تظل الحرب حول الاستنساخ من أكثر الحروب الشعواء التي خاضها العلم على عدة جبهات، والقضية التي تسببت في الكثير من الانقسام بين زملاء المختبر الواحد. بعد إحدى وعشرين سنة من ميلاد النعجة دولي في فبراير 1997 يظل الاستنساخ موضوعًا شائكًا تتقدم فيه المعرفة ببطء بسبب التضييق الناتج عن الحذر والريبة.

مع هذا يبدو أن القارة الآسيوية لا تتفق مع هذا الحذر ولا تتبنى قناعاته. صحيح أن أول عملية استنساخ لحيوان ثديي من خلية ناضجة Adult Cell قد آتت ثمارها في أدنبرة، إلا أن مكابح الخوف قد سيطرت على معظم فرص البحث في القارة العجوز ومعها الولايات المتحدة.

على الجانب الآخر من خريطة العالم، واصل الاستنساخ مسيرته في المختبرات الآسيوية. منذ نجاح دولي الذي لم يسبقه إلا تجارب محدودة على استنساخ البرمائيات وما شابه ذلك، تم استنساخ 23 نوعًا من الحيوانات من بينها الكلاب والقطط وحتى الذئب القطبي. كثير من هذه النجاحات ضمت الأحيائي الكوري الجنوبي المثير للجدل وو ساك وانج Woo Suk Hwang المتورط في تزوير نتائج أبحاث تخص استنساخ البشر بعدما أثبت سابقًا تمكنه من استنساخ العديد من الحيوانات بكفاءة.

والآن تدلي الصين بدلوها مرة أخرى في هذا المجال المثير للجدل. هناك ولدت القردتان الصغيرتان Zhong Zhong و Hua Hua في معهد علم الأعصاب بأكاديمية العلوم الصينية.

بنفس طريقة استنساخ دولي قام الفريق البحثي بقيادة كيانج سن Qiang Sun باستنساخ قردتين من فصيلة المكاك ريسوس Macaques Rhesus بواسطة خلية ناضجة لأول مرة. تعد تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها استنساخ أحد الرئيسيات Primates من خلية ناضجة كما حدث مع دولي بدلًا من خلية جنين.

يتبادر إلينا هنا سؤال ملح، ما الفائدة المرجوة من كل هذا السجال؟


الاستنساخ كأداة بحثية

يتمثل الفارق المهم بين استنساخ كائنات بسيطة نسبيًا كالضفدع وكائنات أعلى كالثدييات، أو بين استنساخ رئيسيات من خلية جنين واستنساخها من خلية ناضجة، في فائدة عملية الاستنساخ. لتصور الوضع علينا طرح سؤال مهم.. لماذا نقوم بالاستنساخ؟ ألا يعطينا التكاثر الجنسي الطبيعي ما يكفي؟ وما فائدة البحث وراء استنساخ البشر، ألا يكفي عدد السكان المتزايد باطراد؟

تلك هي الصورة التي صنعتها مانشيتات الصحف فيما يخص الاستنساخ، بشرًا متطابقين يسيرون بخطوة منضبطة معًا كالروبوتات. العيب الوحيد في هذه الصورة أنها لا تمت للحقيقة بصلة. فما الهدف فعلًا من الاستنساخ؟

تخيل أن لديك حصانًا جميلًا يتمتع بقوة وصحة ممتازتين. أو لديك سلالة من البقر لحمها يتمتع بطعم رائع، ولذلك فإن سعرها مرتفع دائمًا. بإمكانك توفير الظروف الملائمة لتكاثر حيواناتك الثمينة ذات الصفات الرائعة، إلا أنك تخاطر حينها بمدخلات جينية جديدة قد تضر هذا التناسق الرائع الذي تملكه حيواناتك. فماذا إن كان باستطاعتك تربية نسخ طبق الأصل من هذه الحيوانات؟

هذا بالضبط هو ما يطرحه الاستنساخ، أعداد كبيرة من حيوانات ذات صفات مفيدة وبتكلفة منخفضة. إذا كان حيوانك الأليف يصارع المرض فبإمكانك توليد نسخة مطابقة له جينيًا لتحيا من بعده. بالطبع يمكن تخيل مدى فائدة التقنية في إعادة بعض الحيوانات المنقرضة حديثًا أو المشارفة على الانقراض إلى الحياة الطبيعية.

ولكن إن كان الأمر كذلك فما هي فائدة استنساخ البشر؟ هل سنقوم بتوليد نسخ من البشر الذين يحملون صفات مفضلة ليسيطروا على العالم؟ ليس بالضبط. يستطيع الاستنساخ حل مشاكل محدودية الخلايا الجذعية بشكل مباشر بواسطة استنساخها كما يستطيع مواجهة مشاكل عقم الكثير من الأفراد. لكن الهدف الأصعب والأكثر مراوغة يكمن في إمكانية علاج أمراض لا علاج لها حتى الآن.

يحتاج البشر للاستنساخ عند سعيهم لإيجاد علاج الأمراض التي يعود جزء محوري منها لأسباب جينية كآلزهايمر ومرض باركنسون، والتي لم يستطع العلم إيجاد علاج لها. ما نأمل في تطبيقه هو أننا خلال الاستنساخ نحاول تغيير بعض الجينات التي نعتقد ارتباطها بهذه الأمراض ونترك المجال للفرد المستنسخ في أن ينمو ويمارس حياة طبيعية.

هل تسبب تغييرنا في منع المرض أو حتى تأخيره؟ بمعرفة ذلك وبالمزيد من التجريب يصبح لدينا فرصة في إيجاد علاج.


طفولة التقنية

بالطبع لم تنجح الأبحاث حتى الآن في استنساخ بشري، إلا أن الأسلوب الذي تم استنساخ النعجة دولي بواسطته يظل المرشح الأفضل.

تبدأ سيرة حياة دولي من قبل ميلادها بزمن. كان الاستنساخ فيما قبل دولي يتم عن طريق خلايا جنينية فقط، وهو الأمر الذي لا يعد مفيدًا بدرجة كبيرة. ما الفائدة من استنساخ جنين لا نعلم عن صفاته شيئًا؟ نحن دائمًا نريد نسخًا من كائنات نعلم صفاتها المميزة. كان الاعتقاد السائد يثق في استحالة استنساخ الخلايا الناضجة. لكن إيان ويلموت Ian Wilmut لم يوافقهم الرأي1.

لتصور وضع تقنية الاستنساخ آنذاك، كان الاستنساخ يتم عن طريق تقنية Somatic Cell Nuclear Transfer أو الاستنساخ العلاجي عن طريق نقل الأنوية التي اقترحها في عام 1938 أول عالم أجنة يفوز بجائزة نوبل، وهو هانز سبيمان. لم يتمكن سبيمان نفسه من تنفيذ تجربته المقترحة، إلا أن تطويره لعلم خلايا الأجنة أدى بشكل مباشر لنجاح استنساخ الضفادع بشكل مبدئي، ومن ثم بداية رحلة الاستنساخ.

كان نقل الأنوية يتم عن طريق خليتين، تفرغ إحداهما من نواتها بينما يتم الاحتفاظ بالنواة فقط من الأخرى. يتبع ذلك بحقن النواة في الخلية المفرغة ثم دفعها للانقسام. وبينما تتحول الخلية إلى جنين مطابق تمامًا للكائن المأخوذ منه النواة، يتم وضع الخلايا المنقسمة داخل رحم أم بديلة لينمو إلى جنين ثم يولد.

كان ويلموت في حيرة من أمره، كانت الخلايا الجنينية فقط على ما يبدو هي التي تسمح بالنمو إلى جنين. لهذا تم ضم خبرات كيث كامبل Keith Cambell للفريق الجريء. استطاع كيث بدراسته لدورة حياة الخلية Cell Cycle تحديد المراحل التي تعطي احتمالات أكبر لنجاح دمج النواة مع الخلية المفرغة. وكانت تلك هي الخطوة الأولى نحو الاستنساخ بواسطة خلايا ناضجة.


سقوط الحاجز الوهمي

في نجاح ويلموت وكامبل الأول لم تكن الخلايا ناضجة بالمعنى الحرفي، بل يجدر بنا القول إنها متمايزة Differentiated أو في طريقها لتكوين الجنين. لهذا السبب كانت تلك الخطوة الأولى. إن القاعدة التي تحصر إمكانية الاستنساخ على الخلايا الجنينية قد تم إسقاطها.

هنا ولدت النعجتان ميغان وموراغ Megan and Morag. فمن بين 34 جنينًا طبيعيًا تم نقلهم إلى رحم أمهات بديلة، ولد 5 حملان، مات منها اثنان، وثالث بعد عشرة أيام، لتتبقى ميغان ومعها موراغ، أول ثدييات يتم استنساخها من خلايا متمايزة. مثّل هذا النجاح المقدمة الأكثر أهمية للوصول إلى دولي.

كان ميلاد الحملان ضربة قاصمة لقاعدة الخلايا الجنينية، وهنا انفتح أمام ويلموت باب التجريب من أوسع أبوابه. تطلب الأمر دمج 277 نواة خلية من نعجة دورسيت فنلندي Fin-Dorsett لتولد دولي أخيرًا في فبراير من عام 1997. أول ثديي مستنسخ من خلية ناضجة كليًا في التاريخ.

بذلك ولدت دولي وتلاها الكثير من الحيوانات الأخرى. في عام 2000 نجحت عملية استنساخ أول قرد من خلايا جنينية بواسطة شطر الخلايا الجنينية إلى قسمين مما يجعل القرود الناتجة مجرد توائم. أما استنساخ الرئيسيات بنفس الطريقة التي خاضتها دولي –أي من خلايا ناضجة- فلم يكلل بالنجاح إلا الآن.

في هذه المرحلة تصبح الخطوة القادمة في متناول اليد، استنساخ عدد كبير من قردة المكاك –أو الاستمرار نحو تطوير التقنية لاستنساخ فصائل أقرب وأقرب للبشر انتهاء بالبشر أنفسهم- قد يعني إمكانية إجراء الكثير من الاختبارات والتعديلات الجينية للحصول على علاجات قادرة على حل معضلة البشرية مع آلزهايمر ومرض باركنسون وبالطبع السرطان.

هل يصبح الاستنساخ بهذه الطريقة تقنية واجبة التطوير من أجل بشرية أكثر صحة؟ أم أن الخوف سيظل هو سيد الموقف عند التعامل مع كل هذا القدر من المسئولية؟ هذا ما ستفصح عنه السنوات القريبة القادمة.

المراجع
  1. Aaron Levine- Cloning:A beginner's guide. Chapter 3