة، أو 20 ألف سيجارة في 10 ساعات، ازدادت معدلات انتشار السجائر بشكل كبير، حيث انخفضت أسعارها ما حفز الطلب عليها.


لنتجه إلى الدول النامية

حتى ذلك الوقت، لم تكن الآثار الصحية السلبية للتبغ معروفة، بل اشترك معظم الأطباء الأوروبيين الأوائل في الاعتقاد الأمريكي الأصلي بأن التبغ يمكن أن يكون دواء فعالاً لمختلف الأمراض، إلا إنه مع بداية القرن العشرين بدأت الحقيقة تنكشف، وانكشفت معها الآثار السلبية للتدخين.

ففي 1930،تم إثبات وجود علاقة إحصائية بين التدخين والسرطان. وبحلول عام 1944، بدأت جمعية السرطان الأمريكية بالتحذير من الآثار السيئة المحتملة للتدخين، على الرغم من أنها اعترفت بأنه «لا يوجد دليل واضح» يربط بين التدخين وسرطان الرئة.

بدا الأمر أكثر وضوحًا عام 1952، عندما نشرت مجلة «ريدرز دايجست» مقالاً بعنوان «السرطان بواسطة الكرتون»، تناول مخاطر التدخين. كان تأثير المقال هائلاً، حيث بدأت تقارير مماثلة تظهر في الدوريات الأخرى، وبدأ جمهور المدخنين ينتبه للأمر، حتى انخفضت مبيعات السجائر في العام التالي بشكل كبير.

وبحلول عام 1954، شكّلت شركات التبغ الرئيسية في الولايات المتحدة مجلس أبحاث صناعة التبغ لمواجهة المخاوف الصحية المتزايدة، كما بدأت في تسويق سجائر مفلترة وصيغ منخفضة القطران، حتى استجاب الجمهور لذلك، وسرعان ما ارتفعت المبيعات مرة أخرى.

برغم من تلك المحاولة من جانب الشركات، فإن الضربة الكبرى لها جاءت مع أوائل الستينيات (1964). فقد تم تشكيل اللجنة الاستشارية للجراح حول التدخين والصحة، والتي أصدرت تقريرًا من 387 صفحة بعنوان «التدخين والصحة». وبعبارات لا لبس فيها،خلص التقرير إلى أن تدخين السجائر يرتبط بسرطان الرئة لدى الرجال. كما أشار إلى أن البيانات الخاصة بالمرأة -ورغم كونها أقل شدة- تسير في نفس الاتجاه. واختتم مؤكدًا أن التدخين يزيد من احتمال الإصابة بسرطان الرئة بنسبة تتراوح بين 9 و10 مرات عن متوسط ​​غير المدخنين.

أدت تلك التقارير إلى زيادة الوعي الجمهوري بمخاطر التدخين وانخفاض معدلات انتشاره في الأسواق التقليدية لأمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، مما دفع صناعة التبغ لإعادة تركيز جهودها الترويجية على الدول الأقل نموًا والناشئة في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط والاتحاد السوفيتي سابقًا.


الربح أولاً وليذهب الفقراء إلى الجحيم

بنهاية القرن الـ20 بدأت عملية انتقال ملكية مؤسسات التبغ من الدولة إلى القطاع الخاص، وتحديدًا الشركات المتعددة الجنسيات.ففي 2013، كانت 10 دول هي من تسيطر على 80% من إنتاج ورق التبغ في العالم، واعتبارًا من 2014، ازدادت القوة التسويقية لشركات التبغ، وتركزت هذه الصناعة بيد 5 شركات تسيطر على 85% من سوق التبغ العالمية.

تمثلت هذه الشركات في 4 شركات متعددة الجنسيات (شركة فيليب موريس، والشركة البريطانية الأمريكية للتبغ، والشركة اليابانية للتبغ، والشركة البريطانية أمبريـال توباكو) إضافة إلى مؤسسة التبغ الوطنية الصينية، والتي تملك 40% من حصة إنتاج السجائر في العالم.

وطبقًا لتقرير بثته قناة سي بي سي، فإنه برغم القيود الصحية والحكومية التي تواجه شركات التبغ فيما يخص الإعلان عن السجائر، إلا أن مكاسب هذه الشركات خلال السنوات الأخيرة مازالت أكبر من أن تحصى. فقد حققت شركة فيليب موريس الأميركية –على سبيل المثال- صافي أرباح خلال 2011 بلغ نحو 3.9 مليار دولار، مقارنة بـ 2.4 مليار دولار في عام 2010، في حين حققت شركة توباكو صافي أرباح بمقدار 2 مليار دولار، كما حققت شركة الشركة البريطانية الأمريكية للتبغ صافي أرباح وصل إلى نحو 2.4 مليار دولار.

وبصفة عامة، يمكن القول إن اقتصاديات التبغ تقوم على نموذج واضح، تنتشر خلاله زراعة التبغ والصناعات التحويلية في 124 دولة، غالبيتها دول فقيرة، في حين أن المراحل الأعلى قيمة في سلسلة صناعة التبغ تتم في شركات التبغ المتعددة الجنسيات الموجودة في الدول الغنية.

تبيع هذه الشركات النسبة الأكبر منه للدول الفقيرة، مما يرتب أعباء ضخمة على الفاتورة الصحية ويرفع نسب الوفيات، وبذلك يكون الفقراء هم من يزرعون التبغ ويستهلكونه ويموتون من جرائه، أما الدول الغنية، التي تتم فيها عملية التصنيع، فتفرض ضرائب مرتفعة على السجائر ومنتجات التبغ، ولديها قوانين صارمة بشأن تسويق التبغ للحدّ من استهلاكه.

على هذا النحو،أشارت دراسة للمعهد الوطني للسرطان ومنظمة الصحة العالمية تحت عنوان «اقتصادات التبغ ومكافحة انتشاره» إلى أن أعداد الوفيات المرتبطة بالتبغ سترتفع من 6 ملايين سنويًا إلى نحو 8 ملايين سنويًا في 2030. وسيتركز العدد الأكبر من هذه الوفيات بالطبع في الدول المتوسطة ومنخفضة الدخل والتي يعيش بها 80% من إجمالي عدد المدخنين في العالم، البالغ 1.1 مليار مدخن.


في مصر: التبغ يُعالج عجز الموازنة

بالرغم من ارتفاع أسعار السجائر بها، فإنها مازالت تحتل المرتبة الأولى عربيًا في التدخين. فطبقًا لتقرير «اقتصاديات التبغ في مصر»، الصادر عن منظمة الصحة العالمية، فإن عدد المدخنين بلغ نحو 14.6 مليون مدخن، بما يمثل نحو 17% من إجمالي أعداد المصريين.وطبقًا لإحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن هذه النسبة ارتفعت عام 2015 إلى 19.6% من إجمالي عدد السكان.

وبينما تحتكر الشركات متعددة الجنسية صناعة السجائر حول العالم، فالوضع مختلف إلى حد ما بمصر، إذ إن شركة الشرقية للدخان (المنتج الوحيد لمنتجات التبغ في مصر ومحتكرة صناعة السجائر)، ليست المتحكم الوحيد بهذه الصناعة، فالحكومة المصرية تسيطر على أغلب أسهمها بنسبة 55%، وبذلك يكون لها النصيب الأكبر من الأرباح هذا فضلاً عن الضرائب.

وبحسب بيانات وزارة المالية، فإجمالي حصيلة ضريبة القيمة المضافة على السجائر والتبغ ارتفعت من 33 مليار جنيه عام 2016 إلى 40 مليار جنيه في 2017. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث قررت الحكومة في يوليو/تموز الماضي زيادة أسعار السجائر المحلية بنسب تتراوح بين 5.8% و29.4%، مستهدفة زيادة الإيرادات الضريبية بنحو 7.072 مليار جنيه (380 مليون دولار) في مشروع موازنة العام المالي الحالي 2018 – 2019، لعلاج عجز الموازنة العامة.

استندت الحكومة في ذلك إلى أن التبغ والسجائر تقع ضمن السلع التي لا تتميز بمرونة في الطلب، فعادة ما يؤدى رفع أسعارها إلى تراجع طفيف بمعدلات تدخين الشباب فقط، بعكس الفئات الأكبر سنًا التي تميل (في حالات رفع سعر السجائر) إلى تخفيض الإنفاق الأسرى على سلع وخدمات أخرى لصالح التبغ.