أنا أؤكد لك. إن قطع الرأس أسوأ بكثير من لسعة شمس.
«مايك هاكابي»، حاكم ولاية أركنساس السابق.

فتحت أبواب الجحيم على مصراعيها عندما تحدث أوباما عن كون التغير المناخي أخطر من الإرهاب. رغم الصدق السطحي البادي على تعليق «هاكابي» -أحد أهم ناكري التغير المناخي- بخصوص ما قاله أوباما، فقد ثبت أن التغير المناخي بالفعل كان وما زال أكثر خطورة من الإرهاب، إذا كان المقياس هو عدد الضحايا سنويًا.

يقتل التغير المناخي 400:300 ألف إنسان سنويًا. رقم لا تستطيع ممارسات قطع الرءوس أن تنافسه. لكن ماذا إن لم يكن الأمر منافسة؟ ماذا إن تضافرت جهود التغير المناخي والإرهاب لقتل المزيد والمزيد من البشر؟ لا تقتصر هاته المئات من الآلاف على ضحايا «ضربات الشمس» فحسب، بل إن الواقع يتعدى ذلك بكثير.


السقوط الممرحل

استطاعت الحياة النمو والتطور على الأرض بفضل توافر نظام «توازن – Equilibrium» حساس للغاية، لديه بعض آليات إعادة «الاستقرار – Buffer» عند فقدانه. مع هذا فإن هذه الآليات الطبيعية لا تعبأ بنا نحن البشر كثيرًا.

عادة ما تستغرق عمليات إعادة الاستقرار المذكورة حقبًا جيولوجية –آلاف وملايين السنين- وكثيرًا ما يكون من أعراضها التضحية الإجمالية بكل أو جزء من «الغلاف الحيوي – Biosphere» كما في الانقراضات الضخمة التي عاشها الكوكب مرة تلو الأخرى.

لكن هذا لا يهم المواطن. في حياة هذا المواطن، فإن الخوف من دولة بوليسية أو الصراع مع أفراد القبيلة المجاورة، أو عدم القدرة على الحصول على قوت يومه؛ تعد كلها أولويات تسبق بكثير اهتمامه بذوبان قطعة جليد في القطب الجنوبي. من الصعب على هذا المواطن الذي يئن تحت ضغوط تنوء بها الجبال، استيعاب أن سبب معاناته وسبب ذوبان قطعة الجليد واحد!.

حققت درجات الحرارة في القرن الـ21 أرقامًا قياسية حتى بالمقارنة مع أرقام القرن الـ20 القياسية. 9 سنوات من بين أكثر عشر سنوات حرارةً على الإطلاق -منذ بداية تسجيل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)- هي في القرن الـ21.

في أفريقيا دائمًا ما تزداد الأمور تعقيدًا. بينما يتعايش العالم مع ارتفاع درجة الحرارة بسبب الاحترار العالمي، تزداد درجة الحرارة لنفس السبب في أفريقيا 3 أو 4 درجات أكثر من باقي مناطق العالم. إن كانت مناطق العالم المختلفة محترة بالمقارنة مع مناخها السابق، فإن أفريقيا أصبحت على شفا الغليان، مناخيًا واجتماعيًا.

قبل الخوض في ذلك دعنا نأخذ بضع خطوات للوراء لنتفهم الصورة كاملة. تتذكر قطعة الجليد الذائبة؟

هي مجرد بيدق على رقعة شطرنج ضخمة تحركه الطبيعة. يعني ذوبان الجليد انخفاضـًا في طاقة الشمس المنعكسة عن الأرض، مما يعني رفع درجة حرارة الكوكب، بالإضافة لارتفاع منسوب المحيطات وإغراقه للسواحل. لكن كل هذا معروف ويتم تكراره دائمًا.


العالم يدمر وأفريقيا تدفع الثمن

انهارت الساعة الزراعية في أفريقيا في أول جولة في معركة المناخ. رغم أن القارة السمراء لا تنتج أكثر من 3% من الغازات المسببة للاحترار العالمي؛ فإنها الأكثر تعرضًا والأقل قدرة على تحمل ويلاته. على العكس من أماكن شديدة الجفاف كالمملكة العربية السعودية، فإن المجتمعات الأفريقية عاشت تاريخها وحاضرها تزرع وترعى في أراضيها الخصبة. أصبح كل هذا على وشك الانتهاء.

لم تعد الأمطار موسمية وقابلة للحساب. لم يعد الفلاحون الأفارقة يدرون هل أصبح مجيئها أفضل أم غيابها. لم تعد الأمطار تهطل وإن فعلت فإنها تأتي سيولًا وتتسبب في فيضانات مدمرة . ولأن معظم القارة وحتى أواخر القرن الماضي لم يعط أي فرصة لتكوين مجتمع ذي بنية تحتية صلبة تتحمل التغير الجذري في نشاط الشعب؛ فقد فقدت القارة بوصلتها نحو المستقبل.

تمر الأيام بين فيضان وحريق غابة وموجات حرارة شديدة لتسبب في خسائر اقتصادية تقدر بقيمة 125 بليون دولار سنويًا متزايدة إلى نحو 600 مليون دولار. إلا أن هذا ليس مجرد رقم تخسره بورصة أو شركة عالمية أو حتى كساد فادح في سوق. إنه حكم مباشر ونافذ بالموت. كيف؟ وما علاقة الأمر بالعنف؟

من ضمن الصور التي تتمثل فيها هذه الخسائر؛ نجد دمار محاصيل زراعية وماشية يعتمد السكان عليها مباشرة لضمان قدرتهم على الاستمرار في الحياة. في أفريقيا فإنك قد لا تمتلك ما يقيم أودك إلا أنك دائمًا ستجد وفرة من الرصاص آتية من حزام الدول المفككة – السودان وأوغندا والصومال .

يسيطر ملمح «الإغارة على الجيران» على مجتمعات ما بعد الجفاف والفيضانات وخلال المجاعات. إن لم تجد ما يسد جوعك وجوع عائلتك؛ فإن هذا سيكون مبررًا أكثر من كاف لتحمل السلاح، وتشق طريقك للحصول على ما تحتاج من جيرانك إن امتلكوا ولو قليلًا منه، شاءوا أم أبوا، ولو بالقتل!. هكذا يعيش –ويموت- سكان الدول الأفريقية.


متلازمة العنف في عالم ساخن

تتعامل المجتمعات، مثل الناس، مع التحديات الجديدة بطرق تتشكل من خبراتها المؤلمة الماضية. لذا فالمجتمعات المتضررة كالناس المتضررين تستجيب غالبًا لأزمة جديدة بطرق غير عقلانية وقصيرة النظر، ومدمرة.
«كريستيان بارينتي»، مدار الفوضى

هكذا يفسر «بارينتي» رد فعل الشعوب الأفريقية التي أنهكتها ومزقتها حروب الدول الإمبريالية، وذاقت ويلات الحرب الباردة بالوكالة. إن السكان لا يستطيعون الخروج «بثورة تصحيحية» من هذا الوضع بسبب التجارب الوحشية التي مروا بها طوال قرون، جاعلة من خيار العنف الخيار الوحيد القافز إلى أذهانهم عند التعامل مع أي مشكلة.

وبين التضييق الاقتصادي الذي تمارسه الدول الغنية ومؤسساتها العالمية المالية، وبين الحكومات التي لا ترى في الحكم غير سيارات تابعة للجيش يقف عليها رجال بزي مموه مصوبين رشاشاتهم نحو الناس، تستمر هذه الدول في التهاوي إلى أن تنهار أي قدرة على التماسك، وتتحول الدولة من نظام هش إلى «دولة فاشلة – Failed state» أخيرًا.

ما علاقة ذلك بالتغير المناخي؟

حاول أن تتخيل شعوبًا تنهار قدرتها على إنتاج أي سلعة سواء للاستهلاك الذاتي، أو للبيع عامًا تلو الآخر. الماء يندر ثم يتوافر كفيضان لا يتبقى منه إلا مستنقعات ضحلة، كما في نهر الكونغو، لا تروي إنسانًا ولا زرعًا. الماشية في شريط الرعي الشرق أفريقي تنفق واحدة تلو الأخرى إما من الجوع، أو «موجات الحرارة الشديدة – Heatwaves».

لاحظ أننا نتحدث عن المتطلبات الأساسية للحياة، لا للحياة المتحضرة. لم يعد هناك معنى لفكرة «المدينة» المنظمة ذات الهيئات والمصالح. في هذه الأماكن يقتصر الطب على المشافي الميدانية، أو أطلال مبان يمكن استخدامها كسقف لعلاج بعض الإصابات المتوسطة على أقصى تقدير.

تخيل هذه الظروف كلها، وتخيل الصراع الذي قد ينتج على العدد الزهيد من الماشية التي تبقت، أو المزروعات القليلة التي قاومت شح الماء. تخيل ما قد يحدث بين قبيلتين ترعى كل منهما الغنم، ليأتي الحر الشديد ليقضى على قطعان القبيلتين تاركًا عددًا لا يذكر لإحداهما!.

وهل هناك بيئة أكثر ملاءمة من ذلك لاتساع رقعة سيطرة حروب الوكالة، أو الأصوليات الممولة من أطراف لها مصالح مذهبية وقادرة على توفير الطعام والسلاح؟

هكذا يصبح الأمر حربـًا محتدمة بين الكثير من الأطراف أصحاب المصالح المختلفة، وهكذا يستمر أفراد قبيلة «التوركانا، والكوبوت» في قتل بعضهما البعض بشكل لا يعد استثنائيًا في أفريقيا.

في المقال المقبل سنحاول استقصاء العوامل التي أدت للانهيار المتتابع للدول الأفريقية، وسنسبر أغوار العلاقة بين هذا الانهيار وبين اضطراب مناخها وتاريخها وسط نيران حروب الدول الغنية.